كسر الهيبة.. قصة قصيرة
بقلم: عصري فياض
كان الاعتقال الإداري للأسير زياد العامر الذي جرى في بداية إنتفاضة الحجارة في العام 1988 لثلاثة أشهر غير كافياً للتعرف على ما يجري في سجن جنيد الواقع قرب مدينة نابلس،وغير كافيا للتعرف على ممارسات إدارة المعتقل تجاه الاسرى والمعتقلين كنوع من العقاب والتعذيب النفسي الممنهج ضدهم،فبعد أن أمضى العامر أشهره الثلاثة،خرج متحفزا للمشاركة بالانتفاضة بزخم وقوة،وكان مَفْصَلاً حاسماً وحازماً بها لجهة عنف التصعيد والمواجهة في مخيّم جنين،بل لم يتوقف تصوره الدائم لتطويرها من المقاومة الشعبية بالحجارة والزجاجات الحارقة والقضبان الحديدية،لامتلاك السلاح واستخدامه بداية ضد المتعاونين مع الاحتلال داخل المخيّم…
وصلته أنباء عن وجود مسدس في بلدة اليامون الواقعة غرب جنين،شد الرحال مع صديقه نضال إلى هناك،وتمكنا من ابتياع ذلك المسدس من جيوبهم الخاصة بسرية تامة،فتضاعفت في نفسه آفاق تطور هذا الســلاح الذي كان وما زال حلمـــا للكثيرين …
قال لصديقه … لا بد من تصفية عميل لردع باقي العملاء لنتمكن من إغلاق جبهتنا الداخلية من الاختراق…فمن هو أحق بالتصفية….؟
رد نضال :- تلك المرأة الشمطاء العفنة الساقطة…فعمالتها واضجة جليّة،ولا بد من الإجهاز عليها لتوجه رسالة للمحتلين بأن أعينهم الوقحة داخل مجتمعنا وشعبنا لا بد من فقئها…
خططوا،وتوجهوا ليلا الى عمق ذلك البيت،تسلقوا الحائط،ونزلوا في رحاب البيت الصغير…صحت على حركتهم بعد أن كانت تغط في نوم عميق ،ولما رأتهم ملثمين يحملون مسدسا،شهقت من فرط خوفها،فعالجوها بعدة رصاصات فماتت على الفور.
***
لم يكن الأمر ليبقى سراً لفترة طويلة،فقد تمكنت قوات الاحتلال وأجهزتها المخابراتية من إعتقال كل من زياد ونضال،وحط بهم المكان في سجن جنيد بعد فترة طويلة من التحقيق الطويل الذي كان خيطة الأول الشاب الذي باعهم المسدس،ليعود العامر مرة ثانية إلى حيث كان قبل أشهر،لكن هذه المرة المقام قد يطول،فبدأ العامر الذي يمتلك كريزميا قيادية من التفاعل مع الأطر والهيئات التنظيمية التي تقود الاسرى في المعتقل… والانضمام إلى جلساتهم التنظيمية التي غالبا ما تتحدث عن ممارسات ضباط وعناصر إدارة السجن وخصوصا نائب مدير السجن ومسؤول الامن فيه القادمين من تجربة قمعية سابقة أدت لاستشهاد أسرى مضربين فرُقيا على بطشهم هذا من مكلفين إلى ضباط كبار … الحاجة هنا أصبحت تقتضي الصمود ومواجهة هذه الممارسات.
تحدثوا كثيرا عن الضابط “نظيم” وهو من أصل درزي،مخلص جدا للاحتلال،ولا يعتبر محركا للعملاء الذين يقوم جهاز الشاباك الاحتلالي بالزج بهم بين الاسرى من حين لاخر،وصلة الوصل بينهم وبين جهاز ” الشاباك ” الإسرائيلي فحسب،بل يسعى من خلال حركاته ووقوفه المتكرر على نوافذ الزنازين الصغيرة على التحديق طويلا بالاسرى لبث التوتر بينهم، وجعلهم يشككون ببعضهم البعض وإستفزازهم،وقد كان العامر يسمع عنه،ويلاحظ تلك الحركات التي تزداد يوما بعد يوم… حتى أن العامر إقترح على التنظيم قيام بعض الاسرى بردع ذلك الضابط المغرور من خلال مجموعة توجه له اللكمات وتدوسه على مرأى من الجميع،حتى يتوقف عن هذه الممارسات،فكان جواب التنظيم :
لا…. المعتقل الذي يوجد فيه ثمان مئة معتقل لا يحتمل ردة فعل الإدارة خصوصا ونحن الان في أوجه الانتفاضة،والإعلام مسلط على أحداث الساحات المشتعلة في الوطن،وإذا ما قمنا بمثل هذا قد ينفرد بنا الجلادون ويقومون بقمع الاسرى والمعتقلين بطريقة قاسية.
العامر صمت بالرغم أنه لم يقتنع بذلك المبرر،وقرر أن يتولى ذلك بنفسه،لكنه لا يريد مفاجئة الكل،ذهب الى مسؤول كبير بين الاسرى وأبلغه أنه سيقوم بتوجيه ضربة لذلك الضابط مهما كلف الثمن…
رد عليه المسؤول : إياك .. ستضعنا في مواجهة غير محسوبة،وغير محضر لها
رد العامر : ها أنا قد أبلغتكم….لن أصبر على ممارسات هذا الحقير مهما كان الثمن.
***
مرت أسابيع،وما زالت ممارسات “نظيم ” الاستفزازية تتصاعد،وكان آخرها قدومه إلى باب ساحة الفسحة التي يخرج اليها الاسرى ساعة ونصف في الصباح وساعة عصرا،الفسحة التي يتمشى فيها الاسرى وترى أجسادهم الشمس من خلف السياج والأبراج والجدران الاسمنتية العالية التي تلف هذه المساحة المائلة التي لا تتعدى 120 متر مربعا … في هذه الساحة يتمشى الأسرى جماعات أو فرادى،وفي صدر هذه الفسحة طاولة تنس يمارس بعض الاسرى هوياتهم بترتيب يقوده مسؤول….ينظم اللعب عليها وقت الفسحة،وعند الانتهاء،يقوم بجمع كرات الطاولة ويدخلها معه للقسم،يدخلون من باب هذه الفسحة الذي تبلغ ابعاده متر ونصف عرضا ومترين ارتفاعا تشغلها كتلة حديدية سميكة….
في الايام الاخيرة،وإمعانا في قهر الاسرى وتعذيبهم نفسيا،بل وازدراءهم اعتاد “نظيم” أن يقف على ذلك الباب قبل دقائق من إنتهاء وقت الفسحة،ويدقق بعينه الحادة بكل من تقع عينه بعينه،يدقق،يتأمل..وعندما يدخل الاسرى عائدين الى زنازينهم يبقى واقفا حتى يمروا من جانبه جميعا… هذا اليوم… جاء وأسند جسمه ومد يده الى الباب….وأخذ بممارسة طقوسه اليومية…صاح السجان بعد أن نظر للساعة قائلا : شباب … إنتهت الفسحة
بدأ الجميع بالعودة للقسم والغرف…العامر الذي إعتاد انتعال بسطار ثقيل،أراد أن يتلقف هذه الفرصة،تظاهر بالتأخر حتى دخل جميع الاسرى للقسم… تقدم من “نظيم” حتى كاد أن يصدمه … ضرب على كتفه وقال له :
: إبتعد أريد أنأ امر
فقال “نظيم” مستغربا من هذه الجرأة: مر من هنا مشيراً الى الجانب الاخر
أصر العامر : قائلا : لا أريد أن أمر من هنا… وأشار الى مكان جسم” نظيم ” الذي يغلق نصف الباب
استهتر “نظيم” بطلب العامر،وطلب منه أن يمر من تحت إبطه مشيرا للمنطقة الواقعة تحت يده التي يستند عليها… بقصد الاستحقار والإذلال،عندها شعر العامر أن الفرصة قد حانت،فلقفة من قبته وركل الباب الحددي بقدمــه حتى أغلقــــه،وجَّر ” نظيم” الى داخل الفسحة وهو يوسعه شتما وتحقيرا،وشرع بلكمة وضربه بعنف على وجهه حتى ألقاه أرضا…
حاول السجان إبعاد العامر عن “نظيم”،لكن مسؤول طاولة التنس من الأسرى التفت لما يجري،فشرع هو الاخر بضرب السجان لمنعه وإبعاده عن إيذاء زياد الذي أسقط “نظيم” أرضا وشرع بالدعس على أنفه ووجه حتى فاض الدم من أنفه وجروح في وجهه…عندها انطلقت صفارات الإنذار،وما أن وصلت القوات المستدعاه للقسم حتى كان “نظيم” قد تهشم وجهه وإنطبعت فرزات بسطار زياد على جبينه،وديست رتبه ونياشينه وكبرياءه…اشتعلت الأقسام بالاحتجاج تباعا،فأطلقت الغازات،وشرعت إدارة السجن بالقمع الوحشيّ لكافة الاسرى…كانت مواجهة حادة إنتهت بضرب مبرّح للعامر ونقله للزنازين والحكم عليه بالعزل شهرين إنفرادي …
ضحك العامر ملء قلبه وهو يُلْقَى في الزنازين بعد الاعتداء المبرح عليه،والذي تلقاه على يد قوات الاقتحام …لقد انتصر …واستطاع كسر هيّبة كرامة ورتب هذا المتعجرف “نظيم”…الذي نقل من واقع الصدمة على الحماله للمشفى،خارجا من المعتقل إلى غير رجعة بعد أن تهاوت هيّبته تحت نعال زيـــاد العامـــر.