أدب

سيرتي مع الكلمة

عبد الغني المخلافي| اليمن
كانت ثمة مؤشرات مبكرة تكشف في مرحلتي الأولى من التعليم عن ميولي الأدبية، كتفضيلي مادة القراءة عن بقية المواد، وحفظي للأناشيد المدرسية والتغني علَى مسامع الأهل بها، هذا بعد استعارة لحن أغنية وطنية يناسب كلماتها؛ ثم شغفي الشديد بسماع القصص عند كل مساء، وكذلك عشقي للطيور والحيوانات. وكثيرًا ما عاقبني جدي كلما وجدني ألعب مع الكلاب والقطط، مانعًا جلوسي إلى مائدته، وكان يستهويني عند الغروب قرص الشمس؛ لما يتركه من اصفرارٍ علَى وجه السُّحب، ولوحات ترتسم كغابات أو كسلسلة من الجبال العالية، تترك في مخيلتي آثارًا، وتُدِخل خيالي الصغيرَ في عوالمَ وهميةٍ، أحاورُ فيها أشخاصًا وهميين. وإذا ما داهمني أحدٌ فزعتُ وانزعجتُ، كما لو كنت في رحلة بعيدة لا أتمنى الرجوع منها، أو في حلم لا أريد الاستيقاظ منه.
ولطالما جمعت الأطفال من الأقارب، طارحًا عليهم سرًّا فكرةَ مغادرةِ القرية، والسفر دون معرفة الأهل إلى جزيرة في عُرْضِ البحر، ونسكنها مع الحيوانات والطيور، فنأكل من ثمارها ونشرب من مائها، متحررين من أوامرَ وعقابِ آبائنا، بعد ما نأخذ ما نحتاج إليه من الطعام في رحلتنا إلى هناك؛ وعندما عزمت أنا واثنان منهم علَى السفر نحو البحر والجزيرة؛ داهمنا الليلُ علَى مخارجَ القريةِ، فانعطفنا خائفين. قلت: يلزمنا نهر يمتد من القرية حتى البحر؛ لتكون رحلتنا سهلة وآمنة علَى ظهر قارب سنصنعه بأيدينا.
كنتُ لمسلسلات الأطفال: (فلونة)، (ريمي)، (عدنان ولينة) عاشقًا، وكان لي كلب أسميته (كابي)، متأثرًا بتلك المسلسلات، متمردًا وعنيدًا، لا أدري سبب ذلك. هل كوني حرِمْتُ من أحضان أبي وأمي المنفصلين حين كنت في الخامسة من عمري، ورفضي العيش مع زوجة أبٍ حاول أخذي من جدي لأمي وإبقائي بالقوة معه، وهروبي من شباك الدور الثاني لبيتنا عند غروب شمس ذلك اليوم، هائمًا علَى وجهي بعد تهديد جدي من أبي بعدم استقبالي في بيته؟ وكيفَ تنبه جدي لفراري ولاحقني وأعادني إلى كنفه، متحديًا التهديدات كلها؟! بعدها أقمتُ مع جدي ولم يعد أبي إلى أخذي، والتحقتُ بمدرستي، مواصلًا إلى الفصل السادس، وفي ذاك العام لم أنجح ورفضتُ إعادة السنة والعودة إلى الدراسة، علَى الرغم من إغراءات جدي، ومحاولات أبي المتكررة لإجباري علَى العودة إلى المدرسة.
كنتُ الولد الذي انتظرهُ أبي طويلًا بعد حرمانه من زوجة سابقة من الإنجاب، عاش معها دون إنجاب خمسة عشر عامًا، أمَّا أمي فقد أنجبت له ثلاثة أبناء، تُوفي الذي بعدي، وبقيتُ مع أخي الذي يصغرني بخمس سنوات.
ذَهبتْ سدى كلُّ محاولات إعادتي إلى المدرسة، وصرتُ أحفظ القرآن بعد ذلك علَى يديْ جدي الذي كان يُعلّمهُ لأبناء قريتنا والقرى المجاورة، ووجدت نفسي عاشقًا قراءةَ القصصِ – كانت من ضمنها سلسلةُ المكتبة الخضراء للأطفال، أذكر أنني اشتريتها كاملة من مصروف جدي ومصروف أبي الشهري – ثم قراءتي للسير الشعبية: (الزير سالم، عنتر ابن شداد، سيرة بني هلال، المياسة والمقداد، وألف ليلة وليلة)، وعشقي لعبةَ كرة القدم التي أخذتْ حين كنت أزاولها كثيرًا من وقتي، وأيضًا حين كنت أتابع نجومها في الصحف والمجلات الرياضية، وتتبع مسابقاتها علَى المستويات جميعها.
وكانت بيني وبين أبي فرقة قائمة، بسبب عزوفي عن إتمام دراستي، وكان يعود من المدينة إلى القرية في نهاية كل أسبوع، وكنت أتجنب رؤيته والالتقاء به.
ظلتْ نوازعُ التمرد والنفور السمةَ الغالبةَ علَى طباعي، في ظل رعاية من جدي وجدتي، وحب و تدليل إلى جوار أخي الصغير، ومناخ قد شكَّلَ وجداني، ونواة ربطتني بالكتابة والقراءة، وتجارب أخرى جعلتني أتجه إلى التعبير عنها بأداء ما اختزلته في سنين نشأتي الأولى من قراءة القصص والكتب التي توفرتْ لي في مكتبة جدي، وحفظي خمسة عشر جزءًا من القرآن علَى يديه؛ ذلك كله قد أكسبني ثراءً لُغويًّا وقدرةً بلاغيَّةً.
كلما تذكرت تمردي المبكر علَى الدراسة انتابني الغبنُ الشديدُ، علَى الرغم مِن مَا وصلتُ إليه اليوم من المعرفة. لا أتخيل كيف سيكون وعيي لو لم أتدارك أمر إتمام دراستي، فاستطعتُ بالقراءة المستمرة الإمساك بحروف الكتابة، مع علمي القليل بقواعدَ النحو والصرف. إنَّ شعوري بأنني أقل من الآخرين تعليمًا دفعني دفعًا لأكون صاحب ثقافة، كما أنَّ تجربتي المبكرة في الحب علمتني أنْ أعبرَ عن مَا يختلجني من مشاعرَ وانفعالاتٍ فوق الورق؛ منغمسًا في قراءة قصص الحب، وحفظ شعر (قيس بن الملوح، وابن ذريح، وعروة، وجميل، وعنترة)، ثم إنَّني لم أترك أي رواية غرامية إلا وقد قرأتها، سواء في أعمال المنفلوطيِّ، أم في ما كتبه نجيب محفوظ، أم في أدب السرير لإحسان عبد القدوس، وذلك بالإضافة إلى ميلي الشديد إلى الرواية الرومانسية آنذاك.
أذكر ما عشتُه من أسى بعد الانتهاء من رواية (مجدولين) المترجمة عن الفرنسية إلى العربية بأسلوب المنفلوطيِّ المؤثر، وكم تأثرت بكتاباته، وقصصه! لما فيهما من تجسيد للقيم والأخلاق.
وكنتُ عندما أكمل قراءة رواية أو قصة أبادر بسردها علَى أصدقاء اعتادوا سماع القصص منِّي، حتى لُقِّبْتُ بينهم بحكواتي القرية. عند المساء يجتمع الأصدقاء من الأقارب والجيران، وبدوري أكون مستعدًّا لسرد قصة أو فصل من رواية قد أتممت قراءته، وعندما تنفد القصص والروايات أعمد إلى حَبْكِ قصة من نسيج خيالي، وأنا في اندهاش لما تتركه فيهم من أثر واضح. لقد اعتدتُ حفظ القصائد مع قريب لي، والتباري معه بأبياتها حسب الأحرف الأبجدية، وصرت واثقًا يومًا بعد يومٍ بأنني يمكن أنْ أكتب ما دمتُ قادرًا علَى التأليف والسرد دون تلكؤ.
أذكر أنني حَاولتُ كتابة بعض الخواطر والقصص في الخامسة عشر من عمري، وكلما عرضتها علَى بعض المدرسين من الأقارب ينكرون ذلك علَيَّ؛ لمعرفتهم أنني تركت التعليم في المرحلة الابتدائية، وكان إنكارهم هذا يمنحني ثقةً بالغةً، ويشعرني بأنني كتبتُ شيئًا قد فاق سني وثقافتي.
وعندما أرسلتُ واحدةً من تلك المحاولات إلى النشر ولاقتْ دون وسيط طريقها إلى النور؛ طرتُ فرحًا بين الأقران، متفاخرًا بنفسي، وعندما اتهمتُ بسرقتها تعززتْ ثقتي بموهبتي أكثر فأكثر.
كنت أحس مع قلة اطلاعي في ذلك الحين أنَّ ما أكتبه يتجاوز الوعى الخاص بي، وكأنَّ ثمة كائنًا خفيًّا يلقنني، وعندما أخذت تجربتي العاطفية منعرج الفراق كتبتُ أكثر من محاولة شعرية، حولتني إلى قيسٍ آخرَ، تُنشر أشعاره في الصحف، وتُردد بين المجالس، وهناك من صار يتابع قصائدي، ولم أكن أتوقع لها هذه المتابعات والإعجابات كلها؛ فلربما لاقتْ هذا القبول لما كان فيها من عاطفةٍ وصدقٍ شديدينِ. وكثيرًا ما كنتُ أجد من يشير إليَّ بأصبعه بعد أن أصبحت ملامح صوري المنشورة في الصحف محفوظةً، وكان هذا يعطيني إحساسًا بأنني غدوتُ نجمًا من خلال ما أنشر. كنتُ وقتها أكتبُ لأعبر عن مشاعري المقهورة، لا من أجل الشعر. وعندما توقفت عن الكتابة والنشر مدة بعيدة وجدتُ من يقول لي: لماذا توقفتَ وأنت ذو موهبة؟ كنتُ لا أتصور بأن ما أكتبه في ذلك الحين شعرًا، لنظرتي الكبيرة للشعر، واعتقادي بأنه لا يكتبه إلا ذوو الشهادات العليا، والشعراء هم أناس استثنائيون، أصحاب خوارق. كيف أكون شاعرًا وأنا لم أتعلم إلا قليلًا من القراءة والكتابة، ولم أحصل من التعليم إلا علَى الابتدائية، بل وأستعين علَى تصحيح ما أكتبه بأصدقاء مدرسين ينبهرون بموهبتي الشعرية التي لا يملكون مثلها، وهم أصحاب شهادات. بعضهم كان يحضني علَى الاستمرار، وبعضهم الآخر كان يغار منَّي، ويغمط حقي من الموهبة والتميز.

وأذكر عندما عرضت علَى أبي قصيدة لي نُشرتْ في صحيفة الجمهورية، وهو الذي كان يتمنى إكمال دراستي، وكان لا يزال متحسرًا علَى تركي إياها، وكيف لم يصدق بأنَّ المنشورَ من إبداعي إلا بعد إدراكه المعنى الذي لا يمكن لغيري التعبير عنه، وكيف غمرته السعادة، وراح يعرض علَى أصدقائه بفخر وغبطة ما نشرته الصحيفة لابنه. كنتُ قد نشرتُ يومئذ عدة قصائد، من بينها قصيدة حَظيتْ بالانتشار والشهرة لما احتوته من تلخيص عميق لتجربتي العاطفية؛ أشاد محرر الصفحة الأدبية بها، واصفًا لي بالواعد، وزاد من تعزيز ثقتي أيضًا أنْ عرض أبي قصيدتي علَى أحد الشعراء الكبار وأنا برفقته، وكيف قيمها تقييمًا جيدًا، وعاد يسألني إن كنتُ قد درستُ علمَ العروض، وكنت لم أسمع به ولا بالخليل بن أحمد الفراهيدي، فقال لي: إنك تكتب بالسليقة، فهززت رأسي وأنا لا أعرف ما السليقة.
كنت أستلقي في الظلمة علَى فراشي عندما أحس أنَّ ثمةَ شيئًا داخلي يعتمل، وأجد الكلمات تنهمرُ وكأنني لستُ أنا الذي يكتبها، وإنما هي التي تكتبني. أذكر موقفًا ظريفًا حصل لي مع صديق مهندس – شريكي في السكن – ينام مبكرا، ولا يأتيه النوم إلا في الظلام، وعندما هبط وحي القصيد كان من الضروريِّ تدوينه، واستوجب هذا منِّي إشعال المصباح حتى أستطيع إحضار ورقة وقلم، وحينما كنت أتحسس بيدي تحت سريري عثرتُ علَى رواية الأديبة الإنجليزية أجاثا كريستي (أغنية الموت)، كنت قد اشتريتها، ورحت أكتب علَى غلافها بسطور متباعدة حتى لا تتداخل، ويصعب علَيَّ قراءتها، وعند ذهابي إلى مفتاح الكهرباء دهست بقدمي ذراع صديقي، فانتفض يردد: أفزعتني يا رجل، حرام عليك. وبعد ما نشرت القصيدة قلت له: هذه في تلك الليلة كانت سبب إيقاظك، فالتفت نحوي قائلًا: لو كنتُ أعرف لسامحتك حتى لو كسرت قدمُك رقبتي.

كانت القصيدة بالنسبة لي حالاً شعوريةً مصحوبةً بالإلهام، علَى شكل دفقات متتالية، إذا انقطع الإلهام والدفق توقفت ولم أستطع إضافة حرف واحد، لكوني جاهلًا – حينها – بصناعة الكلمات، وتراكيبها. وقصائدي تفعيلية، تجدها عند قراءتها موزونة علَى بحر من بحور الشعر، حسبما قاله صديق والدي الشاعر: السليقة هي ما تزن وتربط المعاني، لكن عليك معرفة علم العروض، أنت صاحب موهبة فطرية، اعمل علَى صقلها بالقراءة والاطلاع علَى تجارب الغير، ناصحًا أبي بتشجيعي، وأبي من محبي الشعر والأدب؛ مثقف وصاحب معرفة واسعة، مقارنة بمن حوله، حيث حفظ القرآن، كما قرأه آخرون علَى يديه وهو في شبابه، يوم أنْ كان يوجد ما يسمى بالكتاتيب، وكنت أستعين به أحيانا لتصحيح ما أكتب. أذكر عندما قال لي: لم أعد آسفًا علَى تركك الدراسة؛ فربما لو درستَ ما كتبتَ ما تكتبه اليوم، وهذا يثبتُ أنك ذو موهبة نبوية. وكنت أشعر بالسرور والرضا عندما أشعر بسعادته، وهو الذي كان يتمنى يومًا ما لو أتم دراستي وأحصل علَى شهادة عالية، حتى أعوض ما لم يستطع فعله.
بعد خسارة تجربتي العاطفية انغمست في العمل، وشققت طريقي إلى المستقبل، ليكون لي بيت وعائلة، قاطعًا الصلة بكل أسباب القراءة والكتابة، وأحسست حينها بأنني لم أعد قادرًا علَى مواصلة ما بدأته، وأنَّ كل ما كتبته من محاولات في الماضي كانت علَى إثر تلكَ التجربة؛ وبعد زواجي بعامٍ واحدٍ وجدتُ نفسي وسط فراغ، لا أدري ما كنهه، وكأنَّ ثمة شيئًا مفقودًا، فهل الكتابة وسيلة توازن وشعور بالكينونة؟ سؤال أدركتُ إجابته بعد حالٍ دفعت بي إلى الاكتئاب والتوتر، ثم التصادم مع زوجة لا تملك إلا الصمت أمام عصبيتي واختلاقي لمشاكلَ دون أسباب، وأنا الخارج من تجربة حب لم يكتب لها التتويج، والمتزوج بليلة وضحاها بطريقة تقليدية؛ كان عقد قراني بعد عزوفي ورؤيتي المختلفة لفكرة الزواج في مجتمع القرية.

زوجتى كانت صبورة، وأنا أعيش ظروفًا قد لا تستطيع احتمالها امرأة أخرى: سكني في بيت الوالد، ودخلي المتواضع من عملي لدى أحد الأقارب، وعلاقاتي المستنفدة لغالبية وقتي، وبعثرة الفلوس علَى الكِيْفِ، تلك الفلوس التي تأتي من مورد لا يكفل وضعًا اجتماعيًّا مستورًا، وهواية وجدتها من جديد تطفو بقصائد اجتماعية كان لها دويٌّ.

كنتُ في المدينة أعمل وعند عودتي في نهاية كل أسبوع إلى القرية أجدها في نزاعاتها غارقة، بالرغم من بساطة أهلها، فتنشب النزاعات بسبب عراك بين أطفال، أو بسبب دخول ماشية في حقل، أو تغيير مجرى ساقية؛ تصل غالبًا إلى حد الاشتباكات.

و استأنفت الكتابةَ بقصيدة عنوانها: (الحقد)، وحُبًّا في الشعر شكلت مع قريب يعمل مدرس لغة إنجليزية ثنائيًّا في تبادل الكتب والنقاش، وعرض ما نكتبه علَى بعضنا بعضًا، مأخوذين بكل حواسنا إلى الكلمة، علَى الرغم من مسؤولية العائلة والوضع الذي لا يسمح بالتفرغ. تعتب وتشتكي زوجتي عندما تجدني منشغلًا بالقراءة والكتابة، مستنفدًا معظم دَخْلِي في شراء الكتب والصحف والمجلات، وتركي العمل أحيانًا، والذهاب إلى ندوات أدبية، وملتقيات ثقافية مع أصدقاء لهم ميولي نفسها.

توسع نشاطي عند انتقالي إلى العاصمة صنعاء، واكتسبتُ كثيرًا في فضاءات شكلتْ أدواتي وطورت من قدراتي، سواء في الشعر، أم القصة، أم المقالة، حتى إنني جعلتُ من مكان عملي ملتقًى يوميًّا في مختلف الفنون، مشغوفًا بالفن ومسكونًا بهوسِهِ، أنام وأصحو عليه. خمس سنوات وسط ورشة تثاقف واطلاع، وأصدقاء كنت أكتب رسائلهم الغرامية مقابل تخزينة (قات) عند كل مساء، وأنا الذي لا أستطيع التوقف عن تناوله ليوم واحد، أو لا أستطيع من دونه كتابة حرف واحد، فحياتي لا تطيب إلا من خلال أغصانه. وكيف أتقمص مشاعرهم برسائلَ علَى غرار رسائل مي زيادة وجبران؟! ولو قدر لي الاحتفاظ بنسخ منها لكنتُ احتفظت في ذلك الزمن بأجمل ما كتبتُ، وخاصة ما كتبته في تجربة صديقي الخطاط وزبونة كانت من أجل وسائل مدرسية تتردد عليه، وكيف تعجبتَ عندما انقطعتُ عن كتابة الرسائل له! وصار هو من يكتب رسائله لها؛ فما كان منه إلا أن قال لها: كنتُ أتحدث في البدء معك بقلبي أما الآن بعقلي، وعندما لم تنطلِ كذبته عليها أتى يرجو عودتي إلى الكتابة؛ ولا أنكر استفادتي الكبيرة من تلك الرسائل، والتي كانت بمنزلة الترويض اليومي لخيالي وقريحتي.
وأذكر صديقًا آخرَ، وقع في حب ممرضة، أُسْعِفَ إلى عيادتها بعد حالِ سُكرٍ، وأصبح يتردد بعدها بحجة التوعك، طالبًا منِّي كل ليلة رسالة، وصرتُ أكتب وكأنني من يعيش التجربة؛ فيحضر لي القلم والورقة، ثم أرتجل بعد أن أتمثل مشاعره. كنتُ أيامها في أوج توهجي، أقضي جل أوقاتي بالقراءة، وصارَ الارتجال لتطويع اللغة، وتدريب البديهة تمرينًا يوميًّا. أتحدثُ كأنني أكتب، وأكتبُ كأنني أتحدث، مما جعلني عند المحاورة لا أتعثر. كلما التقيتُ بصديقي هذا تذكرت تلك الرسائل، وتأكد لي أنَّ الكتابةَ عمليةُ مراس ودربة، فهي مثل أي مهنة إذا انقطعت عنها افتقدتَ اللياقة والأداء السهل، كالرياضي حين يفقد مستواه إذا عن تمارينه انصرف وإن كان صاحب موهبة ظاهرة. تلك المرحلة في صنعاء كانت مرحلة تكويني، لو استمرت دون انقطاع لكانَ لمستواي الأدبي علامة فارقة؛ لما كنتُ عليه من تطور واستيعاب لافتينِ لكثيرٍ من المتفرغين للأدب، والعاملين في الإعلام، وثمة من كان يستعين بأسلوبي لضبط كتاباته الأدبية وتقاريره الصحفية، ويراني بعضهم قادرًا علَى العمل بأي وسيلة إعلامية لموهبتي الحوارية، وتمتعي ببديهة فذة، وطلاقة لسان.
وأذكر صديقي الشاعر الذي دعاني في ليلة ماطرة، ليطلعني علَى آخر نصوصه في عمارة خالية، آيلة للسقوط – من ثلاثة أدوار – يسكنُ بمفرده إحدى غرف دورها الثالث، ودون إنارة وجدتُ طوابقها الثلاثة، وعلَى ضوء قدَّاحته المتقطع صعدنا إلى الأعلى؛ قطرات الماء المحتقنة تسقطُ فيرتد كالتصفيق صداها علَى السلاليم والجدران، وكأننا في كهف أو مغارة. عندما تخطينا إلى الداخل عتبة غرفته وجدناها غارقة بكل ما فيها: فراشه، ثيابه، كتبه، مسودات نصوصه؛ وسط حال من البلل وقفتُ متسمرًا وهو يكور قميصه ويرمي به القطرات العالقة في السقف.
قلت: لا يمكننا المكوث هنا، تعال معي وفي الغد انظر ماذا ستفعل.
قال: إن كنتَ ترغب في المغادرة غادر.
قلت: كيف وسط هذا الظلام أتخطى الممر نحو الأسفل؟
قال: تدبر أمر طريقك.
وفي حلكة دامسة انزلقت أقدامي فيها أكثر من مرَّة هبطتُ، وعند المخرج وجدت الوحلَ يغطي ملابسي، والأزقةَ تحت المطر المنهمر غارقةً، مثقًلا بالبلل والهموم، مفكرًا في حال صديقي الشاعر، الذي يعمل مدرسًا للغة العربية، ويعول ثمانية إخوان، تركهم والده المتوفى، وكيف أنَّ الفاقةَ قد دفعت به إلى السكن في مكان مهجور كهذا؟!
وهذا الصديقُ الصحافيُّ الذي ربطتني به صداقة متينة ونقاشات في مختلف القضايا والهموم، والبحث عن الحلول والآليات التي يفترض العمل بها من قِبل الحكومة، وإخراج الوطن من مشاكله الاقتصادية، وتخليصه من الفساد والمفسدين؛ صديقي هذا من المتشيعين للناصرية، ويرى بأنْ لا خلاص للوطن إلا بها، ويتغنى دائما بأيام الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، وما عاشته البلاد والعباد من رخاء وعدالة وإنصاف في مدة حكمه، ومثله الأعلى ونبيه الصادق هو جمال عبد الناصر. يبلغ من العمر ما يقارب الخامسة والثلاثين، ولم يحقق شيئًا من أحلامه التي ينشدها، سبق له الزواج من ابنة عمه، وانتهى زواجه بالطلاق، فأصبحت الصحافة شغله الشاغل. في كل صباح يأتيني محملًا بهموم ومعضلات وإشكالات من تلك التي يعج بها الوطن، ويسعى في نقاشاته إلى مخرج منها، وقد التقيه وهو لا يملك قيمة وجبة فطوره، دون أن ألمس شيئًا من الوهن في حماسته، وكنتُ أتعجب من تلك الهمة المشتعلة والإرادة السامية فيه، وذاك الحب غير العادي للصحافة، والكتابة، والاستزادة من المعرفة مع عسر حاله وصعوبة حياته، وكيف كنا أحيانًا نمشي ونثرثر بهمومنا ومشاكلنا بعد تخزين (القات) ابتداءً من شارع (مازدا) حتى حديقة التحرير والعودة مسافة ليست قصيرة، غير شاعرينِ بالتعب، ولا منتبهينِ للوقت.
عمل صديقي في صحيفة الثوري، ثم في صحيفة العروبة، وفي الأخير استقر حرفه في صحيفة الثورة، وسبق له السفر إلى ليبيا، وبعد أنْ عاد عمل في ما يسمى باللجان الثورية التي كان يمولها في ذلك الحين العقيدُ القذافيُّ، وقد انتهى به ذلك النشاطُ السريُّ إلى قبضة الأمن السياسيِّ، وأُوْدِعَ في السجن، وتعرض فيه للتعذيب، ثم خرج منه يشك في كل حركة تحدث من حوله، سواء أكانت طبيعيةً أم غير طبيعيةٍ، وكان يخشى المشي في الأماكن المظلمة. أذكر مرَّة أننا غادرنا غرفته وعندما عدنا إليها وجدنا قفل بابها مكسورًا؛ فحزم أمتعته من الكتب والمنشورات، بعد ما اعتقد بأنه مراقب، وأنَّ الأمنَ السياسيَّ هو مَن اقتحم غرفته، بالرغم من محاولة إقناعي له بالعدول عن مغادرة الغرفة، ولكن دون فائدة. وكيف وصلتني بعد سفري أخباره المؤلمة، وما آلت إليه حاله من تدهور وصل به إلى ما يشبه الجنون الكامل! وهذه هي حال معظم المبدعين في وطن لا يعيش فيه إلا رجل في السُّلطة، أو ثريٌّ، أو لصٌّ؛ وأذكر أسئلتي المتكررة له حول الخلاص من أحوالنا المحبطة، وعن كيفية تربية أولادنا وتعليمهم، وتوفير حياة كريمة لهم؛ فكان جوابه دائما: يلزمنا لتحقيق هذه التطلعات معجزة سماوية.
وثمة كثير من المبدعين إذا ما اجتمعت بهم في ملتقى أدهشتكَ ثقافتهم وتنوع إبداعاتهم، وفي الأخير تكتشف أنَّ الواحدَ منهم لا يملك قيمة مشوار بسيارة الأجرة التي ستقله إلى منزله، وكثيرا ما كنت أتركَ عملي وأذهب لمثل هكذا ملتقيات وأنا غير قادر علَى توفير احتياجات عائلتي الصغيرة،
وعندما ذهبتُ إلى الغربة وفي جعبتي كثير من الطموح والأحلام؛ اصطدمتُ بعد ابتعادي عن الوطن خمسة أشهر بقيود، وأنا ذلك الطائر الذي لا يعهد الأقفاص، وكيف كان علَيَّ التطبع ببيئة وواقع يختلفان عن حياة كان لي فيها طقوس وأهواء.

كادت صعوبة السنوات الخمس الأولى في الغربة تعيدني إلى الوطن دون فائدة، لكن استقر بي الحال نحو بناء منزل لعائلتي، وتحقيق حُلم أخي بزواجه بمن يحب، وتحقيق أهداف ذات أهمية، ونجاحات متعاقبة مع شعوري بالفقدان والتَجَزُّؤ. وأذكر ذلك الجار الشغوف بالأدب، وكيف نمتْ صداقة متينة بيني وبينه، وقد نصحت له بالاطلاع علَى كتب سبق لي قراءتها، ووصفي لروايات ودواوين جلبتها والدته عند سفرها إلى الخارج وأودعها عندي، وكنتُ منقطعًا عن القراءة عدا القليل من المطالعة، ووقوع تلك الكتب في يدي أعادني بهمة عالية بعد انصراف استمر مدة عشر سنوات، فقدت فيها كثيرًا من أدواتي المكتسبة.
كانتْ الكلمة هي قدري المحتوم، وسط إمكان اقتناء الكتب والتصفح عبر الإنترنت مع صديق جمعتني به قواسم مشتركة، بالرغم من تحذيرات والده الذي يرى الليبرالية في كل من يقرأ الفلسفةَ والشِّعْرَ الحديثَ، وعندما رثى صديقي علَى صفحته في الفيس بوك شاعرًا عُرف بعلمانيته تلقى توبيخًا قاسيًا من أهله، وقد أتاني محبطًا، فشددتُ من أزره، ودفعتُ به إلى المواصلة دون انكسار أمام معوقات سيعترضه كثيرٌ منها، وتشجيعه علَى المضيِّ إلى هدفه الذي يفترض أن يلاقى بالتشجيع، وهو ذو موهبة قادرة علَى التفرد، وعلَى نقيض شباب متسكع دون أي نشاط إيجابيٍّ.
عرفته متأثرًا في بدأ مشواره الأدبيِّ بالموروث؛ بعدها أطلعته علَى تجاربَ شعراء معاصرين، منهم: درويش، ونزار قباني، والمقالح، وأمل دنقل، وأدب نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، والعقاد، وجبران؛ ثم قمنا بشراء: البؤساء، وأحدب نوتردام لفكتور هيجو، ومسرحيات وشعر شكسبير، والإخوة كرامازوف والجريمة والعقاب لدوستويفسكي، والعقلانية لديكارت، وهكذا تكلم زرادشت لنيتشه، وكتب أنيس منصور، وغادة السمان، وروايات واسيني الأعرج، ومالك حداد، ناهيك عن أُمَّاتِ الكتب العربية، ومعارفَ طورتْ مداركنا؛ فنقرأ ونناقش. وكان كلانا يبتهج إذا ما كتب أحدنا نصًّا شعريًّا أو أدبيًّا، إلى أن أصبح صديقي في ساحة بلده الشعرية اسمًا معروفًا، وشارك في المسابقات، وحصل علَى جوائزَ عززتْ من ثقته بموهبته، وقد أخذت علاقتنا تتعمق يومًا بعد يومٍ.
*
مع صديقي هذا أتيحت لي معرفة أصدقاء لهم الميول ذاتها، وآخرين جمعتني بهم الصدفة، مع عمل يتطلب النوم مبكرًا، ووقت دوام يبدأ في التاسعة صباحًا وينتهي عند الثانية عشر ليلًا، إلا أنني عملتُ علَى الاجتزاء من وقت نومي لممارسة هواية أكون دونها كبقية المغتربين الذين يعملون نهارًا وينامون ليلًا، وقد تجدني منصرفًا عن ميولي تلك لظروف معينة أو ضغوطات حياتية ما، وربما ضعفت همتي أحيانًا، فأكون عاجزًا عن التعاطي مع القراءة والكتابة، محبطًا، ثم متشككًا في موهبتي، ومستحسنًا الانصراف عنها. أَخبرُ همتي في صعود وهبوط بالكتابة. وما أنتجته من كتابات يجعلني أؤمن بموهبتي.
ثمة مراحل من عمري كانتْ تختلف من حيث الحماسة وكذا الرغبة الجامحة في الظهور، وحب التميز وإبراز القدرات، خلافًا عن مَا أعيشه اليوم من عبء المسؤوليات، وثقل هموم الحياة، وانشغالي بتلبية احتياجات العائلة؛ فمن الصعب العيش للهواية فحسب، وترك الالتزامات كافة، كما لا يكفي إعطاء الأدب نصف الاهتمام، كي نصل إلى ما نشتهي من الإبداع. يقول توفيق الحكيم: لا يكفينا تثقيف العقول، بل علينا تأديب الحواس.
يجعلني حبي للكلمة أعاود نشاطي كلما وهنت عزيمتي، ويفسح لي مجالاً للانطلاق، علَى الرغم من المساحة الضيقة والحيز الزمني المحدود
في نهاري.
عند فراغي أجلس إلى القراءة أو الكتابة أو التصفح عبر الإنترنت والمشاركة في مواقعَ التواصل، كفيس بوك، وتويتر. وإنَّ بعضًا من أقاربي يعتبرون ما أنا فيه جنونًا ذهب بي إلى العزلة، وإهدار الوقت، وأنا بدوري أتساءل عن لعنة لحقتْ بي، ولا أريد فكاكًا منها! أقضي ليلي مع القراءة، ومحاولة الكتابة، والبحث في مواقعَ الأدب عن الجديد.
أوجدتْ لي موهبتي بين المثقفين مكانةً أعتز بها، وكلما سألني أحدهم: كيف وصلت إلى هذا القدر من المعرفة والإبداع، علَى الرغم من أنك لم تكمل تعليمك، ولم تدخل الجامعة؟ أجيب بإجابة العقاد: لأنني لم أكمل دراستي، ولم أدخل الجامعة.

اعتمدتُ لشراء ما أحتاج من الكتب مبلغًا شهريًّا، كوَّنتُ به مكتبة تضم بين رفوفها عناوينَ متنوعةٍ، وطبعت – علَى حسابي الخاص – كتابي الأول،
بالرغم من حركة نشاطي المحدودة، وظروفي التي لم تكن مهيأة لذلك، إلا أنني لا أنكر ما منحتني إياه الغربةُ، والذي كان من الصعب علَيَّ تحقيقه أو الحصول عليه داخل الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى