النخب الفكرية والسياسية وجوهر الحريات الفردية والجماعية :

 عفاف عمورة  | برلين 

ما زال الحوار الدائر في وقتنا الراهن بين من يجلّ الحرّية الفردية ويقدِّسها ويعتبرها الخَيار الأقوى والأجدى والذي لا رجعة فيه، وبين من ينتصر للحريات الجماعية والتي تجعله حكماً وقراراً يسلّط نفوذه وسيفه الرمزي على من يرفضه أو يخالفه ،مستنداً على القواعد التاريخية والتراثية وأحكامها ،والتي تحتاج إلى البحث والفهم والتدقيق أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وكلا الرأيين يسيران وفق نسقين مختلفين في الفكر والممارسة والتطبيق .
بين هذين المسارين جرى نقاشٌ عقلانيٌّ وواعي في العديد من بلداننا العربية التي اختلطت فيها الأفكار والمفاهيم بالعواطف، والأحداث والحراكات السياسية والأمنية بالأعراض. وبتنا نقيس ما جرى وما يجري من حوار ساخن دائري بين النخب الفكرية والنخبة المثقفة التي هي امتداد واستمرار للنخب السياسية، وهذا ما يطرح علينا العديد من التساؤلات أهمها :هل إشكالية الفرد وما يعانيه في ممارسة حقوقه الفردية والجماعية ،مرتبطة بشكلٍ أو بآخر ببنية السلطة الحاكمة ،أم بصنمية المثقف وجموده وارتهانه في زمن الحداثة أو ما بعد الحداثة؟
في حقيقة الأمر يبدو أن سؤال الحرية هو سؤالٌ بحدِّ ذاته من الأسئلة الهامّة عبر التاريخ، فكيف لنا أن نبحث عن سؤال الحرية في الفرد والجماعة، مع العلم أنَّ هذا السؤال يتجدّد مع تجدّد الوقائع والأزمنة، وفهم الحرية من الناحية الدينية أو الشرعية، يجعل الأصولي والسلفي يقف بلغةٍ فقهيةٍ أصوليةٍ وعلمية، واضعاً جملةً من الضوابطِ العديدة ظاناً انّه بهذا الفعل قد حَرَسَ المجتمع بكل تلاوينه من كل ما من شانه أن يثيرَ ما يثار، أو يقيِّد ويضع الحواجز والضوابط، وقد تاه العقل الإسلامي وفَقَدَ بعض معاييره في فترة العصر الوسيط في اشكاليات الحرية والفكر، وما نتج عنها من خروج العديد من التيارات والافكار، التي بالرغم من ما فيها أثرَت التنوع الفكري الديني الإسلامي ،وأخرجته من حالة الجمود والتقوقع المحلي إلى النبوغ العالمي ،فأصبحَ مرجِعاً إنسانياً وضع معالم للحضارةِ الإنسانية .
إنَّ القراءة المتفحّصة لبنية وصيرورة التاريخ العربي عبر سيرورته الطويلة، تدفعنا لمراجعة سؤال الحداثة في الفترة التي بدأت مع ظهور المعتزلة وما رافقها من أسسٍ عقليةٍ وضوابطَ منطقيّة، لذلك إذا ما أردنا أن نبحث نهج وفكر المعتزلة دون ربطهِ بممارسات لها بعدٌ سياسي تحتاج إلى البحث التاريخي السياسي والسسيوتاريخي في حراكهم وأفعالهم وتحالفهم السياسي آنذاك.
لم ينحصر الأمر ضمن هذا الأفق، بل تعدّاه لمن نصّبوا أنفسهم حماةَ الدين وحرّاس الشريعة، وبدأوا في ممارسة القهر الفكري والثقافي والنفسي بدعوى الخروج عن الإجماع أو(الجماعة)، لكن السؤال الهام الذي يبقى يشكِّل هاجساً للمثقف العربي الذي يرى أنّ تقديس الحرية في مجتمع عربي غير قادر أن يحسم في الدلالة المفاهيمية لها، يجعلنا نعيش حالةً من الضياع الفكري، وعدم القدرة على الخروج من قوقعة المتحكم في الفكر والثقافة والسلوك والممارسة.
إنّ الحرية بمفهومها الأشمل هي حرية تكامل وانتظام كما تفهمها الجماعة، وهي بالضبط ما يمكننا تسميته بالحقوق الجماعية التي يتعاقد عليها مع الحاكم في وثيقةٍ دستوريةٍ تم التوافق عليها من قِبَل الأغلبية المطلقة. كما أنّ الحرية الجماعية تذوب وتضمر بل تختفي إذا ما أضحت مغيّبة ومقهورة ومهمَّشة، أو تعاكس إرادة الجماهير، حينها لا نستطيع أن نناقش الحرية بشكلٍ متزنٍ وواضح،لأنّ البناء الاجتماعي تكون أساساته متينةً وقواعده راسخة ومعقدة بتشابكها، ومتداخلة قيمياً وأخلاقياً ،ومتضامنة في المجالات والسياقات العامة.
أما الحرية بمفهوم الفرد فهي الحرية التي تساءل الخصوصية الفردية وتساءل الأقلية (الإثنية)، وتساءل أيضاً كل الاشكال والحالات التي كانت ظاهرة (لحائية) أو خفية (نسغية) وأصبحت تشكّل سلوكاً وممارسات احتجاجية رافضة في مجتمع تقليدي له خصوصيته وماهيته وكينونته، أو يتسم بنوعٍ من الخصوصية المميّزة. ولأنّ الحرية الفردية مشاكسة وشرسة يصعب ترويضها بسهولةٍ ضمن القواعد القانونية والتشريعية الضابطة، وتتسم بالعمومية، ويطبِّقها بناءً على إرادة الجماعة وما تتطلبها منه، وهي التي تمثل ضمن المؤسّسات والهيئات والإدارات المسموح لها ذلك بمقتضى وثيقة التعاقد الاجتماعي في وطنٍ مستقلٍ وله سيادته على كامل وطنه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى