د. أحمد مرسي ـ رحمه الله ـ وجهوده في صون تراث الأوطان والموروث الشعبي للبسطاء

د. حنان الشرنوبي | ناقدة وأكاديمية ـ مصر

«التراث هو الماضي الذي يعيش في الحاضر، ويمكن أن يستمر في المستقبل». د. أحمد مرسي

كانت البداية من أسرة ريفية شعبية بسيطة، وميلاد أحد أفرادها عام 1944، ثم التحاقه بكلية الآداب – قسم اللغة العربية، وتخرجه فيها عام 1963، بعد أن درس فيها مادة الأدب الشعبي، فاكتشف أن الأغاني التي كان يسمعها في بيئته الريفية بعد عودته من المدرسة لجمع القطن من الأرض، وفي الأفراح والمواسم، والحواديت التي كانت تسرد له، والأمثال التي تلقى على مسامعه ولا يهتم بها؛ إنما هي علم يدرس هذا المجال.

لم يكن هناك متخصصون في دراسة تلك المأثورات الشعبية التي تضم الأدب الشعبي والعادات والتقاليد والحرف والفنون..فاختار أن يتخصص فيها، تحت إشراف الدكتور عبدالحميد يونس، فقررت حينها الدكتورة سهير القلماوي، أن يلزم كل طالب أستاذه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه؛من أجل دقة التخصص، فلزم الدكتور أحمد مرسي أستاذه الدكتور عبدالحميد يونس، ورافقه سنوات طويلة، فذكر له قبل أي شيء أن الأستاذ العظيم يصبح كذلك على يد طالب علم عظيم. ثم أخبره كلمة أستاذه الشيخ أمين الخولي، بأن الطالب يعني الإضافة العلمية لأستاذه؛ أي يتبعه، ثم يتجاوزه بخطوة زمنية، فيجب ألّا يقل أو يتخلف عنه، أو يتساوى معه، فيصبح نسخة ثانية من أستاذه؛ ولكن لابد من الإضافة في مجال البحث.. وهكذا قام بتوجيهه للعمل الميداني، فكان د. مرسي أول من قام بالبحث ميدانيّاً في الجامعة المصرية دون معرفة سابقة.. فكم واجه من صعوبات وإحباطات في مجال لم يكن معروفاً حينها! فعمل على رصد المؤثرات التي تتشكل في مصر، والمراحل الانتقالية التي تشكل ثقافة الشعب ووعيه. وكيفية المشاركة في بناء الإنسان. فجمع التراث في كلمات (مصر مبدعةُ الحضارة، والمحافِظة عليها، والمضيفة إليها)؛ أي أن مصر هي التي أنشأت حضارتها، واستوعبت حضارات أخرى، وحافظت عليها، وأضافت إليها.
وقد استقى الدكتور أحمد مرسي خبرته وتعلّم من المواطن المصري البسيط أضعاف ما اكتسبه من الكتب العربية والإسبانية والتراجم، بجانب مشاركاته في المؤتمرات، وعمله في الجامعات العالمية.. وظل محافظاً على روح مصر الشعبية بداخله، في تأكيد على أن المصري يحمل بداخله زخماً حضارياً وثقافياً يبحث عمّن يستخرجه «ليبني في كل حارةٍ هرماً».

وكمعظم الباحثين، اعتبر عالمنا الجليل رسالته في الماجستير هي الأقرب إلى نفسه، وعنوانها «الأغنية الشعبية في بحيرة البرلس»، حيث أستأجر من أجلها حجرة متواضعة على بحيرة البرلس؛ ليصطاد مع الصيادين، ويشاركهم أغانيهم وطقوسهم واحتفالاتهم.

أما أصعب ما واجهه فهو البحث عن «العديد»، وهي بكائيات ترثي المتوفى.. فكيف سيجمعها من بين نساء يبكين أحبّاء فارقوهن.. وعن أخطر ما طرحه، ففي كتاب «الخرافة في حياتنا»، رصد عبر ربع قرن كيف يسري التفكير الخرافي الذي يعزّزه البعض..
والخرافة توجد في أكثر البلاد تقدماً، حيث يوجد فيها من يقرأ (الطالع)، فيتفاءل به، أو يتشاءم منه.. وعلى الباحث أن يحلل الظاهرة ويرصدها بعيداً عن نظرة الدين لها. ويرى مرسي أن الخطر الحقيقي هو سيادة التفكير الخرافي في المجتمع، والأخطر هو أن يسند هذا التفكير الخرافي بنصوص دينية لا علاقة لها بهذا التفكير.

والتراث الشعبي كذلك قد يمثل خطراً على المجتمع، إذا أُهمل، ولم يجد من يهتم به، وينقّه من الشوائب الدخيلة.. فقد يُستغل هذا التراث ضد بناء الإنسان والمجتمع، عن طريق تغيير السياق؛ لذلك علينا رصد ما كان وتوثيقه على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. كذلك توثيق كل ما هو حديث؛ لأنه سيصبح تراثاً فيما بعد، ولذلك ينبغي التنبّه إلى هذا.

ولقد ذكر في إحدى ندواته، أنه لا يوجد ما يسمى بالفولكلور، بل التراث الشعبي، أو المأثورات الشعبية، كما أن مصطلح الفنون الشعبية قد جرى حصره في فنون الرقص والغناء الشعبي، وأن المغنين الشعبيين قد دخلوا الأوبرا، بعدما كان الأمر حلماً جال بخاطر أستاذه الدكتور عبدالحميد يونس، الذي أخبره برغبته في تحقيق هذا الحلم.

أما حلم الدكتور أحمد مرسي نحو التراث فيتمثل في أمنية خروج باليه ذات الهمة، وأن الثقافة العربية هي الوحيدة التي أنتجت سيرة كاملة لامرأة، وأنه إذا كانت هناك أوبرا عايدة، ففي المقابل يمكن أن تكون هناك أوبرا ذات الهمة، كما أن عروض الأوبرا هي في الأساس مستقاة من التراث الشعبي، وأن كورساكوف على سبيل المثال قدّم ألف ليلة وليلة وسندباد وغيرهما من قصص التراث الشعبي، وبالتالي فمن المنطقي أن نكون نحن أولى بتراثنا، وأن ننقله نحن إلى الأوبرا.
ولقد شغل الدكتور أحمد مرسي مناصب أكاديمية عدة، منها عمادة كلية الآداب بجامعة بني سويف، وعمادة المعهد العالي للفنون الشعبية، كما عمل أستاذاً زائراً في العديد من الجامعات خارج مصر، كما في هارفارد وبنسلفانيا بالأمريكتين.

للدكتور مرسي العديد من المؤلفات، منها:
– الأغنية الشعبية: دراسة ميدانية في منطقه البرلس، عام 1966.
– المأثورات الشعبية الأدبية: دراسة ميدانية في منطقة الفيوم، عام 1969.
– دراسات في الفولكلور (مع آخرين)، عام 1971.
– الأغنية الشعبية، عام 1971.
– مقدمة في الفولكلور، عام 1975.
– الفولكلور والإسرائيليات، عام 1976.
– الأغنية الشعبية: مدخل إلى دراستها، عام 1982.
– المأثورات الشفاهية (ترجمة)، عام 1982.
– الأدب الشعبي وفنونه، عام 1985.
– عالم نجيب محفوظ (بالإسبانية) مع آخرين، مدريد، عام 1989.
ـ كما نشر له الكثير من المقالات والأبحاث في المجالات المتخصصة.

كذلك حصد الكثير من الجوائز والأوسمة التي شرفت به، منها:

– جائزة الدولة التشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1985.
– نوط الامتياز مصر، عام 1991.
– وسام الاستحقاق المدني إسبانيا، عام 1992.
– وسام الفنون الجميلة إسبانيا، عام 1993.
– جائزة الدولة للتفوق في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1999.
– جائزة جامعة القاهرة التقديرية (جائزة نجيب محفوظ للإبداع الفكري والأدبي)، عام 2006.
– جائزة الدولة التقديرية في الأدب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2006.

وبهذا أصبح واحداً من أهم من بحث وجمع التراث الشعبي الشفهي وحقّقه، فقدم الكثير من المعارف التي كانت غائبة عن تراثنا وثقافتنا الشعبية التي توارثتها أجيال، ومن بعدها أجيال، فتأثرت بمتغيرات كثيرة، فقدم لموروثنا قيمة كبيرة، بعد أن حافظ على هويتنا على مدى عقود طويلة.

وبعد هذه الحياة الحافلة، والمعاناة الأخيرة، يترجل الفارس عن صهوة جواده، وتفقد الأمة قامة ثقافية شامخة، وقيمة أكاديمية متفرّدة فجر الأربعاء 20 يوليو 2022 عن عمر ناهز 78 عاماً من العطاء الثقافي والأدبي المنتمي لتراث البسطاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى