الإخفاء القسري للقيم والمبادئ وأثره علي الأمم
د. طارق محمد حامد | أكاديمي مصري
كان ابن خلدون – رحمه الله تعالى – يتعامل مع السنن التي أودعها الله – عز وجل – في الأمم من حيث مقومات نشأتها وتطورها و نهضتها ثم عوامل اضمحلالها ونهايتها مثل الإنسان تماما وكان يرصد المقدمات التي تفضي إلى نتائج حتمية تنبني عليها
فهو يتعامل مع معادلات الحضارة مثل المعادلات الرياضية والكيميائية تماما، حدها الأول يساوي حدها الثاني، فإذا وجدت القيم الحضارية في الأمة مثل العدل والمساواة والحرية قامت الأمة و نهضت وازدهرت وإذا حلت القيم الدونية محلها مثل الظلم والتفريق بين الشعوب علي أساس الجاه والسلطان والأعراق والأديان كذلك انهارت الأمم و انزوت ثم انتهي ذكرها من علي صفحات التاريخ وهذه سنن ربانية لن تجد لها تبديلا ولن تجد تحويلا.
لذلك سوف نتعرف في الجمل القادمة على هذه القيم التي يتم اخفاؤها قسريا من الامم ستؤدي في نهاية المطاف الى انهيار هذه الأمم ومنها:
الحرية: الحرية تعني المسؤولية ولهذا يخافها معظم الناس، وهي في ممارستها من منطلق المسؤولية والحسبة تعد المعيار في صلاح الحاكم والمحكومين والبلية كل البلية في فقدنا إياها ويظهر لنا أهمية الحرية للأمة في وقوف عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلا: لو رأيتموني اعوججت فقوموني، فقام المغيرة بن شعبة و رد عليه: والله لو رأيناك اعوججت لقومناك بسيوفنا، فرد عمر معقبا: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بن الخطاب بسيفه.
وهي الحرية والشعور بالمسؤولية التي جعلت الشيخ العز بن عبد السلام يمتنع عن الدعاء في مسجد دمشق للصالح إسماعيل حاكم الشام لتعاونه مع الصليبيين ويسجن ويراه أباطرة الروم الصليبييون و يحكي لهم الصالح إسماعيل عن موقفه منه فيقول القائد الصليبي: لو أن هذا عندنا لغسلنا قدميه وشربنا مرقتها، كذلك موقفه من نائب السلطنة في مصر لما أفتي ببيع أمراء المماليك وقبض ثمنهم لبيت مال المسلمين لتجهيز الجيش الإسلامي لمجابهة التتار فعزم نائب السلطنة علي قتله ولما هم بذلك ودخل على الإمام، خرج صاغرا خاضعا لفتوي الشيخ وذلك بفضل الله ثم تقواه وورعه وقوة حجته ومنطقه.
ولما لا وقد أرسي الإسلام الحرية و قواعدها من خلال نصوص الحوار في القرآن والسنة مع سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه ومارسها الصحابة بل والنبي صلى الله عليه وسلم مع المعاندين والذي وصل بهم الأمر في التطاول على النبي صلي الله عليه وسلم والإفتئات عليه في حواره مع عتبة بن ربيعة ولكن الحرية التي أرساها الإسلام ورسخها في جنبات المجتمع الإسلامي هي الحرية الأخلاقية المنضبطة لاحرية الحبل على الغارب مثل الغرب الذي أطلق العنان للحريات بدءا من حرية التعبير وحرية المعتقد حتي الإلحاد والشذوذ الأخلاقي وهذا الأخير وما يؤدي إليه وما يتولد منه لا يصح في شرعتنا نحن المسلمين، وما ذاق الغرب الأمرين وما تجرع كأس هذا النتاج النكد إلا من الحرية الجانحة وغير المسؤولة وما تجرع المسلمون مرارة العيش و الظلم وأفول نجم حضارتهم إلا من سلبها الحرية من الشعوب وكبت حرية التعبير بل التضييق عليهم في العبادة ووسمهم بالتطرف الديني لكي يكون ذريعة لوئد الدين والأخلاق في مهدها قبل أن تنساح في ربوع الأرض تدعو إلي الله علي بصيرة وتهدي الناس إلي الحق والعدل والسجايا الطيبة التي أتي بها رسول الإنسانية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من رب العالمين سبحانه وتعالي.
والتطرف الديني هو نتيجة حتمية لكبت الحريات وفي القلب منها حرية المعتقد والعبادة وممارسة الشعائر الدينية بحرية دونما اعتقال أوتهميش كما حدث في حقبة الرئيس المصري جمال عبد الناصر حينما أودع أفراد جماعة الإخوان المسلمين في السجون وتعرضوا للتعذيب فخرج من تحت آلة التعذيب جيلا كفر عبد الناصر وكفر المجتمع وكفر الإخوان المسلمين أنفسهم لما أصدر مرشد الإخوان آنذاك المستشار حسن الهضيبي كتابا ينبذ فيه التطرف والغلو بعنوان دعاة لا قضاة وعانت مصر من ويلات التطرف الديني بعد ذلك لأربعة عقود متتالية مما أثر علي النمو الاقتصادي للبلد وفت في عضد النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية لمصر فتم قتل كثر من رجال الفكر والدين والسياسة أمثال المفكر فرج فودة ورئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب ومحاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ و حوادث التفجير التي هزت مصر في تسعينيات القرن الماضي و كذلك العشرية السوداء في الجزائر، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب الجزائري كذلك كان من نتائج كبت الحريات ومخرجاتها من التطرف الديني أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م و ما جره من ويلات علي العالم العربي والإسلامي وتخريب العراق وأفغانستان والفاتورة المالية الباهظة التي دفعت من دول الخليج مقابل غض الطرف عن هوية المشاركين في تفجيرات برجي التجارة العالمية بأس أن جلهم من دول الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية.
لذلك الحرية في الاسلام حرية أخلاقية منضبطة وإهدارها كقيمة وإخفاؤها قسريا بفعل فاعل سواء كان حاكماً أو غير ذلك ممن يمتلكون سلطة دينية علي أفرادهم مثل التسلط الكنسي والروحي مؤداه ومخرجاته ونتائجه كلها تصب في طريق السيل وانفراط حبات عقد التماسك الاجتماعي والانهيار الحضاري والأممي في نهاية المطاف والتاريخ القديم والحديث خير شاهد ودليل.