بغداد وقد انتصف الليل فيها.. السيرة التي تمنيت لو كتبتها أنا أيضا عن بغداد
قراءة: الباحث والمفكر/ عفيف البوني – تونس
رواية “بغداد وقد انتصف الليل فيها” سيرة ذاتية للكاتبة التونسية “حياة الرايس”. صدرت سنة 2018 طبعت أربع طبعات وترجمت الى الإنجليزية وتوجد على موقع لامازون العالمي و مقررة على طلبة التبريز في الجامعات التونسية والجامعات العراقية… مما اثار فضولي لقراءتها و الاطلاع عليها وأنا منذ زمن لم أعد أجد الوقت لأقرأ الإبداعات في الآداب لانشغالي بالبحث في إعداد أعمال أكاديمية أعتقد أن المكتبة العربية تخلو منها، وحتى حين أقرأ بعضها، أكتفي بالاستمتاع دون أن أكتب عنها. وها أنا، هنا أشذ لمرّة عن هذه الحال. قبل فترة قصيرة، شدني الانتباه إلى العنوان أعلاه، وكنت أعرف مؤلفته “حياة الرايس” عن بعد من خلال ما قرأته من بعض كتاباتها المنشورة، وقررت أن أتورط في قراءة “سيرتها الذاتية” هذه. ووجدت متعة في ذلك، حيث عندي أنّ كل قراءة جديدة، تضيف إليّ جديدا. فضلا عن أن القراءة هي وسيلتي لملء الوقت الحرّ، وأغلب وقتي أقرأ أو أكتب، سعيا لاستكمال ما قد فاتني ، من المعارف أو من الأعمال.
السيرة الذاتية لحياة الرايس بحسب ما روته عن نفسها في أسفارها ودراستها وصداقاتها، وعلاقاتها وعن عائلتها وعن تونس وعن بغداد … اختزلتها في230 صفحة، و ربّما في الحقيقة هي تتسع لمئات الصفحات، وان اقتصر محورها عن فترة حياتها كطالبة تونسية ببغداد.(وحياة الرايس هي أول تونسية تتخرج من قسم الفلسفة ببغداد) لأن سيرة حياة الرايس أكبر من أن يستوعبها كتاب أو رواية كما تقول هي عن ذاتها. ربما احتاج الأمر غلى مجلدات. ولكنها اختارت فترة زمنية حساسة في مطلع شبابها لتحدد بقية حياتها. وهي مغامرة السفر والدراسة بالخارج واكتشاف عوالم ومجتمعات أخرى وثقافات أخرى …لذلك نجدها في هذه الرواية تحدثنا عن الحياة الاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية لبلاد تنتمي إلى حضارة واد الرافدين وما تحمله من ثقل حضاري وإرث تاريخي يثري تجربتها. وتحدثنا عن الحرب العراقية/ الإيرانية كما عاشتها في آخر سنة لها ببغداد سنة التخرج.
أتممت قراءتها في وقت قياسي طمعا في أن أتعرف على المؤلفة وهي أستاذة فلسفة وأديبة لم أعرفها عن قرب، وقد درستْ بإحدى الجامعات التي كنت قد درست بها دون أن نتزامل، جامعة بغداد العتيدة. ورغبت في أن أكتشفت كيف صوّرت حياة الرايس بغداد. وكنت أمني نفسي أن أكتب كما هي فعلت عن حياتي، فبغداد لها دين أدبي على كل من درس أو عاش بها، أو زارها، ولم أكتب سيرتي ببغداد وباريس وغيرها، ولعلني أفعل ذلك مستقبلا وأنا أقرأ سيرة شابة وطالبة وتونسية مغامرة تقتحم بغداد وتخاطر بحياتها زمن الحرب والدراسة، وجدت نفسي في الكثير من بغدادياتها، في العديد من الفقرات أو الصفحات..وكأن حياة الرايس، لم تكتب عما عاشته هي، بل تكتب عن بعض من حياتي أنا ببغداد، أو غيري ربما…وهي لا تعرفني من قبل ولم نتزامل في الدراسة بجامعة بغداد.. كتبت حياة بدقة وبصدق عما عايشته هي، وهو يشبه بعضا مما عايشته أنا أيضا في بغداد، ووجدت حياة الرايس تكتب بأمانة بعضا مما عشته شخصيا في بغداد… علما أنني لم أتعرف مباشرة عن حياة و عرفتها عن بعد عبر قراءتي لبعض مما نشرته..كما قلت.
سيرتها الذاتية كما خطّتها عبارة عن سردية جميلة بلغة أنيقة وبعين شاخصة وأذن لاقطة وبعقل يقظ…هي تروي ما عاشته متأثرة بسحر الشرق بنكهة بغدادية، تسرد حياتها في بغداد خلال أربع سنوات الدراسة، وكانت شاهدة خلالها على احداث كبيرة سياسية و ثقافية و تاريخية.. حياة هي الراوية، وبطلة الرواية والمؤلفة، والمتحدثة عن ذاتها وعن بغداد بل عن العراق: البطلة برفقة أبطال وبطلات من عدة أصناف وفئات وبلدان، وأشخاص و كتاب مثل جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمان منيف …وحياة في هذه السيرة الذاتية، لم تكن في حاجة لأن توظف أدوارا لمن ينطق بالنيابة عنها ممن أوردت ذكرهم،كما يفعل كتاب الروايات… كتبت حياة أيامها البغدادية بصفتها الراوية والشاهدة والمدونة الأنتروبولوجية. وأيضا بعقل يتقن حرفة الأدب وفن التفلسف…مع جودة ملموسة في الصياغة اللغوية باقتدار بحيث تشد انتباه قارئها كي يسترسل في تتبع الخيط الرابط بين ما روته وما سيأتي، وفي ذلك أحسنت السبك. قضايا عديدة أثارتها حياة كامرأة تونسية مثقفة و واعية ترفض أن تكتفي مثل كثيرات بأن تكون مجرد آلة إنجاب و آلة جنس..وأكدت أنها عزمت على أن تنجب ذاتها، وتطورها باستمرار،وهنا يعني وهي الاديبة والفيلسوفة والتونسية المثقفة، أنها بالعلم و بالثقافة وبالعمل، وبالفكر تنجب ذاتها ، بالقلم الإبداعي النوعي الذاتي والخالد ،أعني بالحرف في مجال الفكر والأدب كما جاء في السيرة …وذلك يمنحها كما كتبت عمرا لا يفنى، وهي بهذا على صواب. بدت لي حياة وهي تصنع ذاتها كما صورت ذلك في سيرتها هذه،أنها كانت تعي وتحرص على ألا تسقط في النسوانية، كما لم تسقط في تقبيح الجنس الآخر، كما عند بعض الكاتبات،مما يرد و يشار إليه بمصطلح ملتبس” الرجل الشرقي!”. حيث حافظت حياة على الرصانة في الطرح بموضوعية في مسألة الجندرة.
حين انتهيت من قراءة “بغدادها” لمست متانة ثقافة المؤلفة، ولمست تنوع وغزارة قراءاتها ووسع تجربتها فالمبدع الكبير،هو القارئ الكبير وصاحب التجربة الثرية. لأن كل إبداع يعكس تنوع القراءات والثقافات… وقد أفلحت “حياة الرايس في ذلك. وعليّ أن أصرح دون مجاملة أن مؤلفة هذه السيرة قد كانت صادقة في روايتها. ذكرت التواريخ و الفضاءات والأحداث والأسماء كما عاشتها بصيغة سردية محترفة. كما لاحظت انها لم تمارس العمل السياسي ولم تتورط به عن وعي .وحسنا فعلت.
كما لاحظت في حديثها عن المخابرات العراقية وذكرها بين المزح والجد تلك الإشاعة حول أجهزة المخابرات ولاقطات التنصت التي وصلت إلى أسرة غرف الطالبات كما عاشتها.
أفترض أن مثل تلك الإشاعات هي مبالغات لا صلة لها بالواقع، وهذا لا يعني تبرئة المخابرات العراقية من الأعمال الخارجة عن القانون ضد أعداء النظام العراقي أو حتى ضد أبرياء لمجرد الشبهة، وما أعرفه،أنه بقدر ما كان النظام العراقي أحاديا وشديد المركزية والبطش وغير ديمقراطي مع كل من يختلف معه أومن هو ضد صدام،فإن الذين كانوا ضد النظام العراقي وضد صدام،في غالبيتهم، قدا كانوا غير ديمقراطيين و كانوا طائفيين و عملاء ومرتزقة كانوا يعملون، ضد صدام والنظام، لصالح إيران وإسرائيل وأمريكا وبريطانيا، أي ضد بلدهم بل بعض الجماعات الطائفية التي ادعت أنها معارضة كحزب الدعوة وحزب الحكيم وغيره، هي جماعات طائفية مقيتة مارست الإرهاب ضد العراقيين وتحالفت مع أمريكا و بريطانيا وإيران في احتلال العراق، وهي الآن تحكم العراق.. وملاحظاتي هذه جانبية تخصني وحدي. لا تقلل أبدا من الجهد الذكي ومن السردية الإبداعية والشهادة الصادقة التي أوردتها الكاتبة “حياة الرايس” في سيرتها الذاتية هذه. وأتمنى أن أجد الوقت،لأشهد بدوري، كما شهدت حياة عما شاهدت و ما عايشته.