لكل جواد كبوة
خالد رمضان|كاتب مصري – صلالة
قالت العرب قديما: لكل جواد كبوة، ولكل صارم(سيف) نبوة، بمعنى إخفاقة، ولكل نار خبوة، بمعنى (انطفاءة)، ولكل عالم (هفوة)، ولا تخلو الحياة من المكدرات، والمؤلمات، والموجعات، والمنغصات، وإن هذا البلاءات التي أحاطت بنا إحاطة السوار بالمعصم ليست وليدة العصر، ولا مستحدثة علينا نحن- المسلمين- فقد رزئنا بما هو أقسى من هذا وأشد مما يجعل الولدان شيبا، ولقد مرت علينا أعوامّ شداد، وسنون عجاف، وأيام قَلَبَ لنا فيها الدهرُ ظهرَ المِجن، فكانت المحنُ العصيبةُ، والابتلاءاتُ الرهيبةُ التي دَمَت لها القلوبُ، وجفت منها العيونُ، وتصدعت لها القلوبُ والنفوسُ.
فقد اجتاح التتار البرامكة بلاد المسلمين فمزقوها إربا إربا، وصبغوا الأنهار بدمائهم، وأحرقوا علومهم، وشردوا أبناءهم، وقتلوا خليفتهم وألقوه في جوال على مزبلة، وجاب فرنجة الغرب ففعلوا ما فعلوا بحملاتهم ضد مصر والشام وسائر بلاد المسلمين، وامتد عدوانهم الغاشم حتى احتلت إسرائيل سيناء من مصر، والجولان من سوريا، وما حل بفلسطين إلى يومنا هذا .
إن هذي البلايا التصقت بنا منذ العصور الخوالي ولا زالت حتى الآن، ولكن فليعلم الجميع أن مثل هذه الابتلاءات لن تضعضع عروشنا، ولن تودي بعقيدتنا، فعقيدتنا راسخة رسوخ الجبال، لا تزحزحها الرياح، ولا تعصف بها النكبات والأهوال، إنما هي تزيدنا قوة فوق قوتنا، وعزيمة فوق إرادتنا، تجمع صفوفنا، وتوحد كلمتنا، وتلملم أشلاءنا حتى نقف كالبنيان المرصوص لا يصدنا عن دين الله صاد، ولا يردنا عن عقيدتنا راد .
يقول تعالى :“لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ”(سورة النور : 11)
ونحن نقضي مادة التربية العسكرية إبان دراستنا الجامعية، حكى لنا أحد القادة العسكريين قائلا: في يوم السادس من أكتوبر أثناء حربنا مع إسرائيل كنا في كتيبة ، وسقطنا في مكان منخفض وكان معنا قائدنا، وإذا بنا نستشعر دبابة إسرائيلية قادمة تجاهنا من أعلى، فقال لنا القائد: حينما تقترب منا نقفز جميعا إلى أعلى، ونوجه أسلحتنا في لحظة واحدة تجاهها حتى نصعقها، وبالفعل اقتربت الدبابة، وأمرنا القائد فقفزنا لأعلى، ولكننا تشتتنا، واضطربنا، فإذا بالدبابة تتجه صوبنا ، وتوجه فوهتها نحونا، وإذا بالقائد بغتة ينطلق كالسهم نحو فوهتها، ويحتضنها ويصرخ بأعلى صوته: أطلقوا النار، أطلقوا النار، ولكننا بهتنا ولم نتحرك، فكيف نطلق النار عليه؟!
فأطلقت الدبابة قذيفتها وتناثرت أشلاؤه في الهواء، فأخذتنا الحمية وأمطرناها بوابل من الرصاص حتى تفحمت .
هكذا تجمعنا الٱلام، والأوجاع والأسقام.
حكم سيوفك في رقاب العذل
وإذا نزلت بدار ذل فارحل
وإذا الجبان نهاك يوم كريهة
خوفا عليك من اقتحام المنزل
فاترك مقالته ولا تركن لها
واقدم إذا حق الفدا في الأول
موت الفتى في عزة خير له
من أن يعيش أسير طرف أكحل
إن هؤلاء الذين يضمرون لنا كل البغض والضغينة لن يرضوا عنا أبدا حتى يلج الجمل في سم الخياط، فقد قال تعالى: “لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ” (سورة التوبة: 10)، ولكن الله تعالى أعطانا مفاتح هؤلاء، وكتلوج هذه الجنسية، وكيفية التعامل معها فقال:”إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ” (سورة آل عمران: 120)
وحقا، إن تتبعت هذه الأحداث الجسام التي عصفت بنا فستجد أنها باءت إلى زوال . فقد فُكّ الحصار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وازدادت قوته حتى فتح مكة قائلا: ماذا تظنون أني فاعل بكم اليوم؟. قالوا : أخٌ كريم، وابن أخ كريم،قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وأجلى النبي صلى الله عليه وسلم إليهود عن المدينة،وانهزم التتار البرامكة شر هزيمة على أيدي جيوش المسلمين المصريين بقيادة السلطان المظفر سيف الدين قطز، وخرجت إسرائيل من سيناء تلملم أشلاءها، فلا يأس ولا قنوط إنما الصبر والعودة إلى الله.
إن احتدام النار في جوف الثرى
أمرٌ يثير حفيظة البركان
وتساقط القطرات ينزل بعده
سيلٌ يليه تدفق الطوفان
فيموج يقتلع الطغاة مزمجرا
أقوى من الجبروت والعصيان
قد ينتابك اليأس والقنوط ؛ لما تشاهده من سطوة الباطل وتماديه. وأقول لك كما قال الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
راجع تاريخ أمتك، وتتدبر كتاب ربك فستجد العلاج الناجع، والدواء الشافي “وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا“، فتوجه إلى ربك بالدعاء، ولا تيأس فذلك الدعاء يحقق المعجزات، قال تعالى :”هنالك دعا زكريا ربه ” وقال نوح: “وَقَالَ نُوحٌ “رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” (سورة نوح:26)” وقال إبراهيم “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر “اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض”. فإن الدعاء هو الحبل المتين بيننا وبين الله تعالى إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.