ما قاله الشهيد قبل أن يموت ثانيةً
خالد جمعة| فلسطين
ضحكتُ من مطرِ رصاصٍ بلا معنى، فقد قتلتني الرصاصةُ الأولى، ولم تُصِب خزّانَ ذاكرتي، فاحتفظتُ بلُغتي وذكرياتي، خفيفاً صرتُ كضوءٍ صباحيٍّ في عينِ ولد، وصارت الأشياءُ شفافةً ورأيتُ ما خفيَ من لغةٍ ومشاهد، كم هو صغير هذا العالم، ورغم ذلك كم هو محشو بالتفاصيل، وكم أنتم واهمون حين تركضون خلف أشياء رأيتُها بعد أن قُتلتُ على حقيقتها: هباء، مجرّدَ اختلافِ ألوانٍ لا أكثر، بين الجبل وورقة الشجر، بين الغناءِ والغيم، بين المسافاتِ والكلام.
رأيتُ بكاءَ أمّي بلونِه البنفسجي، ورأيتُ قلبَها كذلك، كانت روحُها طاحونةً من حجارةٍ مثلّمة، تفرمُ صدرَها وتغربلُ الألمَ لتصبَّهُ في دمعةٍ واحدةٍ مستمرّةٍ حين تكونُ وحدَها، اللونُ ذاتُهُ كان يرافقُها في الجنازةِ الكبيرة، لكنها كانت تبتسم، أجبروها على الابتسامِ كي تليقَ بكونِها أمّاً لبطل، ابتسمتُ من بطولتي التي تشبهُ وحيدَ قرنٍ وحيد ظنَّ أنّهُ سيوقفُ الأرضَ عن الدورانِ إذا قفز في الهواء ورمى ثقله على الأرضِ، كانَ مسكيناً وكنتُ كذلك، لم تعجبني صورتي على الجدران، كنتُ أفضِّلُ تلكَ التي بالأزرق، وأنا أحضنُ القطّةَ السمينةَ التي ربّيتُها منذ كانت عمياء.
رأيتُ خطاباً طويلاً جوارَ القبرِ المعدّ، بلونٍ باهتٍ كأنَ شمساً أكَلَتهُ مئةَ سنةٍ فلم يعد أحدٌ قادراً على تمييز أصلِهِ حتى أنا وقد صارَ عالمي ألواناً، نظرتُ إلى قلبِ الخطيبِ محاولاً فهمَ ما يقول، وهناكَ كان الشهداءُ مكوّمين في صناديقَ بالجملةِ، لم يكن يميز أحدهم عن الآخر، وهذا مقتلٌ آخر للشهيدِ، رأيتُ أفكارَهُ بيضاء تنتظرُ انتهاءَ التأبين كي تدركَ موعداً على العشاء.
حين انتهت المراسمُ صرتُ أكثر حريّةً، طفتُ العالمَ مرتين، لا أجنحةَ لي، لكني صرتُ فكرةً، والفكرةُ لا تحتاجُ الأجنحة ـ هذا ما كنتُ أظنّهُ حين كنت على قيد الحياة ـ صرتُ أرى الموتَ بلونِهِ المخملي الأحمر، وصرتُ أعرفُ أين يذهب، ومن هو القادم إلى عالمنا، لكن قدرتي على التواصل مع الأحياء لم تعد موجودةً، فتركتُ جسدي في بيتِهِ الجديد، وطفتُ، طفتُ، طفتُ، حتى لم يعد هناكَ ما يمكن معرفته.
قدرتنا نحن الشهداء على الطواف، لم تكن فقط قدرةً تخصُّ الأمكنة، بل والأزمنة كذلك، كم كنت سعيداً وأنا أجتازُ الأزمنة كما كنتُ أجتازُ الشوراعَ من قبل، رأيتُني طفلاً، ورأيتُ أبي طفلاً، ورأيتُ الحكاياتِ كلها، والحروبَ كلها، وقصص الحب والفتوحات، رأيتُ الخيانات والمؤامرات والحضارات وهي تقوم وتنهارُ كبداية لعبة ونهايتها، يا الله كم هو ضيّقٌ هذا الزمن لو تعرفون، إنه كالكون تماماً، صغيرٌ كدمعة.
في الشارع الخلفي للوقت، كانت هناك حقائق الناس، غربلة تامة لما يبطنون، تركت هذا الشارع سريعاً لأني لم أرغب في المعرفة، أحببت أن تظل صورهم في رأسي كما هي، بشر لطيفون، ومليئون بالحياة، لكن دهشتي ـ نعم دهشتي، فلا تدهشوا من كون الشهداء يدهشون ـ أنني رأيتُ أعداداً هائلةً قد ماتت لكنّها ما زالت هناك، بينكم، أحدهم ألقى خطاباً على قبري، وحين بحثت عن أرواحهم لم أجدها في عالمنا، ولم أعرف أين تذهب مثل هذه الأرواح، فلا بد أن هناك عالماً آخر، غير عالمنا بالطبع، وعالمكم أنتم.
هنا، أجمل ما في هذا العالم، هم الأطفال الذين أتوا قبل أن يدركوا ما يحدث على الأرض، يبدو شعاع الضوء ثقيلاً إذا ما قورن بهم، يسبحونَ في النورِ كابتسامةٍ لا تنتهي، لا لونَ لهم، شفافون يمرُّ الكلامُ من خلالِهم ليكتسبَ المعنى.
الآن، ولم يمض عليّ الكثير في هذه الحال، بدأتُ أفقدُ خفتي، وأعرفُ أنني سأموت مرةً أخرى إلى الأبد، الميتةُ الثانيةُ هي ميتةٌ نهائيةٌ لا رجعةَ فيها، وتحدثُ دائماً حينَ نُنسى، وجدتُني أخرجُ من الذاكرات التي عَرِفتني، أضمرُ وأتلاشى، حتى لم يعد اسمي يخطر لأحد، وكلما اختفيت من ذاكرة، قلّت قدرتي على اجتياح الغيب، وهزلت عضلات روحي إلى حدٍّ لم تعد معه قادرة على حمل شعاع ضوء، لم يبق لي الكثير، وبما تبقى لي من قوةٍ سأذكركم، سأذكر ألوانكم لأجعلها أكثر بهجةً، وصدقوني، لست حزيناً، فلديكم من الشهداء غيري ما تفيضُ به مليون مليون ذاكرة.