الصدريون.. بعبع أم فزاعة؟
أسعد الموسوي | العراق
لم يتعرض بلد لهزات وتقلبات وظلم لشعبه, كما حدث مع العراق خلال تاريخه الطويل.. ورغم سقوط أخر أنظمته الدكتاتورية عام 2003 على يد قوات التحالف الدولي الذي قادته أمريكا, وما تبعه من إحتلال وإنشاء عملية سياسية مفخخة بجميع مفاصلها, إلا أن تلك التقلبات والتجاذبات إزدادت حدة ولم تتراجع..
رغم إدعاء أمريكا سعيها لبناء الديمقراطية, والتعددية الحزبية وحرية العمل السياسي, لكنها كانت تحاول التأثير بتلك العملية, بحكم كونها الدولة المحتلة للعراق, ولها من القوة والتأثير العسكري والسياسي والإقتصادي, ما يتيح لها فعل ذلك بكل سهولة..فكان نتاج ذلك ظهور تيارات وأحزاب سياسية مشوهة التركيب والفكر, رغم إدعاء بعظها مقاومة المحتل, وإضفائها الصبغة الدينية على شعاراتها مرة, فيما حاولت غيرها إدعاء المظهر المدين والعلماني, في طريقة ساذجة لخداع المجتمع..
رغم كل ذلك لكن معظم الأحزاب والتيارات السياسية, تميزت بنوع من الثبات النسبي في مواقفها, فمعظمها قد مالت لمحور دولي أو إقليمي, إلا قلة بقيت تحاول التمسك بوسطية صعبة جدا, جعلتها مرمى لنيران الكل.. لكن التيار الصدري شذ منها بشكل كبير, فتنقل بعلاقاته من إدعاء محاربة أمريكا ومقاومتها كمحتل, ويكون مقربا من إيران جدا, فتحتويه وكل أتباعه ممن أتهموا بقتل قوات التحالف والجيش العراقي على جد سواء, لينتقل فجأة ليصبح حليفا مقربا لدول الخليج المقربة من أمريكا, وليخرج أتباعه ليهتفوا ” إيران برة برة!”
رغم كثرة فساد أكثر ممثلي التيار الصدري في الحكومة والبرلمان, وهو ما أثبتته بيانات زعيمهم المتكررة بطرد مجموعات, قيل أن سبب طردهم لا يتعلق بفسادهم, بل بعدم دفع هؤلاء حصصا كانت مقررة, لمقربين من زعيم التيار نفسه, ويستند متهموهم بذلك, إلى حجم الصرف والبذخ خلال مناسباتهم, وفضائح الأملاك التي تبين أنها تعود لهم لاحقا, حتى وصل لإمتلاك بعظهم جزرا خارج العراق, أو مولات شهيرة كبيرة, ناهيك عن عصابات القتل بالأجرة والإبتزاز المالي, والعدد الكبير من الأسماء الوهمية التي ثبتت, كقوة تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي, وهي كما قيل لم تشترك بمعركة حقيقية أصلا ضد داعش!
لم يكن التيار الصدري بتلك القوة التي هو عليها الأن, فقد كان عبارة عن مجموعة من الجهلة والسذج وشذاذ الأفاق, وكثير من الإنتهازيين وطلاب المناصب, أو من البعثيين والمطاردين لأسباب قانونية أو شخصية أو عشائرية.. إلا عدة جهات وعوامل خلقت هذا “البعبع” الذي هو عليه الأن.. وأولهم كانت أمريكا!
كانت أمريكا تحتاج لعدو شيعي, يعطيها الحق للتدخل في الشأن الشيعي, وورقة يمكنها أن تلاعب بها الشيعة ومرجعيتهم, فزعيم التيار الصدري كان في متناول يدهم في عدة مرات, لكنهم كانوا يكتفون بالتهديد الفارغ بإعتقاله, وهم أغتالوا عدة قادة عراقيين, لمواقف كانت أقل تأثير امن مواقف الصدر, لكنهم كانوا يرونه ورقة مفيدة لهم, في التحكم بالواقع الشيعي..
من ناحية أخرى كان الساسة السنة ومن ورائهم المخابرات الخليجية, بحاجة لمن يمكنهم التأثير عليه والتلاعب بمواقفه في قلب الصف الشيعي, بخدعة وحدة الصف الوطني, والتقارب الشيعي السني, ولديه طمع للسلطة والمال, وقليلا من جنون العظمة وشراهة للزعامة, فكان خيارهم الأمثل هو الصدر الشاب عديم الخبرة..
لكن أهم عامل زاد قوة الصدر وأعطاه هذا التأثير الكاذب وغير الواقعي في الشأن العراقي, هو قيام معظم الأحزاب الشيعية, بمحاولة إستمالته لإستخدامه ضد خصومهم, فأستماله المالكي وحزب الدعوة, ضد المجلس الأعلى الإسلامي العراقي منافسهم اللدود, ونالوا بواسطته دورتين للحكم, وأعطوه مقابلها مناصب مهمة وحساسة, فشل فيها جميعا وأزكمت رائحة فساده الأنوف..
وحاول المجلس الأعلى تطبيق نفس اللعبة مع الدعوة, فأستماله ودخل معه في تحالف إنتخابي, لكنه ” أستفغلهم” ونال بأصواتهم ضعف مقاعدهم, وأنقلب عليهم بأسرع مما تصوروا..
حاول بعدهم الشيوعيون والمدنيون إستغلاله, لكنهم “ركبهم” ونال بأصواتهم مقاعد برلمانية جعلته قوة مؤثرة سياسيا, وصار يتحكم بتشكيل الحكومة ومن يقودها, ثم ليضربهم على “مؤخراتهم” ويجبرهم لإبتلاع ألسنتهم الطويلة, ويجعلهم يسقطون أمام الشارع وجمهورهم..
وعند إندلاع حراك تشرين إحتجاجا على سوء الأوضاع, وأداء حكومة عادل عبد المهدي, رغم أنها تشكيلة جاء بها الصدر, بعد أن “استغفله” المقربون من إيران, لينقلب عليها لاحقا ويتبرأ منها, ويدعي زورا دور المعارض لها, وهو قد نال من مناصبها الحظ الأوفر, وزرع جذورا لدولته العميقة التي وصلت كل مفصل فيها.. لكن المحتجين لم تنطلي عليهم لعبته البالية المكشوفة, فجابههم بالقوة والنار, وعصابات ” القبعات الزرق” التي حاولت أن تدعي أنها لحماية المتظاهرين, لكنها قتلت العشرات منهم بدم بادر, ليعود زعيمهم ويقول وبكل صلافة ووقاحة أنها كانت ” جرة أذن” لهم لتأديبهم, في تهديد واضح وصريح, لمن يريد أن يخرج عن إرادته!
معظم مواقف التيار الصدري, كانت تقاد بتخطيط من جهات خارجية, وفي المرات القليلة التي كان يتصرف هو بطريقته المعتادة, حيث الإنفعال والتصرفات اللا إرادية وغير المتزنة, كان يرتكب أخطاء سياسية كارثية لا يمكن معالجتها, وأخرى ما حصل من سحبه لنوابه وهم الكتلة الأكبر, ليعود لاحقا ويثير الشارع بحجة المطالبة بالحقوق, وهو في حقيقة الأمر يرغب فقط بعودتهم, وإمتلاك الحكومة ومناصبها وكراسيها لا أكثر!
تتصارع داخل التيار الصدري عدة أجنحة, أو في الحقيقة مجموعات من أشخاص تربطهم مصالح خاصة ونفوذ, فهناك مجموعة صلاح العبيدي وهم الأكثر دعما من مليشياته, وهناك مجموعة العيساوي المعاون الجهادي وصاحب فضيحة المولات الشهيرة, وهناك الشيخ المطيري والشيخ النبي, وهناك غيرهم من المجموعات التي لا تظهر للعلانية, وتكتفي بإدارة جباية الأموال والتنعم بملذاتها.. لكن هناك شخصيتين مهمتين ثابتتين, هما المقاول تمكين عبد سرحان مدير بورصة الوزراء والمناصب في التيار, والسيد اليعقوبي ” خانزندار” أموال التيار الصدري, وصندوق أسرارهم المالية..
منذ ظهوره ولحد الآن, فإن أقوى ما يمتلكه التيار الصدري من أوراق تفاوضية هما, أتباعه الذين يغلب عليهم الجهل والسذاجة, الذي طيعون زعيمهم ” أو من ينطق بلسانه” بشكل أعمى, ومستعدون لفعل أي شي, سواء كان خارج القانون او حتى دينهم وعقيدتهم.. ومجموعات مسلحة تعتمد الغدر والخيانة, لتصفية خصومه, رغم كثرة تشدقه بالحديث عن المليشيات الوقحة, وجمع السلاح بيد الدولة, في مفارقة عجيبة وأزدواجية مضحكة.. لكن تساهل خصومه والقوى الدولية المؤثرة في العراق, ومحاولة إستخدامه كأداة ضد بعظها البعض, جعله سلاحا مأجورا وخطيرا في نفس الوقت, لا يمكن التنبؤ بأفعال زعيمه أو حلقته المنتفعة الضيقة, التي كانت يجمدها ويستبدلها بأخرى بين حين وأخر..
وحتى كل من تحالف معه, سواء كان من الشيعة أو السنة أو الكورد, هو يعرف تماما أنه سينقلب عليه فيس أخر المطاف, وسيهاجمه ويسقطه إعلاميا, من خلال جيشه الإلكتروني الذي لا يملك رادعا أو وازعا أخلاقيا أو إجتماعيا أو دينيا.. وكلهم كان يحاول أن ينتفع به, لكنهم كلهم اليوم سيدفعون الثمن, نتيجة لجبنهم في, مواجهته ولو سياسيا..
التيار الصدري أوهى من بيت العنكبوت, فمن تجمعه السرقات والمصالح لا العقيدة أو الفكر, ستفرقه القوة والصمود أما تهديداته وتلويحاته بالقوة المجرمة, ومع سقوط أول تابع له من الفاسدين, سيتقافز الباقون من السفينة, فما يجمع إلا المناصب ومحاولة سلب المال العام.. وعندها سيتأكد الجميع, أن التيار الصدري ليس أكثر من فزاعة فارغة, وليس بعبعا كما يحاول هو وأتباعه أن يصوروا أنفسهم.