حين عبرت سُهى

قصة: عبدالله علي أبوطالب عليوة
لم يكن أحد في القرية يراه كثيرًا.
سليم، ذلك الرجل الخمسيني الذي يسكن بيتًا عند طرف التلّ، صار حكايةً على ألسنة الناس.
قال بعضهم إنّ عقله ذهب منذ رحيل زوجته، وقال آخرون إنه يعيش مع طيفها… لا مع نفسه.
لكنّ أحدًا لم يجرؤ على الاقتراب من بيته، كأنّ الحزن قد نصب حوله سياجًا لا يُرى.
كان البيت صامتًا مثل قبرٍ نسيه أهله.
نافذته تطلّ على طريقٍ ترابيّ لا يمرّ به أحد إلا الريح، وكانت تلك النافذة هي عالم سليم كلّه.
يجلس أمامها منذ الفجر، لا يقرأ، لا يكتب، لا يتكلّم.
يحدّق في الضوء وهو يتبدّل، كأنّه ينتظر شيئًا يعرف أنه لن يعود.
سُهى…
اسمها وحده كان يكفي ليملأ صدره فراغًا لا يُحتمل.
رحلت باكرًا، قبل أن تنجب، فبقي هو وحيدًا بين الجدران، لا يسمع سوى صدى خطواتها القديمة وهي تمشي في ذاكرته.
حتى فنجان القهوة ما زال على الرفّ نفسه، كأنه ينتظر يدها لتكمل الصباح.
ذات مساء، بينما كانت الشمس تذوب على حافة الجبال، لمح ظلًّا في النافذة المقابلة.
تجمّد.
البيت المقابل مهجور منذ أعوام…
لكنّ الظلّ تحرّك ببطءٍ مألوف، كأنّه يرفع يده بتحيةٍ يعرفها قلبه قبل عينيه.
“سُهى!” همس، وصدره يرتجف كما لو أن الزمن عاد فجأة.
اقترب من الزجاج، التصق وجهه به، وصوته يتقطّع:
“أأنتِ؟”
لكنّ الظلّ لم يُجب.
خطا خطوتين، ثم تلاشى كما لو أنّ المساء ابتلعه.
جلس سليم على الأرض، يدفن وجهه بين كفّيه.
لم يبكِ، لم يصرخ… فقط تنفّس كمن غُرس في صدره سكين الوعي.
لقد فهم — لم تكن سُهى، بل خياله المتعب الذي قرّر أن يرحمه لحظة.
مرّت الليالي بعدها بطيئة.
لم يعد أحد يراه كثيرا ، حتى ظنّ الناس أنه رحل هو الآخر.
لكن في فجرٍ هادئ، انبثق نورٌ خافت من نافذته.
كان سليم جالسًا في مكانه المعتاد، والريح تداعب الستائر البيضاء.
وحين أطلّ على الطريق، رآها ثانيةً.
لم تكن ظلًّا هذه المرة، ولا خيالًا.
كانت عبورًا خفيفًا كالنور حين يمرّ من بين الغيوم.
ابتسم، ومدّ يده نحو النافذة، فلمس دفئًا لم يشعر به منذ رحيلها.
لم يقل شيئًا، فقط أغلق عينيه كمن وجد أخيرًا المعنى الذي كان يطارده بين الأيام.
حين دخل الضوء تمامًا الغرفة، كانت النافذة مفتوحة على وسعها، والستائر تهتزّ بهدوء.
في القرية قالوا: “مات سليم.”
لكنّ الريح حين عبرت بيته، لم تكن تحمل رائحة الفقد…
بل رائحة وردٍ قديمٍ عاود الإزهار.
حين عبرت سُهى، فهم سليم أخيرًا…
أنّ الدنيا لم تكن داره، بل محطةً عابرة يمرّ فيها الحنين كما تمرّ الريح على وجه الورد.
وأنّ كل انتظارٍ فيها ناقص، وكل لقاءٍ مؤجّل حتى تُرفع الحجب بين الأرواح.
ابتسم وهو يغلق عينيه، كمن وجد الطريق بعد ضياعٍ طويل،
وهمس بصوتٍ مطمئنٍ كالدعاء:
“هناك… لا فُراق بعد اليوم، ولا ظلّ يُخدعنا بالغياب.”




