وجهة النظر
الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين
مصطلح (وجهة النظر/ point of view)، والمنظور (perspective) مقتبسان من الفن التشكيلي: ففي الرسم والتصوير، يُرصد الفضاء من نقطة معينة؛ يقف فيها الفنان أو الكاميرا.
وبناءً على موقع هذه النقطة، والمسافة التي تفصلها عن العالم المُصَوَّرِ، يتم تثبيت اللحظة الزمنية، فتتحول من متحرك زائل إلى ثابت دائم.
وجهة النظر إذن هي طريقة للقول بثبات العالم. أو هي بعض طرائق الإنسان في تخليد الزائل.
ومن الطبيعي أن نلاحظ أنه خلود موهوم، لا يحيا إلا في الصورة أو اللوحة أو عقل صاحب وجهة النظر.
وعلى هذا يمكن القول إن وجهة النظر هي نوع من الوعي الزائف للعالم، أي: أيديولوجيا.
ربما يصعب على المتلقين تصور هذا، لكن عرضاً أكثر تمثيلاً، في منشورات قادمة، ربما يمكنه أن يصل إلى المهتمين بالتفكير.
وتشترك السينما ــ بوصفها فناً بصرياً ــ مع الفنون التشكيلية، في الاهتمام بوجهة النظر؛ إذ يستخدم السينمائيون مصطلحاً مرادفاً باسم الزاوية (angle) للإشارة إلى موقع الكاميرا، خلال تصويرها للمشهد، أو تركيزها على بعض الموجودات المادية، أو الملامح الإنسانية، باعتبار ذلك من أدق الوسائل لتفسير الوقائع في الفيلم السينمائي، أو إعطاء هذه الوقائع دلالاتها. وقل مثل ذلك في التلفزيون والفيديو وما شابه.
ولقد علمت كم يحقد مصورٌ تلفزيوني على مقدم برنامج شهير، كان يعرضه التلفزيون الفلسطيني، في حقبة الرئيس عرفات ـ رحمه الله ـ من طريقة عرض المصور لوجه الرجل في أشد لحظات ضعفه البشري.
كان وجه مقدم البرنامج قاسياً، يتجلى ذلك أوضح ما يكون حين يختلف مع ضيفه…فماذا كان يفعل المصور وراء الكاميرا؟
كان ينتظر لحظة يبدو فيها وجه مقدم البرنامج في أشد حالات قسوته، فيركز عين الكاميرا على الغافل المسكين، فيقرب الوجه بطريقة أقرب إلى الزوم، فيظهر فك الرجل محدداً، وتبدو عيناه شديدتي القسوة.
كانت الكاميرا عدواً لأيديولوجيا السلطة، التي يعرضها الرجل بمهنية تعود عليها، فتبرز وجه الرجل والسلطة التي يمثلها بما يشفي غليل كارهيه أو حاسديه.. لقد كان محاوراً فذاً، لكنه امتلك مصورا ابن حرام
وقد استعار الباحثون في السرديات (القصة والرواية) هذا المصطلح، واستخدموه في تحليل الخطاب السردي: إذ لاحظوا أنه ما من سرد إلا ووراءه راوٍ (narrator) يحرك خيوطه، ويخلق أشخاصه، ويمنحهم عواطفهم، ويدير صراعاتهم.. إلخ
وللراوي في السرد إمكانات لامتناهية في عرض موضوعه، فهو لا يكون خارجياً دوماً، ولا داخلياً دوماً، ولا يمزج بين الموقعين دوماً، ولا يركز على موقع دون آخر دوماً، ولا يتدخل في السرد دوماً، ولا يتخلى عنه دوماً… بل يمكنه أن يمازج بين كل هذه التقنيات أو بعضها بطريقة مختلفة في كل مشهد.
وبما أن النقد والسرد موضة في كثير من الأحيان، فقد شاعت في عقود سابقة نظرية تقول بأن على الراوي أن يكون خارجياً محايداً، ينظر إلى ما يسرد دون انحياز. وذلك اقتراح مهزول، أضرّ بالسرد والنقد كليهما، إذ سيطر من خلاله النقد على حركة الإبداع، فانخدع مبدعون صغار، فكتبوا كما يقترح النقاد، فماتوا ومات أدبهم.
ومثل ذلك حدث في السينما حين رأينا ممثلين لا علاقة لهم بالشخصيات، مثل زكي فطين عبد الوهاب، ومخرجين يشبهونهم أضرّوا بالسينما، لهاثاً وراء الموضة مثل يوسف شاهين. فكانوا خارجيين فعلا لا علاقة لهم بالعالم المعروض.
في الفلسفة كذلك ظهر مصطلح وجهة النظر. ألم أقل إنها رؤية أيديولوجية؟
ووجهة النظر عند الفلاسفة المحدثين، تعني نسبية المدركات.
والنسبية مصطلح فلسفي، استُعمل للإشارة إلى ما يحدث، حين يكون للمُدرَك أكثر من وصف، بحسب زاوية رؤيةِ كُلٍّ.
أما إن أحب بعضهم تعميم ذلك على كل المدرَكات، فقد جانب الصواب، لأن ثمة مدرَكات تتوحد فيها الأوصاف، مهما اختلفت وجهات النظر، كشروق الشمس مثلاً.
ولقد تطرف بعضهم في تعميم المصطلح، حت صرنا لا نعرف إن كان المتكلم يحب زوجته، أم هو مجرد متعايش معها.
حتى آيات القرآن الواضحة، كحد السرقة وأكل الخنزير، صار يُفَهم ـ لدى بعض أوغاد ذراري المسلمين ـ على أنه وجهة نظر
لقد شاعت النسبية بفضل عشق نيتشه الشكاك الأكبر لها، فتداولها أناس لم يسمعوا بنيتشه، وصاروا يرددونها كلما قيل لهم ما لا يفقهون، على طريقة أوغاد مثلهم يقولون لك، كلما قلت شيئاً لا يستطيعون مناقشته: “لا تعمم”.
إن النسبية المطروحة اليوم لدى الأوغاد تعني تعدد المعاني إلى ما لا نهاية
ولا شك أن القول بلانهائية المعنى، تعني في نهاية المطاف: أن لا معنى.
في الفلسفة كثيراً ما عبر الناس عن وجهة النظر الراسخة لكلٍّ بالنَّزْعَة (Tendency):
والنزعة: اتجاه أصيل داخل الإنسان، يتداخل فيه الفطري الطبيعي، مع الموروث الجيني في أعماق الإنسان المجهولة.
فما أميل إليه أنا، هو غير ما تميل إليه أنت. هكذا خُلقنا.
ويتم التعبير عن ظاهرة فكرية ما بالنزعة، عندما توغل في استقلالها عن المحيط، وتهمل كل الحلول الوسط، من البيئة الخارجية.
بمعنى أنها تهمل وجهات النظر الأخرى.
النزعة أيها السادة هي نوع من التطرف في الذهاب إلى آخر احتمالات الأشياء.
فالخوارج مثلاً لديهم نزعة تكفير المسلمين والرفق بالكافرين، وكذلك الإخوان، من السهل أن يكفروا الآخرين، من نفس الدين.
والماركسيون لديهم نزعة تعالٍ، تنطلق من تصور مسبق بأنهم علميون، وما هم سوى مرددين لما أرهق وعيهم من مقولات لم يفقهوها، درسوها على أيدي بعض الغاضبين.
أما الفيسبوكيون فلديهم نزعة عدم احترام الآخرين، وهذا ناتج عن عدم رؤيتهم لمن يحاورونه، فهم يتصورونه أقل منهم، حتى لو كانوا هم صغاراً جداً. وأجزم أنهم لا يجرؤون على مواجهة من يحاورونه خارج العالم الافتراضي.
قلت هذا في شرح النزعة، تمهيداً لعرض النزعة المنظورية عند نيتشه
النزعة المنظورية (Perspective tendency):
قلنا إن النزعة: اتجاه أصيل داخل الإنسان، يتداخل فيه الفطري الطبيعي، مع الموروث الجيني في أعماق الإنسان المجهولة.
والنزعة ـ وفق هذا المعنى ـ هي وجهة نظر، لكنها وجهة نظر تلغي كل وجهات النظر الأخرى، وتعتبرها باطلة لا نصيب لها من الواقع.
يمكن تسمية النزعة من هذا الجانب نزعة منظورية، أي أنها نزعة تلغي المنظورات الأخرى.
كيف؟
ترى النزعة المنظورية إلى وجهات النظر الأخرى باعتبارها وجهات نظر فحسب، وهي بهذا تعبر فقط عن جانب من صورة الواقع، لا الواقع نفسه.
النزعة المنظورية ـ وفق هذا التوضيح ـ تعتبر كل وجهة نظر أخرى وعياً زائفاً، وهي التي تمتلك الوعي الحقيقي. والوعي الحقيقي لدى كل الماديين هو ما يتوافق مع الواقع.
ها نحن عدنا إلى منطلقات الفلسفة البراغماتية.
نيتشه هو أكبر مثال للنزعة المنظورية، إذ يرى أن الحضارة البشرية ضلت وهي مهددة بالزوال نتيجة سيطرة وعيها على غرائزها.
يقول نيتشه إن الوعي البشري هو آخر مراحل التطور لدى الإنسان، وأحدثها عهداً. وأن هذا الوعي أنتجته عدة عوامل كانت مهمتها تدجين الإنسان لصالح الكنيسة.
الإنسان العظيم (السوبرمان) كان مسيطراً على الكون، بقوته وذكائه الغريزي، سيطر بهما على الأشياء، وعاش عصر الحرية قبل ظهور رجال الدين.
فلما ظهر رجال الدين ورغبوا في السيطرة عليه، اخترعوا له الدين المسيحي، الذي يأمره بالاستسلام باسم التسامح، وذلك ليسيطروا عليه باسم قوة عظمى سمتها الكنيسة الله.
هكذا فقد “الشقر الصلاب” غرائز تفوقهم، أولئك “السادة” الذين دمروا أعظم إمبراطورية شهدها الإنسان، دفاعاً عن حريتهم.
وكان نيتشه يشير بهذا إلى إبادة قبائل الجيرمان للجيش الروماني في معركة فاروس عام 9 للميلاد، تلك المعركة التي أجبرت روما على التخلي عن كل أمل في بسط سيطرتها على هذا الإنسان السيد الأعلى.
فماذا فعلت روما؟
اخترعت الدين المسيحي، وعلمت به هؤلاء “السادة” المنتصرين أن ينحنوا بذل أمام رجال الدولة المهزومين.
هكذا بدأ الوعي البشري يشكل خطراً على بقاء الإنسان.
لاحظوا ان فلسفة نيتشه تعتبر الحرية هي الحياة، وتعتبر العبودية فناءً
ولاحظوا أن هذا هو سر إعجاب نيتشه بالدين الإسلامي، كونه دين القوة في نظره.
وفي النصوص السردية تتخفى وجهة النظر لدى الكاتب وراء مستويين:
الأول: المستوى الأيديولوجي: وهو الذي نرى منه إلى رأي الراوي فيما يقص.
والثاني: المستوى الشكلي: وهو الذي يرصد منه الراوي ما يرى فيقص.
وسأتكلم اليوم عن بعض هيئات الراوي على المستوى الأيديولوجي:
في قصة «خرّافية سرايا بنت الغول» لإميل حبيبي، نرى الفتاة «إيناس» ابنة خالة الراوي، “تدخل من باب الديوان دخول العاصفة، وتتسمر في وسط الديوان بقامتها الفارعة، تنفض من فوقها رأساً قصت شعره «شليشاً» وتتخنصر لنا أجمعين… فأحبس في صدري ضحكة هستيرية… وينفجر بركان الضحك في صدري” (الرواية. ط1. رياض الريس للكتب والنشر. لندن ـ قبرص. 1992. ص143 ــ 144).
لا شك أننا نلاحظ الآن أن الراوي (ومن ورائه المؤلف الضمني: إميل حبيبي النص) يقف منها موقف التعاطف، حيث يُبرز فشل العائلة في مواجهة هذا التحدي بخرق التقاليد، فتنتصر «إيناس» في تحديها، ويفرح الراوي إلى درجة لا يستطيع معها حبس ضحكاته الهستيرية.
لكننا سرعان ما نكتشف أن هذا «الزعيم الشيوعي» الذي يناصر قضايا تحرير المرأة لسانياً، سرعان ما يتكشف عن شخص محافظ، يتناقض مع أطروحاته السياسية: فلا مانع لديه من قص إيناس لشعرها على هيئة «شليش» ولكن هناك العائلة المحافظة المتماسكة، التي لا بد من اجتماعها، وتقبلها الأمر، ولو مرغمة عند هذا الحد.
لقد شجع إميل النص الفتاة على قص شعرها «شليشاً» توافقاً مع مبدئه المعلن بحرية المرأة في جسدها وتصرفها.
والسؤال هو: ماذا لو قررت إيناس أن تحضر صديقها الــ(Boy frend) إلى البيت؟. بل ماذا لو كان لها (Boy frend) من أصله؟
إن هذا التحدي الحقيقي، الذي يطرحه كل من منطق التعايش ــ الذي يدعو إلية إميل حبيبي مع المجتمع اليهودي ــ ومنطق حرية المرأة، وفق المفهوم الذي تروجه الأحزاب الشيوعية عموماً، لم يطرحه المؤلف المدني إميل حبيبي، ولم يطرحه أي كاتب عربي، على حد علمنا، ولم نر أيّاً منهم يتحدث عن خروج «أخته» عن منظومة القيم السائدة، إلى درجة امتحانه بإحضارها صديقها إلى البيت!.
وهذا راجع إلى الحراسة المشددة، التي يمارسها «حارس القيم» داخلهم.
إنهم يريدون لمبادئهم أن تعيش خارج بيوتهم، بالضبط كما يحبون أن يموت أولاد غيرهم في سبيل الوطن.
وجهة النظر على المستوى الشكلي:
ونقصد بها رصد الأسلوب الذي يحكم تحولات الراوي على المستوى اللغوي الشكلي:
لقد اقتضت أعراف القص أن الذي يروي القصة، إنما يقص على القارئ ما يرغب في عرضه عليه من الأحداث والآراء والشخصيات.
فحين يطالع القارئ النصَّ السردي، فإنه لا يكون لديه إدراك مباشر للأحداث؛ لأنه يرى الأحداث من خلال رؤية الراوي لها؛ هذه الرؤية التي لها ارتباط بما يحيط به علم الراوي، مقارناً بشخصيات الرواية. لذا فقد اقترح الناقد الفرنسي جاك بويون تصنيفاً لوجهة النظر، مقسماً إلى ثلاثة أقسام: الرؤية الخلفية، الرؤية المحايثة، الرؤية الخارجية.
1: الرؤية الخلفية: الراوي أكبر من الشخصية:
وفي هذه الحالة يعرف الراوي أكثر مما تعرف الشخصية. بل أكثر مما تعلم أية شخصية. وهذه الحالة هي ما يطلقون عليها مصطلح الراوي العليم، حيث لا يهم الراوي أن يفسر كيفية حصوله على هذه المعرفة الواسعة، فهو يرى عبر جدران البيت، كما يرى عبر جمجمة بطله، ويحلل الأقوال الأيديولوجية من منظوره هو.
2: الرؤية المحايثة: الراوي يساوي الشخصية:
وفي هذه الحالة تتطابق معرفة الراوي مع معرفة الشخصية؛ فهو لا يقول إلا ما تعرفه هذه الشخصية. وفي هذه الحالة، لا يمكن للراوي أن يقدم لنا تفسيراً للأحداث، قبل أن تجده الشخصية ذاتها. ولا يقدم لنا التحليلات الأيديولوجية إلا من خلال وعيها الخاص.
3: الرؤية الخارجية: الراوي أصغر من الشخصية:
وفي هذه الحالة يعرف الراوي أقل مما تعرفه أي واحدة من الشخصيات. وهذه الحالة هي التي يطلقون عليها مصطلح الرؤية من الخارج، حيث لا يستطيع الراوي أن يصف لنا سوى ما تراه أو تسمعه. وفي هذه الحالة تغيب التحليلات الأيديولوجية لدى كل من الراوي والشخصيات.
وقد حاولت مدارس مستحدثة من النقد الحديث، توجيه رواية الكاتبين ليكتبوا بهذه الطريقة، لكنها لم تنجح كثيراً، فتدخل النقد في عملية الإبداع فأفسد من أطاعه من المبدعين، وفسد هو بذاته في تقديم نظرية سردية ناجحة.
تحولات الراوي على المستوى الشكلي:
الراوي العليم:
في رواية أرض السواد، نلاحظ أن عبد الرحمن منيف يستخدم تقنية الراوي العليم، الذي يعرف دواخل الشخصيات وخارجها، ويحيط بالموجودات وما وراءها. أنظر إليه كيف يتغلغل داخل وعي الشخصية الرئيسية داود، ويسمع حديث نفسها في هذا المقطع:
“قال داود لنفسه بعد أن توالت الأخبار عن قاسم، ثم تأكدت: هؤلاء البدو يعرفون شيئاً واحداً، وقد أتقنوه لفرط ما أدمنوا عليه: إشغال الدولة. إنهم لا يعرفون الحرب، صحيح أنهم يقاتلون، لكنهم لا يستطيعون التمييز بين النصر والهزيمة، وربما لا تعنيهم هذه القضية. فقط يريدون خصماً، حتى لو كان وهماً، كي يحاربوه. وبهذه الطريقة يشعرون بوجودهم وأهميتهم. أما إذا غاب الخصم فعندئذ يأكلون أنفسهم إلى أن يتلاشوا، ويبدو أنهم لا يريدون التلاشي، على الأقل الآن” (أرض السواد. ج1. ص114).
إننا نلاحظ هذا الراوي المتعالي، وقد أحاط بشخصية داود، في إدراكها ووعيها. فهو الذي أراها. وهو الذي سبر غورها وعرف ما بداخلها. ثم إنه هو الذي حملها هذه المفاهيم الأيديولوجية، عن البدو وطريقتهم في التعامل مع الدولة.
تحولات الراوي على المستوى الشكلي:
الراوي المحايث:
قلنا إن عبد الرحمن منيف في (أرض السواد) يستخدم تقنية الراوي العليم. لكننا نراه في أحيان غير قليلة، يحاول أن يحدّ من هذه المعرفة الكلية عند راويه، مستخدماً تقنية الرؤية المحايثة، حيث لا يري الراوي إلا ما تنقله له روايات الآخرين.
فلننظر إليه ينقل عن الشخصيات في المقطع التالي:
“إذا لم يكن الأمر هكذا، فما هو إذن سبب تأخر زيارة القنصل للسراي، أو عدم استقبال الباشا للقنصل؟ كان هذا السؤال يتردد على كل شفة ولسان، وكان به يبدأ أي حديث، ثم يتشعب الحديث ولا ينتهي.
الذين يبغضون القنصل، ويتخوفون منه، يقولون بعبارات جازمة إن القنصل، ومنذ اليوم الأول، طلب مقابلة الباشا، لكن الباشا رد بصوت عال: لدينا الآن أمور كثيرة هامة، لا تحتمل التأجيل، وبعد أن تنتهي سيأتي وقت القناصل!
الذين يميلون إلى تصديق مثل هذا الكلام يضيفون تفاصيل أخرى، ويؤكدون أن داود باشا يختلف كثيراً عن الولاة الذين سبقوه، ولا بد أن يشعر القناصل بذلك، ولعل أول إشارة أن يؤخر استقبالهم!
أما الذين يحسبون كل حركة ويقدرون كل تصرف، فيقولون إن الباشا مستاء من القنصل لأنه آوى كل أعدائه في الباليوز، وقدم السلاح والعون إلى سعيد ورجاله، وحين أدرك أن لا جدوى، وأن داود باشا هو الأقوى، ولا بد أن ينتصر، فقد تراجع وشعر بالخيبة، لذلك لا يقوى على مقابلة الباشا قبل أن تمر فترة طويلة، وإلى أن يهدأ غضب الباشا أو حين ينسى.
الذين لا يعتبرون أن الأمور وصلت إلى هذا الحد، يقولون إن مشاغل الباشا وحدها هي التي تمنع استقبال القنصل.
وهناك من يقولون، وهؤلاء تسيطر عليهم مشاعر الخوف، إن القنصل ذاته هو الذي يؤجل زيارة الباشا في السراي، فقد كان عليه أن يبادر، وخلال الأيام الأولى، إلى القيام بهذه الزيارة، على الأقل للتهنئة، خاصة وأنه تغيب تماماً عن الاستقبال، لكنه لم يفعل، وهذا شيء مقصود وله ما بعده” (أرض السواد. ج1. ص94 ــ 95)
فالراوي هنا لا يعرف كل شيء: إنه يعرف فقط ما تقوله الشخصيات وينقل عنها، وإن كان له من تدخل فهو تنسيق هذه الأقوال وإجمالها ثم عرضها. وهذا مقطع آخر يمثل على هذه الرؤية المحايثة:
“أخبار الحفلة التي أقامها الآغا غادرت جدران القلعة في ذات الليلة، وتكاثرت في الليالي اللاحقة. أما التفاصيل فقد انتشرت في طول بغداد وعرضها، وكانت، وهي تنتقل من مكان إلى آخر، تزيد وتتغير، كما أصبح الناس لا يملون من الحديث عنها في النهار والليل.
كان الحديث يختلف من واحد لآخر، لاعتبارات وأسباب لا حصر لها. فحديث النساء يختلف عن الذي ينقله الرجال. ويختلف حديث رجال السراي عن ذاك الذي يجري في المقاهي والأسواق. ويختلف أيضاً عن حديث مبغضي الآغا، أو حديث الذين يقدرونه.
رجال الدين حين وصلتهم التفاصيل: الشراب الذي أريق؛ عري النساء؛ الرقص والغناء؛ ثم كيف أطفئت الأنوار وعم الظلام واختلط الرجال بالنساء… عندما سمع رجال الدين هذا الكلام فتحوا أعينهم على اتساعها، وسألوا مرة أخرى، ومرة ثالثة، ودققوا بأصغر التفاصيل وأكثرها خفاء. كانوا يسألون وهم يبلعون اللعاب الذي تزايد في حلوقهم، وبعد أن ألموا بكل ما أرادوا معرفته، صاحوا: الله أكبر.. الله أكبر.. يا غيرة الدين ويا عار الجبين. إنه الكفر الصراح والفجور الذي لا يباح. لقد ظهرت الإشارة وقرب قيام الساعة. كل امرأة من اللواتي حضرن ليلة الفجور، وجاءها غلام بعد تسعة شهور، فهو ابن سفاح، وواحد من هؤلاء الأطفال سيكون الأعور الدجال.
أكثر من ذلك، اجتمع رجال الدين وقرروا مراجعة الباشا، ومطالبته أن يوقع حد الزنا بالذين حضروا” (أرض السواد. ج1. ص371 ــ 372).
لعل القارئين يلاحظون الرؤية الأيديولوجية في المقطع الأخير، حين يتحول الراوي إلى ناقل ساخر من عبارات رجال الدين. وتلك لعمري هي أيديولوجيا المؤلف نفسه.
تحولات الراوي على المستوى الأيديولوجي:
سنرى الآن إلى سطور لقاصة فلسطينية بعنوان: (مغامرة في قميص الليل):
تروي لنا القصة حكاية امرأة متوحدة، في غرفة متوحدة، في مدينة محاصرة بالاحتلال والقصف والاجتياح. المرأة تتوق إلى الخروج من الغرفة المعتمة، إلى الشارع المزدحم بجنود يمنعون التجوال، لتلتقي عاشقها المنتظر، في حديقة عامة. تخرج المرأة تحت أزيز الرصاص، وتراقب العيون خروجها العجيب من وراء فتحات النوافذ المواربة، وتظل تجري حتى ترتمي بين ذراعي عاشقها، أمام عيون الجنود المشدوهين.
الزمن المحكي هو لحظة من لحظات الاجتياح الإسرائيلي الأخير لغزة. والراوي هو الراوي العليم الذي يسرد بضمير الغائب، فيرى كل الموجودات الحسية والمجردة ويفسرها. وهذا الراوي العليم امرأة، تسرد من وعي امرأة أخرى هي العاشقة، رغم أنه يتحدث عنها بصيغة الغائب (هي).
يقول جان بيلمان نويل: “إن الأدب لا يحدثنا فقط عن الآخرين، بل عن الآخر فينا”.
يمكن القول بأن الراوية هنا تتقمص شخصية امرأة تتكلم عن (الآخر) ـ فيها وفينا ـ على مستويين:
المستوى الأول هو مستوى البوح: أي أنها تروي لنا قصة الأخرى (التي بداخلها) حين تعرض علينا ثورة امرأة، تجتاح المألوف والخطر معاً، لتلتقي المحبوب تحت أزيز الرصاص، وفي عز منع التجوال.
المستوى الثاني هو مستوى اللاشعور (unconsciousness): حيث نرى شخصاً يتحدث عن قاهره بإعجاب يزيح ظاهر الكلام إلى العتمة، ويضع مضمره في بؤرة الضوء.
في المستوى الأول، نرى الراوية ترصد استعداد العاشقة للخروج الخطر، بقولها:
“اختارت فستاناً أسود، ارتدته، ولفت حول خصرها شريطاً فسفورياً لامعاً. وقبل أن تغادر الغرفة، نظرت إلى وجهها في المرآة، ابتسمت كأنها تبتسم لوجه آخر، وقالت في نفسها: لتكن أسطورة أو فضيحة عندهم” (ص81).
يمكن لنا رؤية مدى تعاطف الراوية مع الشخصية، حين نتأمل كم جعلت شخصيتها الورقية المصنوعة جريئة متحدية هاتكة للمستور. ليست الشخصية الورقية فقط من تقول: (لتكن أسطورة أو فضيحة عندهم) بل إن الراوية هي من يقول ذلك، ومن ورائها المؤلف الضمني.
فلنتأمل المقطعين الآتيين:
المقطع الأول:
“توزعت الدبابات في الشوارع، وتفرق الجنود بحذر. بعضهم في الطوابق الأخيرة من العمارات، مصوبين قناصتهم، والآخرون انتشروا كالعسس الغليلة تحت شرفات البيوت، وعند العتبات، وأمام المحال والدكاكين، في كل مكان. بعد دقائق علا صوت معرّب من مكبر الصوت، يأمر بمنع التجول: أي كائن ـ وإن حشرة ـ سيتم قتلها، إذا ما تحركت في الشارع” (ص82).
المقطع الثاني:
“حين وصلت المرأة الحديقة، كان ينتظرها هناك. سحبها الرجل من ذراعها وضمها إلى صدره بعنف، حتى سمعا صوت احتكاك عظام قفصيهما. رفع رأسها إلى وجهه بكفيه، ومص شفتيها، بينما كانت الدبابات قد سورت الحديقة. أما الجنود فقد وقفوا عند المدخل مشدوهين، مذهولين، أمام المنظر الجميل، كأنهم تحولوا إلى أصنام. الجنود والدبابات والرصاص والانفجارات، وكل شيء توقف. وأطبق صمت لعين يرفرف، وكأن سحراً هائلاً اجتاحهم وسيطر عليهم. تعلقت عيون الجنود بالعاشقَين. كانا يتعانقان بصمت هائج. وحين ابتعدا عن بعضهما، نزل من كان ماكثاً في دبابته، وتكاثر عدد الجنود حول المرأة والرجل، وبقيت عيونهم معلقة بهما. وكلما ازدادت المسافة بينهما ـ الرجل والمرأة ـ كلما تلألأت العيون راجية بأن يعودا لبعضهما” (ص83).
ربما يبدو تحليل وجهة النظر الأيديولوجية هنا غامضاً للوهلة الأولى. لكن الصحيح غير ذلك بالمرة.
ففي المقطع الأول نرى الجنود الإسرائيليين وحوشاً، تستحق أقصى درجات الاحتقار. إنها تقتل كل من يعصي أوامرها، حتى لو كان مجرد حشرة!. القتل هنا هو الصفة الغالبة والظاهرة، في تصرف جنود الاحتلال. فمن هو الذي يقول هذا؟.
أما في المقطع الثاني، فنرى نفس هؤلاء الجنود، بشراً متحضرين راقين، يحبون حب الناس لبعضهم، ويقدرون ـ بدرجة كبيرة ـ علاقات العشق الإنساني الجميل؛ حتى وهي تتحدى الأوامر العسكرية. بل إنهم يتمنون لو استمر هذا التحدي الجميل لأوامرهم!. فمن هو الذي يقول هذا؟.
نلاحظ ها هنا التناقض الرهيب بين محتويي المقطعين، خصوصاً وأنهما من إنشاء نفس الشخص. فما الذي يجعل هذا التناقض مسيطراً؟ إنه الإصرار على وجود مركز. إن التحليل التقليدي يفترض هذا المركز، يوجب أن يتواءم كل مقول مع مفترضاته الأولية. يقول المركز أن الراوية الفلسطينية تكره ـ بالضرورة ـ الجندي الإسرائيلي، ولا تراه إلا وحشاً. ومن هنا فإن نشوء خطابٍ من نوع ما ورد في المقطع الأول، سوف يكون غير ذي معنى، من وجهة نظر هذا المركز.
سنحاول الآن تفكيك شفرات ما تقول الراوية، حين نعمد إلى تفسير نصوصها. وما تقوله الراوية ليس دائماً خارجاً من الشعور، بل إنه ربما يقارب اللاشعور أكثر.
إن كل هذا الوصف الإنساني من الراوية، لحال الجنود (الأعداء)، ينم عن كثير من الإعجاب: إعجاب المقهور بالقاهر، إعجاب الثقافة المهزومة بالثقافة المتسيدة. لم يستفد الفلسطينيون من الاحتلال القهر والموت والاستيطان فحسب، بل تعلموا منهم كذلك كيف يمارسون قدراً أكبر من حرية التعبير، والديموقراطية البرلمانية، والإعجاب بالنموذج الغربي، الذي تمثله إسرائيل في المنطقة. الراوية تحاول القول، في خطابها الظاهر في المقطع الأول، أنها تكره اليهود بسبب الاحتلال. لكنها تعود لتقول في المقطع الثاني ـ بمنطق أقوى وكلمات أكثر ـ إنها ترى فيهم إنسانية من نوع يستحق الإعجاب.
لدينا هنا مؤلفان للنص:
أحدهما هو المجتمع. وهذا المجتمع هو الذي قول الراوية في مقطعها الأول. إنه المجتمع، لا بما هو قاهر حسي للمؤلف، بل بما يفرضه من مواضعات اجتماعية وطنية، تفرض على كل فلسطيني ـ يكتب عن الإسرائيليين ـ أدواتها ولغتها الخاصتين. هنا نحن ننطلق من تحليل الشعور.
أما المؤلف الثاني فهو لاشعور المؤلف، ما يتوق إليه ويقذفه في بركة اللاشعور القذرة، رغبة في إرضاء الشعور الذي هو ربيب المجتمع. وهذا اللاشعور هو الذي يقول المقطع الثاني.
كلنا تلك الراوية: نكره الإسرائيليين ونعجب بهم في آن. هذا بعض ما يقوله هذا النص المتميز.