لماذا ثقافتنا العربية تعاني حالةً من النكوص والارتكاس؟
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
نتيجة لتردي الأوضاع الاقصادية والسياسية والاجتماعية التي عانتها أمتنا العربية منذ ما ينوف عن ربع قرن من الزمن كان تأثيرها وارتداداتها واضحة على حركة الإنتاج الثقافي والفكري وتياراتها المتعدّدة في وطننا العربي. فقد لاحظنا المقدار الهائل من التراجع والنكوص والإرتكاس الذي دخلت فيه، والذي يبدو وكأنه غير مسبوقٍ في خساراته الفادحة منذ أن نهضت ثقافتنا العربية في نهايات النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أدّت إلى اختفاء النصوص النوعية الكبرى أو كادت . تلك النصوص التي كان صدورها يطلق موجات من التأليف والطبع والنشر والتوزيع تدور على مداراتٍ جديدة أكثر قدرة تفسيرية ووضوحاً من سابقاتها، فبات المألوف هو التكرار والتعدد والهبوط من معدَّل النص الباذخ إلى مرتبة الشروح والتفسير والتأويل الثاوي في حنايا النص، كما سادت المختصرات والمبتسرات بشكلٍ غير مسبوق بدعوى عصر السرعة ، وتوقفت اندفاعة الإبداع الأدبي والفني إلى حدود غير مسبوقة، تقريباً، ما خلاَ ما استمر منها في بيئة الكتّاب الكبار المخضرمين ممن كانوا، قبل نحو خمسين عاماً، من صانعيها وناشريها، والتي كانت مصادرهم ومراجعهم الموسوعات والمعاجم الفكرية والفلسفية والمجموعات والأعمال الكاملة لكبار المفكرين والأدباء والفنانين ،فيما هبط معدل التعبير كثيراً فأُسدِلت عليه الحجب وبات يغرق في غياهب الغياب والوأد بدعوى التجريب والملاحظة والبحث عن لغةِ تعبير ناجزة وذائقة جمالية جديدتين أو، أحياناً، كسر (صنمية) الماضي وفض بكارة القوالب القديمة المكتنزة …إلخ!
ولولا ينابيع الإبداع الفكري والأدبي المتفجّرة هنا وهناك ،وتشكّل بحيرات وواحاتٍ واسعة وعميقة ومتجذرة من العلوم الاجتماعية والإنسانية، والأدب والفن، والتي بقيت تحفظ القليلَ من العطاء والحياة النابضة والخصب وسط هذه البيداء الثقافية المقفرة والموحِشة، لجاز لنا القول إن الثقافة العربية دخلت في حالة ركود أشبه بموت سريري مديد. وإن ما يصدر منها من نصوص ومدونات إنما هي إلى السكون الذي يسبق الموت النهائي وكأنها في النزع الأخير، لكننا ندرك في وجداننا وعقولنا ودواخلنا أنّ لغتنا العربية لغة حية، وإن مجتمعاً أو أمةً من غير ثقافة حية ولغةٍ عربية حية تنبض في جسدها لتأكدنا أنها ساكنة وفي حالة من الركود دائمة ويحكم عليها بالتكرار والاجترار لهو جسدٌ من غيرِ روح، وإن ركوداً يسكن الثقافةَ فيحكم عليها بالاجترار والتّكرار، لَهو وقوعٌ أشد وأقسى ما يقع على إرادة أمتنا العربية وتقييداً لتطلُّعاتها إلى مستقبل أفضل.
إنّ السياق العام لمجريات ثقافتنا العربية التي آلت إلى حالةٍ من الوهن والنكوص وندرة الإبداع الأدبي والفني، يقف على أمرها هذه الأيام جيوش مؤللة وأحصنة مطهمة من أشباه الكتّاب والمبدعين المتثاقفين والمتعالمين الذين جرى تكوينهم في أروقة جامعاتنا العربية، وفي غيرها من جامعات ومعاهد العالم. كل ذلك من غير أن يترك ذلك التّأهيل العالي أثراً واضحاً وهاماً في المنتوج الثقافي العربي يدل على رِفعتهِ وقدرهِ ومكانتهِ، أو على قابليتِه لأن يساعدهم في حمل تلك الأمانة الثقيلة.
ولم تكن تلك حال ثقافتنا العربية قبل عقود عدّة حين كان الفضول المعرفي والعِصامية رأسمال الكاتب والمبدع والمفكر، وكان المتخرجون في الجامعات والمعاهد العربية قلّة،فكان يكفي هذا القليل النوعي والمميز من ثمرات التأهيل العلمي مع ذاك الكثير الكثير من العصامية المتشوفة والمتسامقة لكي تتم بناء ثقافة عربية مميزة وباسقة لها مكانة خاصة بين ثقافات الشعوب وأمم العالم.
لقد ساهمت السلطات السياسية الحاكمة بكل ما تملكه من سطوة وقمع وقدرة على استخدام أساليب التضييق على حرية الرأي والتعبير، في عملية انهيار البنى الثقافية في عالمنا العربي. ولم تكن تسمح إلا لمثقف السلطة بالظهور وإبداء رأيه الذي يتوافق مع منهج وإرادة تلك السلطة القامعة ولحكامها الطغاة .وهذا ما أوصل ثقافتنا إلى هذا الدرك من الدنو وهذا البؤس. كما ساهم في تهميش المثقف الوطني الحقيقي وإبعاده عن دائرة الضوء لأنه يمثل الحقيقة والواقع خير تمثيل. هنا لا يمكننا أن نغفل الدور الكبير والسعي الحثيث الذي بذلته جيوش المثقفين قبل نحو نصف قرن حين وقفت في وجه السلطات الحاكمة ومنعتها من تنفيذ سياسات القمع والإضطهاد ضدهم وضد الجماهير الفقيرة. فكان هناك أشبه بالمصالحة الضمنية بين الطرفين. كما كانت يد البطش السلطوية أقل قسوة مما عليه الآن. لذا فقد أينعت ثمار العطاء الفكري والمعرفي والأدبي والفني.
من ضمن سياق متابعتنا المتواصلة لحركة الثقافة العربية وجدنا أنّ المدارس والمعاهد والجامعات قد كانت سبباً في هذا الشح بالموارد على الثقافة ،ولكن المناهل والموارد التي منها ترفد الحياة الثقافية العربية وتغتذي منها ليست، دائماً، مؤسسية فقد كان قبل نحو قرن من الزمن كتاب ومثقفون وأدباء ومفكرون وفلاسفة قد أسسوا لبنيان ثقافتنا العربية هذه داعمين ومدعومين من تلك الجامعات والمعارف العلمية التي أسسوها. وعلينا، هنا، أن نعترف بمسؤولية أهل الثقافة والمعرفة عما أصاب ثقافتنا العربية من ارتكاس ونكوص وانكفاء بنوع نتاجهم الذي يقدمونه، وعلى أهل الثقافة والمعرفة أن لا يغفلوا تلك المسؤولية وألا يختبئون وراء العديد من الذرائع والمزاعم حول ضِيق الهوامش المتاحة أمام الفكر والفن والإبداع ،ويلقونها على عاتق السلطة، متحلّلين من ضرورة اتباع نهج النقد الذاتي ومحاسبة النفس على التقصير والتقاعس. وعلينا هنا أن نعترف بكامل وعينا، استطراداً، أن مَن يركَب السهل في الكتابة والعمل الإبداعي، اليوم، فسوف تؤول الثقافة في عهده إلى الانتكاس والتكلّس والركود والانحطاط على مثال ما هي عليها اليوم.وكل ما نرجوه أن يتجه المفكرون والكتّاب والأدباء والمبدعين نحو الدأب على التحصيل الأفضل والقراءة المتأنية الدقيقة للنصوص الأساسية للفكر والثقافة والابداع ومكابدة الدرس المستمر والصلة بأمهات النصوص من موسوعات ومعاجم فكرية وفلسفية شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، والتحلي بكامل المسؤولية الدقيقة عند الكتابة وإنتاج النصوص الإبداعية ورفض الاستسهال .لأنَّ ثقافتنا العربية تسير باستمرا وفق معايير القيم الأخلاقية السامية وأخلاق الإبداع الأدبي والفني .