تحليق عابر لطيور الذاكرة.. مترجم صليب (10)
د. سامي الكيلاني
أفتح منجم الذاكرة الورقي، أحد الصناديق التي تحتوي رسائل وقصاصات من مجلات وجرائد، تبرز من بينها مجموعة رسائل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. أتصفح رسالة من هذه الرسائل مؤرخة بتاريخ 4 تموز/ يوليو 1979 وموقعة من مندوب اللجنة الذي يتابع سجن نابلس المركزي. تقول الرسالة أنه بعد فحص ملفي الطبي تبين أن الدكتور روس لم يوصِ لي بأية معالجة إضافية، وأنه في 1-5-79 عمل الممرض حقنة من أجل القيام بفحوصات. وتطلب الرسالة مني بلطف أن أراجع اللفتاننت بيركوفتس (لا أذكر من هو هذا المدعو اللفتنات، ربما المقصود الطبيب العسكري) وهو مستعد لتزويدي بأية تفاصيل إضافية. طبعاً لم تؤخذ مني حقنة، أو عينة، فالرعاية الطبية في السجون والمعتقلات من أسوأ ما يكون في عيادة السجن، ويرتبط التحويل إلى مستشفى سجن الرملة برحلة عذاب، إذ يتعرض المرضى المنقولون للضرب أو الإهانات، وكأن شرطة السجون الذين يحرسون “البوسطة” التي تنقل السجناء يستكثرون على السجين هذه “المكرمة” أو هذا الدلال بأن يؤخذ إلى مستشفى ليتلقى رعاية طبية، ناهيك عن سوء المعاملة ونوع العلاج الذي من الممكن أن يتلقاه السجين المريض في المستشفى. أما موضوع الرسالة فكان نتيجة شكوى نقلتها لمندوب الصليب الأحمر تتعلق بحساسية جلدية آلمتني وأزعجتني كثيراً دون أن أتلقى علاجاً لها، ولم يكن أمامي إلاّ أن أقوم بحكها بشدة وأنا أعلم أن هذه الطريقة ستفاقم المشكلة، ولكن لم يكن أمامي من طريقة أخرى.
وتضيف الرسالة في الفقرة التالية “شكراً مرة أخرى على عملك القيّم بالترجمة أثناء زيارتنا الأخيرة لنابلس”، وتختتم الرسالة بعبارة لطيفة، تختلف عن الخاتمة التقليدية المعتادة، “مع أطيب أمنياتي الشخصية”. أعتقد أن المندوب الذي أرسل هذه الرسالة هو المندوب الذي تواصلت معه بعد خروجي من السجن أثناء عمله في السلفادور ورد عليّ برسالة شخصية مطولة. لقد قمت في فترات اعتقالي المختلفة، السنوات الثلاث الأولى في سجن نابلس المركزي* بدور المترجم لمندوبي اللجنة الدولية للصليب الأحمر أثناء زياراتهم للسجون التي تضم المعتقلين الفلسطينيين، وفي والفترات التي تلتها في سجن جنيد المركزي، وفي معتقلات عسكرية كالفارعة وكتسعوت كما يسميه السجانون، ويسميه المعتقلون أنصار (3) نسبة إلى أنصار (1) في جنوب لبنان وأنصار (2) في غزة. إذن كان هناك شكر سابق على جهود الترجمة، ولكن رسائل الشكر السابقة غير موجودة مع أخواتها التي وجدتها.
وفي رسالة لاحقة بتاريخ 17 كانون أول/ ديسمبر 1979 من مندوب آخر خَلِفَ المندوب السابق، يقول فيها ” أود أن أعبر عن شكري على مساعدتك كمترجم خلال زيارة اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأخيرة لمعتقل نابلس” وتختم بعبارة اعتيادية “very truly yours” كما في الرسائل الرسمية لكن إضافة “very” تضفي عليها لمسة من الخصوصية. بعد عودتي للعمل في الجامعة إثر تحرري من اعتقال دام ثلاث سنوات، وأثناء رحلة مع طلبة الجامعة إلى جبل الشيخ، التقيت هناك هذا المندوب صدفة. كم كان سروري بلقائه لأن معرفته كانت في تلك الظروف الصعبة ولأنه كان إنسانياً في تعامله. تحدثنا قليلاً واعتذر لأنه سيغادر الجبل مع أصدقائه، تمنى لي تزلجاً جيداً على ثلوج جبل الشيخ. شكرته دون أن أقول له بأنني لا أعرف التزلج، ولم يخطر ببالي حينها أنني سأطأ ثلوجاً بهذه السماكة في يوم من الأيام**.
كانت الترجمة للصليب الأحمر نافذة على العالم الخارجي تخرجني من الروتين اليومي لغرفة السجن الكبيرة في سجن نابلس، تلك الغرفة التي تحوي أكثر من خمسين معتقلاً، ينامون على قطع اسفنجية رقيقة تسمى ظلماً “فرشات” مع ثلاث أو أربع بطانيات رقيقة لا ترد البرد في الليالي الباردة، فرشات مرصوصة، دون أية مسافة فاصلة بينها، على محيط الغرفة، وحين يزيد عدد المعتقلين ينام العدد الزائد في وسط الغرفة. كان الخروج للترجمة يعني رؤية سجناء من أقسام أخرى، وأحياناً في قسم الزنازين الانفرادية، وأحياناً في قسم السجناء الجنائيين المفصول كلياً عن أقسام السجناء الأمنيين، كما تطلق عليهم إدارة السجن، أي قسم الأسرى المناضلين الذين يدفعون من أيام عمرهم ثمناً غالياً يرخص أمام القضية التي يناضلون من أجلها.
تقفز إلى الذاكرة ذكريات ترتبط بدور مترجم صليب الذي كنت أقوم به، ذكريات تبدأ من داخل السجن مرتبطة بترجمة معينة في إحدى زيارات الصليب الأحمر، وتتشعب منها سلسلة تذكّرات في شعاب الحياة وشجونها بعد التحرر. خيط الذاكرة من أطول الخيوط وأكثرها تشعباً وانحناءات وارتدادات في مساره. تتذكر الموقف الفلاني، فتتذكر ذلك الرفيق، فتضحك حين تتذكر المقلب الذي عمله مع ثالث، فتأتي إلى ذاكرتك تفاصيل لقائك بالثالث مصادفة في تعاريج الحياة بعد سنوات من الفراق، فتتذكر حديثكما عن مجموعة من الأصدقاء أنت تسأل عن واحد أو أكثر، فيجيب ويسألك عن آخرين. تنتج التذكّرات من هذا النوع شبكة ذكريات متشعبة في خيوط متصلة في كل الاتجاهات كشبكة العنكبوت.
كان مندوبو الصليب الأحمر إنسانيين بشكل عام، لكنك تشعر بفروق فردية بينهم في درجة شعورهم مع المعتقلين وتعاطفهم مع القضايا التي يطرحها السجناء الذين تترجم أقوالهم، ولكن هذه الفروق لا تخرج من دائرة الإنسانية والإخلاص المهني. كان البعض يظهر تعاطفاً شديداً في تعابيره، بينما البعض الآخر يتعامل مع الأمر بصورة الممكن عمله وغير الممكن بأسلوب تقريري دون إظهار مشاعر. كنت ألاحظ شعورهم بالعجز إزاء ما يطرحه السجناء من مشاكل وعدم قدرتهم على تقديم الدعم المطلوب والذي يتمنون القيام به وذلك بسبب تعنت إدارة السجون ومن خلفها إدارات الاحتلال من حكم عسكري ومخابرات. هذا التعنت الذي يعود في حقيقته إلى محاولات الاحتلال محاربة الروح المعنوية للمناضلين خلف القضبان والنيل من عزيمتهم. في المقابل يقوم المناضلون من خلال برامجهم التثقيفية والتنظيمية بتحويل المعتقلات إلى مدارس وجامعات يتعلمون فيها الصمود وصيانة إنسانيتهم وروحهم المعنوية ويستغلونها فرصة لتعبئة الطاقات وشحذ الهمم لمواصلة النضال بعد التحرر. كان المناضلون يضيقون ذرعاً أحياناً ب”عجز” الصليب الأحمر، ويلقون باللائمة على المندوبين ويتهمونهم بالتقصير. لم يكن ممكناً لمن يعرفون حدود وقيود عمل المندوبين مثلي توضيح الوضع إزاء ذلك، ففي مواجهة شكوى المظلوم لا يمكنك أن تطرح رأياً موضوعياً يوضح الموقف الذي يجد فيه الصليب الأحمر نفسه عاجزاً في مواجهة احتلال غاشم، لأن المظلوم أحياناً لا يسمع سوى صوت آلامه، وهذا ما كان يحدث معي بين معرفة الوضع الحرج للجنة الدولية للصليب الأحمر في التعامل مع هذا الاحتلال الغاشم وبين انفجار معتقل ما لم يستطع الصليب الأحمر معالجة شكواه، فأصمت. ولكن في أغلب الأوقات كنا جميعاً نثمن الجهود التي يقوم بها هؤلاء المندوبون، وفي الحد الأدنى فإنهم يمنعون تراجع الأوضاع في السجون والمعتقلات من قبل احتلال لا تنتهي شهوته للتضييق والبطش والتعذيب.
وضحة بنت الصليب
كانت أول مندوبة للصليب الأحمر دخلت السجن في تلك الفترة. كانت “كلير”، شابة جميلة لطيفة تتقن العربية بشكل جيد. قالت يومها من باب التعريف بنفسها أن اسمها يعني بالعربية “وضحة” وأن بإمكاننا أن نناديها بهذا الاسم. تذكرت الأسماء البدوية والمسلسلات البدوية في التلفزيون الأردني، وقلت لها ذلك فأجابت “ليكن ذلك”. كانت زيارتها لمتابعة قضايا سابقة كما أذكر. دخل السجين الأول، فرأيت الصدمة والانفعال على وجهه، مزيج من التساؤل والصدمة والخجل. لقد كان يتوقع رجلاً، ربما لم ير أنثى منذ سنوات، غير والدته أو شقيقته أو نساء عائلته. كان يقال بأن الصليب الأحمر يرسل مندوبين رجالاً فقط خوفاً على المندوبات النساء من المساجين، وربما كان هذا موقف إدارة السجون، لا الصليب الأحمر، بقصد الإساءة للمعتقلين الفلسطينيين. ناقش السجين قضيته، وشكر المندوبة على السيجارة التي قدمتها له وعاد إلى غرفته، طبعاً يحضر السجين ويعاد مع سجان عبر أبواب عديدة تفتح وتقفل مع كل مرور. ربما لاحظت المندوبة تعابير وجهه، فأكدت أنها سمعت عن تخوفات من زيارة السجون، ولكنها قالت إنها كانت متأكدة من أدب وأخلاق السجناء الأمنيين الفلسطينيين، وهذا تأكد لها بالفعل من الزيارة. سألتني فجأة وهي تمد أصابع يدها في الهواء “ماذا تذكرك هذه، أو ماذا تعني لك هذه؟” اضطربت، فكرت “هل أشار إليها أحد معتقلينا بإشارة سيئة، أجبتها “لست متأكداً، ماذا تقصدين؟”. قالت “قرأت قصتك القصيرة، “الأصابع”، أنا أقرأ العربية جيداً”. يا الله أين ذهب تفكيري. إذن لقد اطلعت كلير على المجموعة القصصية المشتركة (27 قصة قصيرة: من القصص الفلسطيني في المناطق المحتلة- منشورات آفاق 1977) التي أصدرناها كمجموعة من كتاب القصة القصيرة في الوطن المحتل وصدرت قبل دخولي المعتقل بشهرين، بعد أن أسسنا مجموعة كتاب البيادر، أول تجمع للكتاب الفلسطينيين تحت الاحتلال. يومها هرعت إلى المرحوم والدي وأعطيته نسخة منها وقرأت في عينيه فرحاً حقيقياً، وأهديت نسختين منها لاثنين من معلمي مدرستي الثانوية، مدرسة يعبد الثانوية، اللذين كانا يتفهمان اهتماماتي الأدبية على العكس من تصرف أستاذي الشيخ الذي كان يسخر من اهتماماتي الأدبية وكثرة قراءاتي الخارجية، وعلى العكس من تصرف أستاذ اللغة العربية الذي يخاف السياسة فزجرني عن الكتابة لهذا السبب.
بعد زيارة “وضحة” تكررت زيارات مندوبات الصليب الأحمر للسجون والمعتقلات العسكرية إلى جانب المندوبين الرجال، وأصبحت هذه الزيارات أمراً عادياً، وترجمت للكثيرات والكثيرين منهم.
عرفت الصليب الأحمر قبل ذلك
تعود صورة الصليب الأحمر في ذاكرتي إلى سنوات عدة قبل هذه العلاقة، قبل أن أكون مترجم صليب. فأقدم هذه الذكريات تعود إلى الاستماع لرسائل الفلسطينيين الذي بقوا تحت الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948 من خلال “دار الإذاعة الإسرائيلية” في برنامج نسيت اسمه، وقد يكون رسائل المستمعين، إذ كان الواحد أو الواحدة من هؤلاء الفلسطينيين يرسل رسائل شوقه إلى الأحباء في مختلف أماكن الشتات لطمأنتهم عن وضعه والطلب منهم أن يطمئنوه عن أوضاعهم. وتختتم الرسالة الصوتية عادة بعبارة “راسلونا من خلال الإذاعة أو الصليب الأحمر”. لأن إذاعات البلدان العربية المحيطة كان لها برامج مماثلة، وتكثفت هذه البرامج بعد احتلال 1967، ويبرز في الذاكرة منها برنامج “رسائل شوق” من الإذاعة الأردنية بصوت كوثر النشاشيبي. ونتيجة لترداد تعبير الصليب الأحمر في تلك الرسائل، كنت أعتقد أن له قوة هائلة يستطيع فرضها على الدول والأفراد. فحين دار نقاش أمامي، أنا الذي لم أكن قد بلغت الخامسة عشرة، بين أقاربي وأنسبائهم حول ضرورة إرسال خطيبة ابنهم إلى خطيبها في الأردن فتمنّع أولئك واشترطوا دفع المتبقي من المهر وعمل حفل يليق بها ويفوق قدرة أهل الخطيب، تدخلت وأدليت بدلوي قائلاً لأقاربي أن يطلبوا من ابنهم أن يطلب من الصليب الأحمر أن يحضر له زوجته لأنه قد أتم كتب كتابه عليها فهي زوجته، معتقداً أن للصليب الأحمر هذه القدرة.
وبعد الاحتلال الإسرائيلي بأيام حضر إلى البلدة وفد من الصليب الأحمر، ولا أدري ماذا كانت مهمة ذلك الوفد، فهل كانت للتحقيق في المذبحة التي جرت في ساحة البلدة حيث أطلق الجنود المحتلون النار على عدد من الرجال الذين كانوا قد جمّعوهم في الساحة تحت شمس حزيران الحارقة وحاول أحدهم الانتقال إلى الظل فظنوه يريد الهرب وفتحوا نيرانهم على الجميع فسقط من سقط شهيداً، وجرح آخرون، ونجا غيرهم. المهم أن الوفد كان يمشي في الشارع الرئيسي يرافقهم الممرض الوحيد في البلدة يترجم أحاديث الناس. وعندما توقفوا قرب العيادة وتجمع حولهم بعض الفضوليين يستمعون ويتساءلون، وكنت واحداً منهم، ففهمت أن بإمكانهم حمل رسائل إلى الأقارب في الخارج. تدبرت أمري بالحصول على ورقة، وكتبت رسالة إلى خالي الموجود في أبو ظبي أطمئنه عن حالنا وأبلغه سلام الجميع، وكنت أحفظ عنوانه، وما زلت (أبو ظبي ص.ب 402) وأعطيتهم الرسالة، فاستفسرت مندوبة الصليب الأحمر “أين تقع أبو ظبي هذه” فأجابهم الممرض أنها قرب السعودية، وأخذوا الرسالة. عدت فرحاً لأخبر والدتي ثم جدي بما عملت، فشكروني فحسب دون تقديم أية جائزة سوى شعوري بأن والدتي شعرت بفخر لما قمت به، وهذه كانت أفضل الجوائز عندي، وبقيت كذلك لآخر يوم رأيتها فيه، حيث كانت تعبر، لروحها السلام، عن اعتزازها بشطارتي ورضاها عني مما يعوض عن كل صعوبات الحياة التي تعيشها أسرتنا. بعد سنوات طويلة حين التقيت خالي الذي عاد ليستقر في الأردن، حدثني عن المفاجأة السارة التي حصلت له حين وصلته رسالة من الهلال الأحمر السعودي وفتح مغلفها ليجد بداخله رسالتي تلك.
– يستخدم المعتقلون تعبير “المركزي” للدلالة على السجون التابعة لمديرية السجون تمييزاً لها عن المعتقلات العسكرية ومراكز التحقيق.
– بعد 18 عاماً صرت صديقاً للثلوج في مدينة مونتريال، أمشي عليها سميكة دون خوف، ولكنني لم أحاول تعلم التزلج لا على الثلج ولا على الجليد.