ماذا يعني احتفالنا بعيد الاستقلال؟!
د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام | ابن الجزائر الحرّ
في كلّ عام نحتفل في جزائرنا الحبيبة بعيد الاستقلال الذي يصادف يوم الخامس من جويليه (يوليو)..هذا تقليد جميل لعيد جليل، فهو يمثّل أحد رموز الاعتزاز بالسّيادة الوطنيّة؛ لذا يجب الاهتمام والاحتفاء به احتفاء كبيرا، بما يظهر تقديرنا لهذا اليوم الأغرّ في تاريخ وطننا الغالي.
السّؤال الذي يجب أن نعرضه على انفسنا كلّما وقفنا في هذه المحطّة التّاريخيّة: لماذا نحتفل بهذا اليوم ونخطّط فيه برامج ونقترح أنشطة ونعطّل فيه مؤسّساتنا، فلا تعمل فيه ونأخذ على ذلك أجر العمل.. كلّ فرد يجيب بما يدركه من مغازي هذا اليوم، وما يمنحه له إدراكه من الفهم..
أمّا أنا فأقول:
1 ـــ إنّنا نحتفل بهذا ونستوقف ركب الزّمان لنتأمّل فيه ونتذكّر أنّنا نحتفل باسترجاع السّيادة الكاملة على وطننا، الذي عبث به الاستعمار الفرنسي الغاشم مدّة مائة واثنين وثلاثين عاما (132)،جاهد في فسخه ومسخه ونسخه جسدا بعيدا عن حقيقته وأصوله ومبادئه؛ دينا ولغة وقيما ومقوّمات، شكلا ومضمونا، بما سخّره من كلّ وسائل التّدمير والتّشويه والتّغيير والتّخريب، ويما مارسه من أساليب النّهب والسّلب، وما سنّه من قوانين ومراسيم للتّهجير والنّفي والإبادة..
تحرّك آباؤنا في كلّ مراحل الاحتلال على جميع الأصعدة وفي كلّ الجبهات والواجهات، وبمختلف الوسائل والإمكانات، وصبروا وصمدوا وصابروا ورابطوا وترابطوا فيما بينهم في مقاومة الاستبداد والاستغلال، وثبتوا في الميدان ولم يتأخّروا، ووثبوا على العدوّ ولم يتقهقروا. فمنهم من قضى نحبه؛ فغدا شهيدا في سجلّ الفدائيّين الأصفياء الصّادقين، ومنه من بقي حيّا، فشهد النّجاح والفلاح اللّذين حصل عليهما المجاهدون الأوفياء الصّادقون المخلصون، والمقاومون الذين آمنوا أنّ الوطن أمانة في أعناقهم، يجب تحريره من كلّ اعتداء وممارسات تنال من شرفه وكبريّائه وعزّته وكرامته، وتدنّس شبرًا من تربته.
2 ـــ نحتفل بهذا اليوم الكبير المفصلي بين حياة الاستعباد وحياة الاستقلال؛ لنتذكّر جرائم فرنسا التي فاقت كلّ وصف، وتجاوزت كلّ الحدود، وتخطّت كل السّدود، فنحفر في ذاكراتنا وذاكرات الأجيال المتعاقبة أنّ العدوّ الذي يجب أن نعاقبه ونقتصّ منه، ولا نأمن جانبه ولا نطمئنّ إليه مهما أظهر من أساليب الودّ والتّقرّب منّا.. هو “فرنسا” بكلّ أطيافها وأفرادها ومخطّطاتها ومغرياتنا وتهديداتها لنا في كلّ آن وفي كلّ مكان..
3 ـــنحتفل بهذا اليوم العظيم؛ لنقدّم الشّكر الجميل لربّنا الجليل، الذي أنعم علينا بأسلحة المقاومة الشّريفة، ثمّ نصرنا على عدوّنا في نهاية المطاف، فهذا فضل منه كبير وعظيم، وشكره يزيدنا نصرا على نصر.
4 ــــ نحتفل بهذا اليوم المتميّز؛ لنقتنع ونُقنِع الأجيال المتتابعة أنّ فرنسا يجب أن تبقى لنا عدوّا، ويجب أن نتّخذها عدوّا؛ حتّى نبتعد عنها في كلّ حال، وننأى عنها في كلّ مجال، ولنحذر منها كلّ الحذر.. ممّا يؤسفنا ونتحسّر منه أن نجد بعض مسؤولينا يفضّلون قضاء سنوات تقاعدهم في أرض مَنْ أذلّهم وقهرهم وسلبهم أموالهم وديارهم، وأباد آباءهم وخرّب وطنهم، وهم الذين كانوا يتبجّحون بكرههم لفرنسا ومناهضتهم لما فعلته في الجزائر قبل الاستقلال وما تصنعه لها وما تحيكه من مؤامرات ودسائس.. بعد طردها من أرضنا واسترجاع السّيادة على وطننا. هذا التّصرّف يدفعنا أن نردّد ما قاله شاعر معرّة النّعمان، أبو العلاء المعرّي:
فيا موتُ زُرْ إنّ الـحياةََ ذميمةٌ
ويا نفسُ جِدِّي إنّ دهرَكِ هازلُ
5 ـــ نحتفل بهذا اليوم الأكبر لنؤكّد على قوّة الجزائر الكبيرة، ومكانتها السّاميّة، ودورها المحوري في العالم؛ بما أكتسبته من تاريخ جهادها وصمودها ضدّ الغزاة والعتاة والطّغاة الذين دخلوا أرضها وحاولوا السّيطرة عليها، ثمّ خرجوا أذلّاء مقهورين مهزومين، آخرهم الاستعمار الفرنسي الذي حمل شعار ” الجزائر فرنسيّة” (L’AlgerieFrancaise) فكان الرّدّ : ” الإسلام ديننا والجزائر وطننا والعربيّة لغتنا”. لا مكان لك بيننا وفي أرضنا.
إنّ الضّغوط تتوالى على الجزائر، والمؤامرات تتتابع ضدّها، ومخطّطات تركيعها وتحويلها عن مبادئها السّياديّة ومشروعاتها التي تحفظ لها استقلاليّتها وشموخها.. هذه الأعمال الدّنيئة لم تتوقّف. والتّجسّس عليها من القريب والبعيد سلاح آخر يستعمله أعداء المبادئ والأصول والسّيادة لتغيير وجهة الجزائر من مركز القوّة والكرامة والعزّة والاستقلال في القرار.. إلى دركة الصّغار والرّكوع والرّضوخ والكّف عن مناصرة القضايا العادلة، ونصرة الشّعوب المقهورة..لكنّها ظلّت وتظلّ وفيّة لمبدأ المضيّ في الحفاظ على استقلاليّة قرارها، وعلى الوقوف في جانب القضايا الإنسانيّة…هذا المنهج تعلّمته من مقاومتها غطرسة فرنسا وتغوّلِـها وتنمّرها واستئسادهاواستنسارها.. حتّى سُقط في يدها وخرّت صريعة في الميدان.
هذا النّضال علّمه أنّ صاحب المبدأ لن يقهر، وأنّ صاحب الأصل لا يهزم، وأنّ صاحب الحقّ لن يتأخّر.. لهذا قاومت كلّ هذه المناورات والمؤامرات المعلنة والمخفيّة.. هذه القيم هي التي نحتفل بها في يوم الخامس من جويليّة كلّ عام، ذكرى يوم الإعلان الرّسمي والعلني والعالمي سنة 1962م عن التّخلّص من الاستغلال والظّفر بالاستقلال.
هكذا يكون الاحتفال بعيد الاستقلال، إنّ الجزائر في حاجة إلى كلّ أبنائها وهيئاتها وطاقاتها لبنائها والسّير بها قدما نحو الاستقرار والتّقدّم والازدهار.. هي في حاجة إلى تعزيز تطوّر أداء عملها ودأبها في مختلف المجالات ولأصعدة االدّاخليّة والخارجيّة، هي في حاجة إلى كبح جماح أعدائها في الدّاخل والخارج. هي في حاجة إلى الوقوف حصنا منيعا وسدّا واقيا من هجوم الأعداء والمغرضين على كلّ ما يحمل اسم “الجزائر”؛ لأنّها البعبع الذي يقضُّ مضاجع الانتهازيّين والمنبطحين والمطبّعين وأسيادهم. هي في حاجة إلى من يذود عنها مَنْ يستهدف مكامن القوّة في جسدها وفكرها ومشروعاتها ومستقبلها. مَنْ لَـها غير أبنائها الأوفياء؟؟ !!
ما حكّ جلدَك مثلُ ظفرك
فَتَوَلّ أَنْتَ جَـميعَ أمرِك
هذا العهد، وهذه الخدمة، وهذا العمل هو الاحتفال الحقيقي بيوم النّصر والاستقلال، الاحتفال بالظّفر بالاستقلال وخوض معركة البناء بقوّة وصدق وإخلاص وثبات.
بالمناسبة نثمّن ما أقدمت علية وزارة المجاهدين وذوي الحقوق مؤخّرا، في خطوة هي من مؤشّرات الاحتفال بيوم الاستقلال.. فقدأطلقت الجزائر مؤخّرا تطبيقا هاتفيّا للتّعريف بتاريخ البلد خلال الفترة الاستعماريّة، وذلك تزامنا مع الاحتفالات بحلول الذّكرى الواحدة والسّتّين للاستقلال. ويسمح التّطبيق الهاتفي – بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الرّسميّة – بالاطّلاع على مراحل من التّاريخ الجزائري ومعطيات فترة الاستعمار الفرنسي من عام 1830 إلى 1962م. وُصفَ هذا التّطبيق بأنّه ” منهجيّة وأسلوب راق ومبسّط لتبليغ رسالة المجاهدين إلى كلّ الشّباب الجزائري”.
كما أفادت وزارة المجاهدين وذوي الحقوق بأنّ التّطبيق الرّقمي ” يعتمد أساليب تتأقلم مع متطلّبات الشّباب، ليكون واجهة للجزائر من خلال محتوى تاريخي، ذي دلالات رمزيّة، تعكس التّاريخ المجيد للجزائر وحضارتها، وذلك تحت إشراف أساتذة باحثين وأكاديميّين مختصّين”.
ذُكِرَ أنّ هذا التّطبيق الذي اعتبرته الوزارة ” حاوية للذّاكرة الوطنيّة ومرجعيّة تاريخيّة وعلميّة وأكاديميّة”يهدف إلى الإسهام في ” نقل قيم ثورة التّحرير التي خاضتها البلاد عبر تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات”. وأكّد وزير المجاهدين وذوي الحقوق” العيد ربيقة” في تصريحات صحفيّة: أنّ التّطبيق ” متكامل حول حلقات تاريخنا الوطني، استخدمت فيه تكنولوجيات المعلومة والاتّصال الحديثة”، مشيرا ” أنّ من حقّ الشّهداء إيصال تاريخهم الوطني إلى الأجيال الصّاعدة”.
أضاف أنّ المنصّة الجديدة تهدف إلى ” صون تاريخنا الوطني بطريقة تقتضيها التّكنولوجيا الحديثة؛ لتمكين شبابنا من اكتساب معارف وثقافة تاريخيّة صحيحة.
للنّجاح المأمول من هذا التّطبيق المهمّ أُوكِلَتْ مَهمّة تطوير هذه المنصّة – بحسب ما نقلته الوكالة الرّسميّة لـــ ” مؤسّسةٍ مكوّنَةٍ من شباب جزائري ذوي خبرة وكفاية في مجال تكنولوجيّات تطوير تطبيقات الويب والهاتف النّقّال، وفي مجال صناعة وتطوير تقنية الهولوغرامhologramme” . وتمّ تطوير وتصميم التّطبيق – وفق المصدر ذاته – بــ ” طريقة عصريّة ومتجاوبة مع مختلف أجهزة الهاتف، واستعملت فيه أحدث لغات البرمجة الموجّهة لتكنولوجيّات الهاتف النّقّال.”.
هذا المشروع دليل عملي لتحسين الأداء في التّعريف بتاريخ الجزائر، وربط الأجيال به، وتسخيره في تربيتهم وتكوينهم، بعد الاطّلاع عليه ووعيه والاعتزاز به. ومن دلالات الاحتفال بيوم النّصر والاستقلال أن نعاهد أنفسنا أن نحافظ على إسلامنا في كلّ معاملاتنا وتصرّفاتنا، فثورة أوّل نوفمبر قامت على الإسلام وبالإسلام ومن أجل الإسلام، أي أن يكون هو المرجع في سلوكنا وسيرتنا ومسيرتنا.؛ التزاما ووفاء لمبادئ الثّورة التّحريريّة. نصّ بيان أوّل نوفمبر على: ” إقامة الدّولة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة ذات السّيادة ضمن المبادئ الإسلاميّة”.
كما يجب التّعهّد بالالتزام بالقيم والمقوّمات التي قامت عليها الثّورة وتقوم عليها حياة المسلم، لغة وتاريخا وهويّة وولاء… والمحافظة على الوَحدة الوطنيّة وبناء جزائر تتمتّع بالدّيمقراطيّة.. هذا هو الاحتفال الحقيقي بعيد الاستقلال واسترجاع السّيادة الوطنيّة.. فعلى كلّ مواطن جزائري؛ مسؤولا وقائدا ومسيّرا ومنظّرا ومنظّما ومطبّقا سياسةَ دولته الرّشيدة، ومستفيدا من خيرات هذا البلد، ومتحرّكا على أديم أرضها.. أن يحاسب نفسه ويقوّم علاقته بهذا الوطن العزيز، أن يتأمّل في مسيرته يسأل: ماذا قدّم له ليكون مَـحْمِيًّا من الأعداء؟ ماذا صنع ليبقى حرّا مستقلًّا عن أيّ تبعيّة لغيره؟ ماذا فعل ليدفع عنه الضّغوط التي تتوالى عليه ليغيّر مساره ووجهته الصّحيحة؟ ماذا سخّر له من إمكانات ليتطوّر ويرتقي إلى المراتب العليا والصّفوف الأولى في الشّهود الحضاري؟ ماذا ضحّى وماذا أنفق – كما فعل أسلافه – ليحفظ له كرامته وقوّته ومكانته ومقامه؟
هذه الأسئلة وغيرها هي التي تعرض على الذّات الصّادقة في قولها، المخلصة في عملها، الوفيّة لمبادئها، العاملة على الرّفع من وتيرة التّنميّة، المندفعة لحماية الوطن من كلّ ما ينال منه.. تعرض هذه الأسئلة دليلا على الاحتفال الحقيقي بعيد الاستقلال… فليردّد كلّ وطنيّ أَبِـيّ شهادة أحمد زبانه ورسالته ونداءه الذي ترجمه شاعر الثّورة الجزائريّة شعراسنة 1956م:أنا إن متّ فالجزائر تحيا……..حرّة مستقلّة، لَنْتَبيدَا
هذا شهيد المقصلة توفيّ ومات ونحن بقينا أحياء والحمد لله على الحالين، هل نحفظ العهد؟ هل نَعِي الرّسالة؟ هل نفقه الواجب؟ هل نكون خير خلف لخير سلف؟ الإجابة الإيجابيّة العمليّة الميدانيّة المحسوسة الملموسة هي الدلالة الحقيقيّة للاحتفال بعيد النّصر والاستقلال.
لقد مكّننا الله من أرضنا، الذي اغتصبها منّا العدوّ الفرنسي الظّالم المستبدّ فلنحمده ولنتذكّر قوله عزّ وجلّ: …وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الاَرْضِِ أَقَامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وَأمرُوا بالـمَعروفِ ونَـهَوْا عنِ الـمُنْكَرِ ولله عاقبةُ الأمورِ(الحجّ/ 40، 41).
القرارة يوم الأربعاء: 17 ذي الحجّة 1444ه
05 جويليّة 2023م