سياسة

خلافاً للحس السليم

بقلم: حسن حيروقة| موسكو

بعكس ما بثّتهُ الأيديولوجيات الوضعية والمادية التي سادت منذ القرن التاسع عشر، تُظهر أحداث العقود الماضية تجدّد الطلب على الدين في الحياة السياسية والمدنية بشكل عام، ونأخذ على سبيل المثال دور الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا التي عملت وتعمل على تحقيق استقرار المجتمع وتحقيق الوحدة والتكاتف بين أبناء المجتمع الواحد.

فالدين كالفن صيغة من الصيغ الذهنية لتَمَثُّل العالم بطريقة تجعل من التسامي الروحي والأخلاقي مذهب فكر وحياة في الوقت نفسه، ولا يمنع تقدّم المعرفة ولا تحرّر الفرد من نظم الوصاية والقمع استمرار مثل هذه التجارب الإنسانية الكبرى.

والواقع أنّ كثيراً من الفلاسفة وعلماء الإجتماع اعتبروا الدين نظاماً رمزياً مرافقاً لوجود المجتمع، وكان أليكسي دو توكفيل أوّلَ من أشار إلى أهميّة الدين في استقرار النظام الديمقراطي الحديث، لما ينطوي عليه من ذخيرةٍ أخلاقية، كما أنّ دوركهايم الذي كانَ أوّلَ من سعى إلى تأسيس علم الاجتماع على أسس علميّة يعتبر أنّ الدين ضروري لتحقيق الإندماج الإجتماعي، بما في ذلك المجتمعات الحديثة، ونظرَ جورج سيميل إلى الشعور الديني بوصفِه مُعطىً أساسياً في حياة المجتمعات، وبهذا الشكل فإنّ الدين يشكّلُ هنا مصدراً لتأكيد هوية جمعيّة أو عقيدة كفاحيّة تحافظ على قيم التضامن الإجتماعي والإنساني.

إلّا أننا اليوم ننظر ونشاهد الأفعال التي يقوم بها النظام الأوكراني المتطرّف الي يعمل بكل قوّة على تفكيك المجتمع وزرع قيم غربيّة هدفها تكريس الانحلال الأخلاقي والسقوط بالمجتمع نحوَ الهاوية، فالبرلمان الأوروبي أقرّ اليوم بقراءته الأولى لمشروع قرار ينص على حظر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركيّة موسكو رغم مخالفة هذا القرار للدستور بشكل عام وانتهاكه للقيم الإنسانية، مقيّداً بذلك حريّة التعبير من خلال حملات المداهمة والتفتيش على رجال الدين في الكنائس، وهذا ما دفع مجلس الكنائس الأعلى بالتصريح أنّ القانون في نسخته الحاليّة ينتهك المعايير الدولية لحريّة الدين، ويمكن أن يؤدّي إلى تقسيم المجتمع الأوكراني. فعلي مدار السّنة الماضية نظّمت السّلطات الأوكرانية أكبر موجة اضطهاد في التاريخ الحديث للبلاد ضد الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، بحجّة ارتباطها وتبعيّتها لروسيا.

إنّ اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية هدفه الأساسي إيجاد بديل لهذه الكنيسة منسجماً مع السياسات الغربيّة وسياسات أولئك الذين يحكونَ في كييف، هم ذاتهم الذين جرّوا بلدهم إلى هذه الحرب خدمةً للغرب وأطماعه وسياساته، وهذا ما أكّده رئيس أساقفة سيسطية للروم الأرثوذكس عطا الله حنّا.

وبدورها أكّدت البعثة الروسية الدائمة لدى الأمم المتحدة بأّنّ حظر الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لروسيا يتعارض مع دستور أوكرانيا نفسها، كما أنّ قرض عقوبات على عدد من رجال الدين يُعتبر مخالفاً ليسَ للدستور الأوكراني فحسب، وإنّما للقيم الإنسانيّة.

هذا وتنظّم السلطات الأوكرانية اعتداءاتٍ مستمرّة على الكنائس والأضرحة الأرثوذكسية الروسية في أوكرانيا، إضافةً إلى حملات اعتقال القساوسة وإغلاق الكنائس بمساعدة الشرطة والجيش بما يُنافي حريّة التعبير والقانون الدولي.

على الرغم ممّا سبق، بالنسبة للعديد من الناس في العالم، ترتبط العاصمة الأوكرانية كييف بجزء مهم من الدين المسيحي والقيم العائلية التقليديّة، وأنّه لأمر محزن ومخزي أن تقوم النظام الأوكراني المتطرّف بجذب المجتمع إلى عالم ليبرالي غربي، لذلك نرى بأنّ النظام الأوكراني يقفد هويّته وثقافته وتقاليدَه ولا يدّخر أي جهد لجر المجتمع نحوَ انحدار أخلاقي ومعرفي ووجداني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى