أطفالنا خلقوا للحياة.. وشعبنا للحرية
بقلم: نهاد ابوغوش
وسط الموجات المتلاحقة من عمليات المقاومة الأخيرة، والتي جاءت كردات فعل طبيعية ومتوقعة على جرائم الاحتلال، شهدت الأراضي المحتلة بعض العمليات الانفعالية التي نفذها عدد من الأطفال ممن هم دون سن الثامنة عشرة، أي دون سن الرشد، ودون سن المسؤولية القانونية والجزائية وفق كل القوانين الوطنية والدولية. هذا بحد ذاته يثير عددا من الأسئلة السياسية والقانونية والأخلاقية، والتي تتطلب منا كفلسطينيين، فصائلَ وأفرادا ومؤسسات، موقفا واضحا جريئا وقاطعا إزاء هذه الظاهرة. لا حاجة للتأكيد أكثر مما هو معروف لكل منا بأن جرائم الاحتلال لا تفرق بين كبير وصغير ولا بين رجل وامرأة. فكل فلسطيني هو هدف مستباح للسلاح وأدوات القتل المنفلتة التي يحملها الجندي أو المستوطن، والذي تحميه وتدعمه حكومة فاشية، وتشرّعه منظومة من قوانين التمييز العنصري.
المقاومة هي أنبل ظواهر الكفاح السياسي التي عرفتها الشعوب، وهي غالبا سلاح الضعيف المغلوب في مواجهة بطش القوي المعتدي، وقد كفلتها المواثيق والقوانين الدولية، وشكلت رافعة لا ينكرها أحد لاستعادة هويتنا الوطنية الفلسطينية، كما شكلت في بلدان المستعمرات الأسلوب الأرقى للتحرر من الاستعمار، كما مارستها دول وشعوب متقدمة حين تعرضت للغزو الخارجي كما جرى مع معظم شعوب أوروبا في مواجهة النازية.
لكن المقاومة يجب أن تُرشّد، وهي وسيلة وليست هدفا في حد ذاتها، وقضيتنا هي صنو الحق والعدالة، ومن باب أولى أن نرتقي باخلاق كفاحنا ونضالنا إلى المستوى الذي يليق بقيم الحرية العظيمة، ولنا في أبطال عدد من العمليات الأخيرة مثال على فروسية فدائيينا وأخلاقهم السامية، حين تجنبوا المساس بالأطفال والمدنيين عن عمد، كما أقرّ بذلك عدد من شهود العيان في ساحات العمليات، مع أن احدا لم يكن ليلوم هؤلاء “الذاهبين إلى حتفهم باسمين” واثقين من عدالة قضيتهم.
إسرائيل وبحسب شهادات لمنظمات حقوقية محلية ودولية تطبق منظومتين قانونيتين متوازيتين: واحدة للطرف المهيمن وهم اليهود الذين تنطبق عليهم اتفاقية حقوق الطفل والمعاهدات الدولية الخاصة بالأحداث دون السن القانوني، والثانية لا تعترف بالمواثيق الدولية وتطبق القوانين الموروثة من عهد الانتداب البريطاني والأوامر العسكرية الإسرائيلية ضد شبابنا وأطفالنا، فتكون النتيجة أن طفلا مثل أحمد مناصرة (اصبح شابا) يعتقل وهو في سن الثانية عشرة، ويمضى حتى الآن اكثر من نصف عمره سنة محروما من العلاج والرعاية، بينما المجرمون الذين احرقوا عائلة دوابشة والطفل الشهيد أبو خضير، يفلتون من العقاب مستفيدين من القوانين العنصرية المطبقة، لأن بعضهم كان دون الثامنة عشرة بأيام لحظة ارتكاب جريمته.
لنكن واضحين وحازمين تجاه ظاهرة مشاركة الأطفال في العمليات، ونقولها بملء الفم: لا لمشاركة أطفالنا في الكفاح المسلح طالما أنهم دون سن المسؤولية القانونية، المكان الطبيعي لأطفالنا هو وسط عائلاتهم وفي مدارسهم، ومن حقهم أن يعيشوا طفولتهم حتى تتوفر لهم الفرصة لكي يقرروا بوعي ونضج طريقة مساهمتهم في نضال شعبهم. ندرك تماما أن هؤلاء الأطفال الذين يشاركون في العمليات هم في الأساس ضحايا لجرائم الاحتلال، وهو المسؤول عن دفعهم ودفع غيرهم من الشباب إلى اختيار هذا السبيل للرد، فالأطفال هم كائنات آدمية مرهفة يمثلون كتلة من المشاعر التي تستثيرها وتستفزها إلى أقصى درجات الاستفزاز مشاهد الجرائم اليومية التي يقترفها الاحتلال، فيردّون بما تيسر لهم الرد، بمقص أو او مفك، من دون تخطيط أو تدريب، يلجؤون إلى أقرب وسيلة متاحة فيصبحون بعدها هدفا لعمليات الإعدام الميداني التي تسميها دعاية الاحتلال “التحييد”.
صحيح أن تاريخنا البعيد والقريب مليء بقصص البطولة والفداء لشباب وأطفال صرنا نتغنى بها، مثل ظاهرة أطفال الآر.بي.جي وأطفال الحجارة، ولكن لكل زمن ظروفه، لم يكن شعبنا وفصائله ومناضلوه الراشدون يختبئون خلف الأطفال أو يراقبونهم وهم ينفذون العمليات ليتغنوا بهم بعد ذلك.
من الغريب أن تتسابق الفصائل الوطنية في تمجيد ظاهرة عمليات الأطفال ووصفها بأنها ظاهرة طبيعية وردّ على جرائم الاحتلال، بل وتدعو للمزيد من هذه التضحيات، دون أن تبرز أن هؤلاء الأطفال هم عمليا ضحايا لآلة القتل الإسرائيلية، الأجدر بهذه الفصائل ما دامت مقتنعة بالكفاح المسلح أن تبادر إلى تعبئة عناصرها ومنتسبيها ودفعهم للقيام بهذه المهام بدل أن تتغنى بما يقوم به الأطفال، لا أحد ينكر أن لهذه الفصائل تاريخ مجيد في التضحية والفداء، وهي قدمت منفردة ومجتمعة آلاف الشهداء على درب الحرية والاستقلال، ولكنها لا يمكن أن تغطي أزمة علاقتها بموجة المقاومة الراهنة ببيانات تمجيد الشهداء بمن فيهم الأطفال.
لا يوجد إنسان طبيعي يحب أن يذهب أطفاله إلى المعركة عوضا عنه، فضلا عن رؤيتهم يقتلون سواء من أجل الوطن او من اجل أي فكرة سامية، إذن من المنطقي استكمال ذلك بالقول اننا لا نرغب في رؤية أطفالنا ولا أطفال غيرنا يضحون بحياتهم ويستشهدون. هذه الحقيقة البسيطة لا تلغيها قناعاتنا بمصير الشهداء وثوابهم عند الله وفي الآخرة، ولا أشكال العزاء التي نعزي بها أنفسنا فنكابر في أحيان كثيرة، ونطلب من أم الشهيد أن تتجلد وتصبر وتزغرد، وهي قد تفعل ذلك مدفوعة بمشاعر لا يمكن وصفها من بينها الاندغام بروح فقيدها الذي ثكلته، لكن كل أيام حياتها التالية لن تطفئ لظى القهر والألم وحسرة الفقدان التي سترافقها مدى العمر.
لا يمكن للموت أن يكون هدفا لنا، لا لشبابنا، ولا لأطفالنا الذين خلقوا للحياة وللمستقبل، فلنحمهم بحدقات العيون وبنشر الوعي والثقافة التي تحمي طفولتهم، لكي يعيشوا في وطن حر، ويتوجب علينا وعلى كل مؤسساتنا الحرص على أن يتلقى الأطفال المعتقلون محمد عليوات ومحمد ابو قطيش، ومحمد باسل الزلباني الرعاية والحماية التي يستحقونها كأطفال حتى لا يتكرر سيناريو القهر والتنكيل الذي تعرض له الطفل المعتقل أحمد مناصرة.