رجــاء.. قصة قصيرة
عصري فياض | فلسطين
1
الزواج والإصابة
قرية عرانه التي تبعد عن جنين عدة كيلومترات شمالا،قرية من الريف الفلسطيني الذي يكتحل بالأزهار والجمال، ليس بمظاهر الطبيعة فقط، بل بأطفاله وناسه وطيبته، رجاء طفلة من هؤلاء، ما أن وصل عمرها سن الرابعة عشرة، حتى جاء الخطاب والطلاب من كل مكان،عمر الغول ابن الاثنين وعشرين عاما، كان نصيبها الذي قادها معه إلى مسقط رأسه في مخيم جنين في الشهر الخامس من العام 1986، وهناك فتحت شباكها لأول مرة على مسكنها الدائم في المخيم والذي يحمل لها محطات مثيرة من الحياة..
عام ونصف عاشتها رجاء في بيت الزوجية في فرح وسعادة وأمل في المستقبل،حتى دخلت الانتفاضة الأولى ــ انتفاضة الحجارــ،فأخذت المواجهات والإحداث تختزن في وعيها الذي يكبر يوما بعد يوم،وعند نهاية العام الأول من الانتفاضة، كان زوجها الذي ينتمي لأحد فصائل المقاومة، قد شرع بنشاطات في هذا المجال، كانت تلمس عن قرب تأخره ليلا ومشاركته في المواجهات،وإغاثة الجرحى والمحتاجين، توزيع المنشورات، والكتابة على جدران المخيم، حتى صيف العام الثاني من تلك الانتفاضة،فجاء ذلك اليوم الذي دخلت فيه قوات كبيرة من الاحتلال في شهر أيلول من العام 1988،وأعلنت منعا مشددا للتجول، وقامت بأخلاء بيتي المعتقلين زياد العامر ونضال أبو غليون إذانا في تفجيرهما، لاتهامهما بقتل متعاونة مع الاحتلال،كان يوما عصيبا،فبعد إخلاء البيتين الكبيرين وما جاورهما من البيوت بقسوة وشدة، تعمدت قوات الاحتلال بوضع كميات مبالغ فيها من المتفجرات الخاصة بالهدم، بغية إحداث عقاب جماعي،فعلا هذا ما حدث،فعند تفجير البيت الأول وهو بيت الأسير زياد العامر، والذي طار سقفه عشرات الأمتار في الهواء،ودمر عصف الانفجار عدد من البيوت حوله، ونال التفجير من بيت رجاء ــ الذي لا يبتعد إلا ثلاثون مترا هوائيا عن بيت العامرـــ أصابت قطع من الحجارة المتطايرة رأس وظهر رجاء التي لم تعرف إلى أين تذهب من شدة دويّ الانفجار، فسقطت على الأرض مغميا عليها،فركض الجميع نحوها في حالة من الارتباك والخوف، محاولين علاجها، دقائق ودوى الانفجار الشديد الثاني بتفجير بيت الأسير أبو غليون، فتطايرت أبوابه من أعلى جبل المخيم إلى وسطه ليعود الرعب من جديد،ورجاء بين الاستفاقة والإغماء، بين الألم وفقدان البصر وفقدان الحركة… انسحبت قوات الاحتلال بعد ساعة من التفجير الثاني فانهال شبان وأهلي المخيم من صغير وكبير إلى مكان التفجيرين، بينما دخلت سيارة الإسعاف ونقلت رجاء لمشفى جنين الذي عجز عن تقدم الخدمة العلاجية لها ، وأوصى بنقلها عاجلا لمشفى المطلع في القدس نظرا لصعوبة حالتها الجسمية والنفسية.
2
العلاج في الأردن
بالرغم ما قام به أطباء مشفى المطلع لعلاج رجاء،غير أنهم لم يفلحوا في ذلك، الأمر الذي حدى بزوجها وأهلها بالتواصل مع المشفى التخصصي في العاصمة الأردنية عمان،لنقلها إلى هناك،وبعد أسبوعين من المكوث في مشفى المطلع في القدس،نقلت وهي مشلولة وفاقدة للبصر إلى الأردن ،ودخلت مراحل علاجية بإشراف امهر أطباء المشفى التخصصي الأردني لعلاجها من الشلل المؤقت واستعادة البصر،ثلاثة شهور قضتها رجاء في هذا المشفى، وقد كتبت عنها الصحف الأردنية كحالة من حالات الإصابة القاسية في الانتفاضة الفلسطينية ، وقام قَدِمَ الرئيس والقائد الراحل الشهيد ياسر عرفات بزيارتها مرتين،كانت رجاء في حالة غريبة من الانفعال عندما أبلغوها أن أبو عمار قادم لزيارتها وزيارة باقي الجرحى في المشفي،دخل أبو عمار واخذ بتقبيل رأسها والدعاء لها بالشفاء، وإسماعها كلمات التشجيع والثبات والأمل بالنصر.. كان يوما تاريخيا في حياة رجاء، لا زالت تذكره، وبعد ان أمضت الأشهر الثلاثة وعاد إليها بصرها،وبقيت حالة الشلل قائمة، ابلغهم الطبيب المشرف على حالتها، ان الإصابة بالشلل مؤقتة وستزول في مدة أقصاها عام، لكن عليها الاستمرار في تناول الأدوية والعلاجات التي اعتادت عليها ،وفعلا خرجت رجاء من المشفى لتقضي بعض الأيام عند الأقارب في عمان وقامت بزيارة مخيم الوحدات هناك وحلت ضيفة على نواة حركة فتح هناك .
3
عودة وشفاء
كان من الطبيعي العودة إلى مخيم جنين،ومع الانتظام على تلقي العلاج الدوائي والطبيعي،رحل الشلل شيئا فشيئا،حتى مطلع شهر آذار من العام 1989، حيث داهمت قوات الاحتلال بعض منازل المخيم،ومنها بيتها وبيت عمها والد زوجهما واعتقلوا زوجها وشقيق زوجها وتم تحوليهم للاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر، كان حدثا صعبا على صبية عروس لم تبلغ الستة عشر عاما، يعتقل زوجها وهي في هذه الحالة، لكن الجو العام كان مليء بالإحداث من شهداء وجرحى ومعتقلين، ولما مضى على اعتقال زوجها أكثر نحو شهرين، قررت وبعد تحسن حالتها السفر الى المشفى التخصصي في عمان من اجل إجراء فحوصات ومراجعة عند الطبيب الذي كان مشرفا طيلة الوقت على حالتها، سافرت لوحدها في اليوم السابع من رمضان الموافق الثالث عشر من أيار من العام 1989، وصلت نقطة العبور الإسرائيلية على الجسر، وقدمت هويتها وتصريح السفر، الشرطية الإسرائيلية ضربت على الحاسوب، ودققت فيها مليا، وقامت بحجز الهوية والتصريح وقال لها :-
انتظري قليلا..
أغلقت الشباك وذهبت إلى الداخل لغرف ضباط المخابرات العاملين على الجسر، كانت الساعة في ذلك الوقت قد بلغت التاسعة صباحا، عادت الشرطية ومعها مجندة وقفت الى جانب رجاء ومنعتها من التحرك من مكانها لمدة سبع ساعات متواصلة، وكلما حاولت السؤال عن سبب التوقيف، أمرتها المجندة بالسكوت، الا أن حضر مجموعة من الجنود يحملون القيود، فقيدوها، وقالوا لها أنت رهن الاعتقال و،ساقوها الى سيارة جيب عسكرية كانت تنتظر في الخارج واعصبوا عينيها وساروا بها إلى جهة غير معلومة..
4
الاعتقال الأول
سار الجيب العسكري طويلا، ورجاء معصوبة العينين، تفكر بما سيحصل لها، وتنبش الذاكرة عن سبب هذا الاعتقال، وكيف سيكون موقف أهلها وأهل زوجها بعد أن تخرج من السجن،فكرت طويلا، وقررت أن تصمد وان لا تضعف، مهما تكن النتائج،بعد ساعة تقريبا، حطت بها السيارة الى مدخل احد المعتقلات، وأنزلت واجري لها الفحص الطبي الروتيني، حيث أبلغتهم انها كانت ذاهبة للعلاج وانها تعاني بعد الإصابة من مرض في القلب، فأدخلوها إلى أحد الزنازين الضيقة والتي تعرف بـ “الصندوق”…حاولت السؤال عن هذا المكان التي انتهت اليه، لم يجبها أحد، أحد الجنود كان يتكلم العربية ، نادته،
سألته :- أين أنا؟؟
فرد بكلمة واحدة : معتقل أبو كبير..
ثم جاء احد المجندات وطلبت مني ترك ملابسي في الزنزانة فورا، وامرتها بالانتقال الى زنزانة اخرى، ففعلت، وبعد ساعة عادت الى نفس الزنزانة ، فوجد ملابسها ي ممزقة كليا، وكأنهم كانوا يبحثون في ثناياها عن شيء ما.
مكثت في أبو كبير ثلاثة أيام قبل أن ينقلونها في فجر اليوم الرابع إلى سجن الجلمة بالقرب من حيفا، وهو مركز تحقيق رئيسي يطلق عليه المحتلون اسم ” كيشون”
سارت السيارة من القدس إلى الجلمة نحو ثلاث ساعات، وعندما وصلت أدخلوها فورا الى اقبية التحقيق، كان هناك خمسة من المحققين كل يمثل دور تمثيلي في استجوابي، احدهم يظهر الليونة والثاني أللغلظة والثالث الوسيطة والرابع يهددني بالاغتصاب والخامس بالشتم والتوبيخ، وتارة يهددوني بقتل والدي الذي كان معتقلا، وبالرغم من كوني لم ابلغ سن الستة عشر عاما، فلم تنهار عزيمتي أمامهم، كان جوابي بقوة في وجه هذه الممارسات،لقد قلت لأحدهم إذا ما فكرت بتنفيذ تهديدك، فأعلم أني لن امضي عمري بالأسر، وسأخرج ،لكنك ستندم، فصفعني بيده بشدة ، شعرت على أثره بالشرر يتطاير من عيني
لم يأخذوا مني حقا ولا باطل، وواصلوا أسلوبهم في الشبح لساعات طويلة كانت تشعرني بعد أن انزل يدي أنهما شلتا، واحضروا خالي أمامي وابن عمي للممارسة الضغط عليّ، لكن دون نتيجة، وبعد أيام أنزلوني من زنازين المخابرات الى زنازين في الأسفل، عشت أياما بعدها دون أن اسمع آو أحس بأحد،وذات يوم تهادي إلى مسمعي صوت شاب صغير يغني بصوت طفوليّ لفلسطين…ينشر المواويل كاسر صمت المكان، قفزت إلى طاقة الزنزانة، ونادينه : من أنت؟؟؟
استمر في الغناء: أعدت عليه السؤال : من تكون ؟؟ من أنت؟؟
فقال : انأ أسير من جنين..فانفجرت بالبكاء، بعد أن أحست بشيء من الأمان
سألها :من أنتِ ؟
قالت : أنا من عرانة، ومتزوجة في مخيم جنين….
قال باستغراب: من عرانه؟؟!!
قالت : نعم
فقال :أصلي من عرانه، جئت من سوريا والقي القبض علي، اسمي أسامة ابو حنانه
صدمت رجاء، هذا ابن عمها سكان سوريا الذي كانت تسمع به ولكنها لم تراه
قالت له : أنت إبن عمي إذا …انتبه، وافهم. لقد وضعوك هنا من اجل ان نتحدث أملا منهم في الحصول على شيء
قال : لا تخافي ما عندي أي شيء
قالت : له وأنا أيضا
قال: إذا لا تخافي سيفرج عنك بعد أيام عن شاء الله
كان لهذه المحادثة اثر كبير في هدوء نفسها، فجلست تجتر الحديث الذي جرى مع ابن عمها، وشعرت بفتح باب احد الزنازين واختفاء صوت أسامة، لقد آخذوه إلى جهة مجهولة..
بعد ثلاثة أشهر من التحقيق والاستجواب، زج برجاء بين السجينات المدنيات الإسرائيليات، ليضاف إلى معاناتها معاناة جديدة،عاشت لحظات النهار والليل في قلق شديد، خوفا وتحسبا مما قد يقمن به هؤلاء النزيلات، خاصة وان قسمن منهن يتعاطى الحشيش والمخدر في داخل السجن وضح النهار، وفي عز الليل، قلق وترقب خفف منه إدخال فلسطينية تحمل جنسية أجنبية ولها أقارب في الداخل الفلسطيني اعتقلت بسبب رفع علم فلسطين في ذكرى يوم الأرض، سرعان ما تعرفت على رجاء، فشحنت معنوياتها، كما كان لحضور الصليب الأحمر أيضا حصة من التنفيس عن كربة رجاء بأن احضر لها دفترا وقلما ، فأصبحت تكتب مذكراتها اليومية، حتى جاء موعد نقلها إلى سجن “تلموند
” المخصص للمعتقلات الفلسطينيات الأمنيات، شعرت بنوع من الارتياح بعدما تعرفت على عدد من الأسيرات منهن لمياء من القدس وعطاف عليان، ذلك الاسم الذي كان حاضرا في أذهان الحركة الأسيرة، عليان كانت معزولة في زنزانتها لأنها سكبت الطعام الساخن على وجه ذلك السجان الذي حاول مضايقتها…. كانت رجاء تنتظر خروج عطاف من الزنزانة لمقابلة المحامي كل يوم فقط من اجل أن ترسل لها بتلويحة يد وابتسامة أعجاب
لم يطل مقام رجاء في سجن تلموند… كانت قد شارفت على إكمال الشهر الرابع، لقد نجح المحامي في إقناع المدعي العام العسكري بالاكتفاء بمدة الاعتقال، واستبدال باقي الأشهر الثلاثين بغرامة باهظة مقدارها ستة عشر ألف شيكل حينها، نظرا لصغر سنها وحالتها الصحية، فخرجت رجاء إلى بيتها قبل خروج زوجها بثلاثة أيام، وحققت أمنيتها أن تكون هي في استقباله…
6
عناية وتعليم
كونها أسيرة محررة وصغيرة في السن، جاءت جمعيات عديدة تهتم بالطفولة والمرأة لزيارتها في البيت، وجرت نقاشات كثيرة حول مكافحة سياسة التجهيل التي تحاول سلطات الاحتلال فرضها على أبناء الشعب الفلسطيني، فاقترحت على أحداها إنشاء مراكز تعليمية غير نمطية لتعليم الأطفال والناشئة ، ومن أجل ذلك قامت بالانتساب لمعهد مختص في التعامل مع التعليم وتنشأة الأطفال، ولما كانت إحدى الجمعيات جاهزة في رفد هذه المواقع،بدأت في استقبال قوافل الطفولة في بيتها بعد أعداد غرفتين صفيتين لهذا الغرض، وكان لها شعور كبير كونها متزوجة منذ عدة سنوات ولم تنجب، وبدأت تجربة التعليم بكل الشوق والحب للطفولة تلك النعمة التي حرمت منها،لم تكن مدرسة أو مشرفة فقط ،بل بدأت تتبناهم كأم لهم، ولم تكن تعلمهم الحرف والرسم فقط، بل كانت تساعدهم في التعبير عن أنفسهم، وتكافئهم دائما بالهدايا والجوائز..كانت تهتم في تربية أخلاقهم وسلوكهم، لا يعجبها مشاهدة سنسال في رقبة احدهم، فتأخذه منه وتضعه في علبة للذكرى وتقول له الرجال لا يلبسون سلسلة، إذا رأت اسوارة في يد احدهم ،تأخذها وتقول له انظر هل رأيت مقاومة يبلس اسوارة.. الاسوارة للبنات وانتم رجال وتعوضه عنها.. لقد جمعت أشيائهم في علبة وأحكمت عليها الغطاء ،وكأنها كانت تعلم أن هذه الحوائج ستكون ذكرى كبيرة بحجم المستقبل.. كان من أبنائها التي نسجت مع ذويهم علاقات اجتماعية قوية كل من عائلة اشرف أبو الهيجاء ويوسف السويطي ونضال الجبالي وزكريا واشقاءه طه ويحيى وداوود وجبريل.. وكثيرون ،واستمرت هذه العلاقة الوجدانية من أم محرومة من الإنجاب لأبناء يشبعون عقلها وقلبها بكلمة “ماما رجاء”، حتى أصبحوا على أعتاب سن الشباب،كما لم يتوقف عطاؤها عند هذا الحد ، بل ساهمت في إعادة نحو ثلاثين طالبا تسربوا من المدارس وهم صغار السن وجهدت في إقناعهم بالعودة إلى المدارس وأهمية أن نكون شعبا متعلما في مسيرة نضالنا الطويل الذي يهدف الاحتلال لتجهلينا، وفعلا عادوا جميعهم ، حتى أن احدهم ، واصل تعليمه حتى أصبح مهندسا، تفاجأت به عندما حضر في أحد الأيام مبعوثا من قبل وكالة الغوث لفحص بيتها بعد الاجتياح ، فسألته ماذا تعمل ؟؟
فقال : لقد أصبحت مهندسا
ففرحت عندما سمعت بذلك ، وكان زرعا من زرعها قد أينع..
7
اجتياح شهر آذار
كان صباح اليوم الخامس من شهر آذار يوما ينذر بساعات ساخنة ،جيش الاحتلال يحتاج أطراف المخيم، ويحتل بعض المنازل، واتخذها مواقعا لقناصيه، لغاية ألان ومنذ خمسة أيام، ارتقى عدد من الشهداء،وما زالت القلوب تخفق خوفا من ارتقاء المزيد،كون كثير من الشبان لازالوا ينتظرونهم في الأزقة والحارات، رجاء، استقبلت السيدة سميرة الزبيدي ام العبد صباحا، والحديث عما جرى وتوقعات ما سيجري، خاصة وان لام العبد أولادها المتربصين للمحتلين بين الأزقة،…. وقبل ان تغادر بيت رجاء قالت لها : ترى إن صار لي شيء.. دري بالك على الأولاد والبنات بعدي..
ردت رجاء الله يخليك الهم ويخليهم إلك، فخرجت ام العبد الى البيت، واصطبحت رجاء معها، وهناك أعطتها مذياعا لسماع الإخبار، بعد أن إنطفأت الكهرباء بفعل تضرر المولدات جراء الاشتباكات والقصف من الطائرات العامودية والدبابات.. عادت رجاء إلى بيتها، بينما همت أم العبد في الخروج الى بيت خطيبة ابنها طه، لكن رصاص القنص بدأت يعمل من جديد، وبدأ الرصاص من كل ناحية،لم تغادر أم العبد الشباك المطل على الشارع، شاهدت مجموعة من المقاومين يصعدون إلى أعلى المخيم.. صرخت بهم قائلة :- انتبهوا القناصة في بيت أبو غليون
مدت يدها خارج الشباك وهي تأشر لهم على وجود القناص في المكان المقابل لهم، وقبل ان تعيد يدها أصابتها رصاصة القناص نفسه في صدرها، لكنها لم تغادر الشباك، فأطلق عليها الرصاصة الثانية، فأصابت رقبتها، آثرت على نفسها ان لا تسقط ،سارت خطوات داخل المنزل دون أن تُشعر أحدا ، جلست على درج المنزل.. فشاهدت بناتها انسياب الدم من أذنيها فصرخن بأعلى الصوت :- يما……..
رجاء التي لا يبتعد بيت ام العبد عن بيتها عشرين مترا لم تسمع الصراخ بفعل صوت إطلاق النار، وهي تتابع الأخبار عبر المذياع من محطة إذاعية محلية .. عشر دقائق أذاعت المحطة نبأ استشهاد أم العبد.. لقد ارتقت سمير الزبيدي إلى العلا، نعم لقد توقعت ما سيجري لها… قالوا لولدها طه .. تعالى ودع أمك ، فأبى.. قال الحمد لله أن انعم عليها بالشهادة وإن شاء الله سألحق بها….
8
معركة مخيم جنين
تقلق إلام ولا تعرف النوم إن كان لها ولد واحد في المعركة، فكيف إذا كان أولادها جميعا في الميدان،يوسف ونضال قضيا شهداء، وبقي يحيى واشرف وطه وزكريا … قبل انطلاق المواجهة، زارها يحيى مودعا بصحبه صديقه احد قواد المعركة الشهيد محمود طوالبة، قليلا من الوقت، طلبوا منها الدعاء لهم بالنصر أو الشهادة، وغادروا فورا.. وكأن قلبها قد خرج من بين ضلوعها وهي تشاهد يحيى يغادر، واشتعلت المواجهة في كل إطراف المخيم… أربعة أيام وهي لا تعرف نوما، ولا تهدأ حركتها وتتابع أخبار الموجهات وتتعرف على أخبار واسماء من يرتقي من الشهداء، كان الظلام الدامس ليلا… تحرك فيها شعور بأن أشرف أبو الهيجاء يحتاجها،فتحججت بنيتها الذهاب لشراء الشموع من دكان قريب من البيت يقع بمحاذاة حارة الدمج إحدى النقاط الساخنة، هناك عرجت على المقاومين.. نادت اشرف… يما أشرف
فرد عليها من بين المقاتلين : نعم يما .. قالت له تعال
فحضر إليها وقال:- ما الذي جاء بك الا هنا؟؟
قالت:- شعرت انك بحاجة إلي…… فجئت لأراك .. هل أنت بخير ؟؟
قال : نعم لا تقلقي
قالت: ألا تذهب معي إلى البيت لتناول الطعام
قال : لا استطيع أن ابتعد عن أصحابي.. اذهبي أنت ألان القصف يشتد وقد يصيبك مكروه لا سمح الله
فعادت والدموع في عينيها
في طريق عودتها القصير : سمعت أحدا يصرخ : يما
ردت بتلقائية : حبيبي يما ………… ظنته صوت أشرف
وإذا به شاب من قوى الأمن الوطني مصاب في بطنه، وقد خرجت أمعاه ، وهو ملقى في الزقاق، فعادت ونادت أشرف، فحملاه معا إلى اقرب نقطة حتى حضرت سيارة الإسعاف ونقلته فورا إلى المشفى، عادت رجاء إلى بيتها… علها تهدأ قليلا، لكن ما رأته لا يبشر بالهدوء.
ثلاثة أيام مضت، والحريق يأكل كل اللازقة والطرقات، جاء خبر استشهاد اشرف كالصاعقة تلاه خبر استشهاد طه وعبد الرحيم وطوالبة والنوباني ، لم تحتمل أن تبقى في البيت، خرجت رغم شدة المعركة وصواريخ الطائرات الستة التي تطوق سماء المخيم وقذائف الدبابات ورصاص القناصة، خرجت ورصاص القنص يمر من جانب رأسها ويدوي في أذنيها، واستطاعت التسلل إلى عمق حي الحواشين آخر معاقل الصمود أمام بطش آلة المحتل، هناك بحثت عن يحيى،
قالت له:- أريد يحيى.. احضروا لي يحيى…
دقائق حضر يحيى وهو يعتمر الخوذة العسكرية ويلبس السترة الواقعة وجعبته تمتلئ بالمخازن..وهو يضع حزاما على وسطه…
كان يمضخ لبانا في فمه
فقالت له : مقاوم وتمضغ اللبان؟؟ّ!!
قال: هو لأخذ القليل من السكر، لم نأكل منذ أيام، وهذه هي حصتي التي وزعها المقاومين..
اخرج من جيبه قطعة لبان، وأعطاها لها وقالت هذه لك يا أمي، ارجوا أن تأكليها أمامي،
قالت له أريد منك أن تنزع الحزام.. أريدك ان تقاوم حتى أخر رصاصة..
لم يرد طلبها، وفعل…. وقال لها ألان كلي اللبان أمامي، فوضعتها في فمها ثم أخرجته وقالت، سأحتفظ به حتى تعود لنا سالما وغادرت…
9
اعتقالين
وقع يحيى في الأسر، وتبعه أناس كثيرون، منهم جبريل شقيق يحيى،وحكم كل منهما 17 عام و12 عاما على التوالي،كان نبض رجاء الذي لا يهدأ لابد من ان يقوم بالدور المطلوب منه لرفد نضال هؤلاء، سرعان ما انضمت لهيئة تساند الأسرى وتتابع قضاياهم من حيث المحامين، و” الكنتينا” والملابس والزيارات والغرامات، وما يخص حال الأسير ويعزز صموده،وبدأت رحلة العمل في إسناد الأسرى ومتابعة قضاياهم، ما حدث في مخيم جنين،حفز الكثيرين على العمل في كل مجال متاح،كانت رجاء لا تعرف الكلل ولا الملل، وكلما ضاقت بها الدنيا، ذهبت لمقبرة الشهداء تقف على أضرحة من حرمة من كلمة ماما من افواهمم البريئة، كانت تستعرض صورهم وهم في المراحل الطفولة والفتيان والشباب، كانت تعود لمقتنياتهم، تحدق في رسومات الشهيد يوسف السويطي الذي لو أتيح له العيش لأصبح رساما تشكيليا على مستوى الوطن او الوطن الكبير..
هذه الحالة استفزت بالمقابل العدو، فلم يرق لان يرى رجاء تخفف عن الأسرى وذويهم، فقامت قوة كبيرة من الجيش المحتل باقتحام منزلها واعتقالها في عام 2005، وحكم عليها بعد فترة من التحقيق عام كامل وغرامة مالية قدرها ألف شيكل، خرجت بعدها في العام 2006
الاعتقال الثاني التقت فيه ببعض الأسيرات للمرة الثانية في سجن هشارون / القسم الخاص بالأسيرات،منهن لمياء وعطاف عليان ، والتقت أيضا بمنى قعدان وقاهرة السعدي والعديد من الأسيرات… ، وما ميز هذا الاعتقال هو وجود الطفلة عائشة ابنة المعتقلة عطاف عليان والتي غيرت واقع الأسر، وكان الحدث الصعب عندما أمرت إدارة السجن بسحب عائشة وإعادتها لأبيها خارج السجن بعد أن أكملت السنتين، كان حادثا صعبا على والدتها وكافة الأسيرات وهن يودعهن عائشة التي تكاد تتقطع من الرفض والبكاء، لكن المحتل يتلذذ في عقاب المناضلين والمناضلات دائما.
انقضى العام، وخرجت رجاء وذهبت لزيارة عائشة في بيتها في رام الله، عائشة الطفلة الصغيرة سرعان ما تذكرتها، ولما همت رجاء بالعودة، جن جنون عائشة، تعلقت بها وأرادت أن تذهب معها لانها كانت تعتقد أن رجاء ستذهب لامها..
من منطلق حب ها للمخيم وناسه عادت رجاء للعمل في خدمة مجتمعها بأسلوب جديد بعد ان قضت مدة السنة ، لقد وضعت مشروعا لتعليم محو الأمة للكبار، وهذا المشروع لاقى الدعم والمساندة من الجهات الرسمية والشعبية، وتعمق إلى حد ما بين اواساط نسوة المخيم بالإضافة طبعا لمواصلة عملها في برنامج الأسرى والمعتقلين…..
في العام 2009، اعتقلت رجاء للمرة الثالثة، وخضعت للتحقيق بالرغم من مصابة بمرض في القلب، فخاضت إضرابا مفتوحا عن الطعام لمدة عشرين يوما، ونقلت للمشفى نظرا لتدهور حالتها الصحية، ثم أعادوها وحولوها للاعتقال الإداري، ونقلت فورا لمعتقل هشاون، فالتقت للمرة الثالثة بالأسيرات عطاف وقاهرة وتعرفت هناك بالأسيرة فاطمة الزق من قطاع غزة و التي اعتقلت وهي حامل، وثبت الحمل بالرغم من محاولات إدارة السجون إجهاض فاطمة بشتى الوسائل، ،لكن كل محاولتهم فشلت وكان ميلاد يوسف ، الذي أضفى جوا رائعا خفف عنهن هم ومعاناة الأسر والاعتقال، وكانت والدته التي حكمت بالسجن الفعلي ثلاثة عشرا عاما، تخشى ان تأتي اللحظة التي يبلغ فيها طفلها يوسف سنتان، فيأخذوه منها ويرحلوها الى غزة، كان هذا هاجس يقض مضجعها، لكن إرادة الله وفرجة جاءت عندما، افرج عن عشرين أسيرة ومنهن فاطمة وابنها يوسف ضمن مقدمة صفقة الأحرار” شاليط”، فكانت فرحة عارمة، هان على رجاء بعدها قضاء ما تبقى لها من اعتقال إداري دام عاما ونصف..
10
في انتظار يحيى
الانتظار قد يكون ساعة أو يوم أو شهر او سنة أو سنوات، لكن أن يكون سبعة عشر عاما بقي منها إحدى عشر شهرا، فهذا صبر من أعظم صور الصبر، هكذا هي رجاء التي لا زالت تنتظر يحيى ،لقد زوجت زوجها بعد ان فقدت الأمل في الإنجاب، ورزق زوجها بطفلة وطفل، سرايا وقيس، وأصبح اسم رجاء ام قيس، كان ولا زال،وقد أضفى عليها الطفلين نوعا من الأمل والحياة، لكنها برغم ذلك لا زالت تزور أضرحة ابنائها الذين قضوا، وتتفقد إغراضهم وعندما تشتاق لهم تفتش في صورهم ، تخرج العلكة التي أعطاها إياها يحيى، لتقدمها له عندما يخرج من الاسر بعد احدى عشر شهرا من الآن.