يا روح

د. أسماء السيد سامح | مصر

أيامٌ طويلةٌ أقاومُ عجلات الاكتئاب أن تدهسني، أضع أمامها كل ما أملك من متاريس: الحب والأصدقاء والذكريات ولقمة العيش وغريزة البقاء والعشم ومُسكِّن الفُرص الثانية و”الطعمية السخنة” والفول بالزيت الحار على العربات المجهولة والشاي بالنعناع في مواقف السيارات ” والهيام بلا هدف على كورنيش النيل ساعة غروب وورقة وجدتها بين مذكرات والدي كتبها لي لأقرأها يومًا تقول (قاومي لتَجِدَ) وبورتريها بالقلم الرصاص رسمته لي معجبة مجهولة وزجاجة عطر أحنّ عليّ من بعض البشر!

لكن العجلات مرّت في النهاية، وفرمت كل شيء!

بسكِّينٍ أحفر على جلدي بتؤدة حتى ينزَّ الدمُ وتتقشرّ الخلايا: “لا تتعلّق”، ثم أضع عليه كل ما تطوله يداي من “فودكا” ودموع ليشتعل ويُضيء على بعد ألف كيلومتر، فيعاينه العميان.

يهزمني الوعي المُفرط بالأشياء، رؤية كل شيء قبل أن يحدث، توقّع الخيانات والخذلانات قبل لحظة الملامسة، معرفة كل ما قيل وما سوف يقال في كل المواقف والحكايات، كأني جئتُ مرارًا ها هنا منذ عالم الذّرِ، لأملأ جعبتي بالندوب والفقد، ثم عدتُ لانتظار دوري في كل صفِّ عذابٍ، لأقرأ سورة “الوجع” -بلا نهاية- مع كل تالٍ لها!

يقضمُ الليلُ ذيلَ النهار، ويقضمُ النهارُ ذيلَ الليل، تمرّ السُحُب في سقف غرفتي، فتُبخّر دموعي وتعيد إنتاجها مطرًا حمضيا يُذيب روحي فيما تترك الملاءات البيضاء جافة كنصيبي من الوَنَس!

أُقرفصُ وظهري إلى الحائط، أُحدِّق في أطراف أصابعي، حيث كانت تقبعُ الأشياء التي أحب، قبل أن تتقشر عن جُرح جديد يواصل –دون كلل- رفع رصيدي من الخيبات، وفرم قلبي بالندم والعِوَز، وتعريتي من كبرياء زائفة وبطولة لا أملكها لأقف أمام قِبْلة الهزيمة، أُصلي دون وضوء وأسجد دون أرض ثابتة تحت رأسي!

أهذِي لطيفك: “لا ترحلي الآن، بإمكاننا أن نقاوم سرطان الفراق عاما أو عامين آخرين، أريح فيهما رأسي على صدرك وتتركين يدك لغابة أصابعي، وحين تأتي القارعة، سيكون لدينا الكثير لنرويه في طريقنا للجحيم، سنضحك، رغم النهاية، ونشعر أننا فعلنا ما بوسعنا كي ننتصر”.

تتفتّتين!

ألملم أطرافي، أتجمَّع، أتداخلُ في ذاتي، أتكثّف، أحاول أن أكفَّ، ألا أكون، أُصبح ذرةً، أُمزّق الأغشية، الكِفايات، أتضاءل أكثر، أتقلّص، أًغيض، أحتشد.. فأعاين.. ألمسُ الشعرةَ الواهيةَ بين الوجود والعدم، بين فرط الحب ومُطلق الكراهية، كامل الامتلاء وجبروت المَسْغَبة، عنفوان العثور وهول التخلّي، فأحلُ في سرمد السرِّ وجوهر المعنى.. ثم أنتثر كأن لم أُولد قط.. أتبدّد.. فلا يعود بإمكان أحبّتي إيذائي ثانية أبدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى