قراءة في رواية (شيء من بعيد ناداني) للأديب أحمد طايل

بقلم: محمد الحفري
قد يبدو هذا العنوان شعرياً أو يميل إلى الشعر، وربما يكون مستوحى من أغنية قريبة إلى القلب، أو مورث شعبي، وعلى كل حال يمكن تصنيفه بالذكي، وفيه تقنية المهارة والمراس، لأن هناك شيء ما في دواخلنا ينادينا، ويشدنا نحوه بعرى وثيقة، فنطاوعه بكل ما نملك من حب، من دون أن نعرف الأسباب التي تدفعنا لذلك، لتتشكل بعدها رواية تلك الأرض التي تخزن الحكايات كأنها الماء، وهذه الرواية للكاتب المصري أحمد طايل والتي تحمل عنوان ” شيء من بعيد ناداني” تأتي حاملة النداء الداخلي لبطلتها، وتجسيداً لاختبار العلاقة بين الإنسان وجذوره، وبين الفرد وأسئلة الهوية التي تلاحقه، وفيها يتجلى ذلك الإحساس الغامض، ليتجاوز الراهن واليومي من الحاضر نحو الماضي، ومن الذاكرة الشخصية إلى ذاكرة جمعية توغل نحو البعيد.
تدور أحداث الرواية حول شخصية محورية شابة، تدعى “لويزا” وهي فتاة هجينة بين الغرب التي عاشت فيه، وبين جذورها الشرقية من جهة الأم، وتحمل معها إرث نبوءة غامضة ونداء داخلي لا يفارقها، ليقودها إلى رحلة تتقاطع فيها حكايات العائلة والمكان مع تاريخ القرى والبيوت القديمة ومعارض الآثار ودهاليز المدن الحديثة، ولعل المحرض الأول لدخول البطلة إلى معترك الحياة ومحبتها للتاريخ والحضارة المصرية قد بدأ منذ ذلك اليوم الذي كان فيه عمرها خمسة عشر عاماً حيث التقت بعرافة وهي تتنزه مع أهلها في واحدة من حدائق العاصمة البريطانية “لندن” وقالت إنها ابنة الأرض وسوف ترجع إلى جذورها.
أما السبب الثاني برأينا، فقد يعود إلى الأب “تشارلز آدامز” وهو دكتور في إحدى الجامعات الأمريكية وقد زار مصر لإلقاء المحاضرات، وهناك تعرف إلى أسرة مصرية وارتبط بها، وتوطدت علاقته مع تلك العائلة، وقد سمعت الفتاة والدها مرات كثيرة، وهو يتحدث بإجلال وخشوع واحترام عن تلك البلاد، ومنها على سبيل المثال حين يصف أهل مصر بقوله :” شعب صاحب إرادة، عبقري، عاطفي إلى حد كبير، عاشق لوطنه، متفاعل مع أحداث وطنه وزمنه” ومن الطبيعي أن تتأثر بكلامه، وكل فتاة بأبيها معجبة كما يقال.
والسبب الثالث يعود إلى الدكتور زاهر وهو عالم وباحث في الآثار المصرية، يدخل حياة “لويزا” ويجعلها تتعلق بمصر، ويعد رمزاً للعلم والمعرفة ووجوده يعطيها استقراراً عاطفياً وفكرياً في الآن ذاته، ومع تطور الأحداث تنشأ بينهما علاقة قوية توصل إلى الارتباط، وذلك يمثل اكتمال سماعها للنداء، واكتشاف الجذور واندماجها الكامل بالحياة المصرية بعد الزواج والاستقرار، حيث كبرت البطلة وصوت العرافة لا يغادرها : ” ليس هنا، هو في بلاد بعيدة، سوف تناديك، وسوف تسمعين النداء دوماً وكثيراً”
لا ننسى أيضاً دور الأم المصرية التي كانت تزين البيت بأشياء جميلة “سجادة صغيرة، تعويذة قديمة، صور الأهل” والتي تعد كجذور لا يمكن لها أن تنقطع، وبقيت كلمات قريب والدتها كما السحر، تطرق مخيلتها وهو يردد:” أنت مش غريبة، الدم ما بيكذب”
في هذه الرواية تتابع الأحداث ويظهر الصراع جلياً مع أسئلة المصير والاختيار في مواجهة واقع اجتماعي متشابك وضاغط، ويبدو السرد كراصد حقيقي ومعرفي لطبائع الشخصيات في علاقتها بالبيئة والمجتمع ، وإذا كانت الشخصيات الرئيسة قد أخذت دور الأعمدة في هذا البناء الشامخ، فالشخصيات الفرعية قد شكلت ما يشبه الجسور التي مدت بين الكثير من تلك الأعمدة، ومنها شخصية “زاهر” الذي ساعد “لويزا” في إيجاد مكانها الحقيقي، والحاج “حسن” الذي لم يتوقف عن سرد الحكايات المصرية، وكذلك فريد الذي ربط البطلة مع مصر قبل أن تستقر فيها.
يمزج النص بين الحاضر وتداعيات الماضي، ويعيد صورة مصر كحاضنة للذاكرة والحضارة حيث يصبح التراث ليس مجرد حجارة أو نقوش بل جزءاً حياً من هوية البشر ومؤثراً في مشاعرهم وقراراتهم وعلاقاتهم، وقد أحست البطلة بشعور غريب هز وجدانها بمجرد رؤيتها لتمثال الفرعون، وعن جمالياتها وأسلوبيتها نؤكد بأنها كتبت بلغة مشبعة بالصور البصرية والحسية وهي تقدم للقارئ مشاهد أقرب إلى لقطات سينمائية متتابعة، وقد تميزت بالانتقالات السريعة بين الأزمنة، والحقيقة أن البنية الزمنية المتداخلة قد سجلت عمقاً متيناً لهذه التجربة والرمزية في الأغنية والآثار أعطت الرواية بعداً فلسفياً يتجاوز السرد الواقعي،وهي تشير بوضوح إلى علامة فارقة تسجل للرواية، لكن ما يؤخذ عليها برأينا هو عدم إفساح المجال أمام الشخصيات الفرعية أو الثانوية، لتكون أكثر حرية، وهذا ربما منعها من الانطلاق نحو فضاءات أكثر سعة ورحابة، وهي قد وظفت كرموز أكثر منها كشخصيات وكان من الممكن تزويدها بالكثير من التفاصيل الإنسانية، ومن ناحية ثانية بدا الوصف في بعض المقاطع من المعيقات التي جعلت الرواية تتباطأ في حركتها ومسارها، لكننا بالمقابل وجدنا فيه ذلك الثراء الحقيقي، وخاصة في وصف الأمكنة، وقد عثرنا على ذلك في المشهد الذي يأخذنا فيه الكاتب إلى زحمة السوق ورائحة التوابل والبخور والكثير من الأشياء الموجودة هناك، وهذا يعدُ برأينا بمثابة غنى وصفي بصري، يجعل القارئ يعيش الأمكنة ويشعر بأجوائها، ويجسد قدرة السرد على الإمساك بالتفاصيل الدقيقة من جهة وباللوحة الكاملة التي يمكن النظر من خلالها إلى النص من جهة أخرى.
وما يجب الإشارة إليه في حقيقة الأمر ذلك العمل الجاد والمجتهد الذي اشتغلت عليه الرواية حين جمعت بين الحكاية الواقعية التي تم انتشالها من محيط الكاتب، وبين تلك الرمزية العالية لمصر وحضارتها، وبالتالي تجاوز الكاتب الحكاية المباشرة، ليطرح أسئلة أوسع عن الذاكرة والهوية والوطن، كما برز في الأسلوب كما أسلفنا حضور الأغنية والرموز الثقافية التي تعمل كخيوط تربط بين الشخصيات وبين الواقع اليومي وإيقاع التاريخ البعيد، وهذا التوظيف يمنح النص طابعاً شعرياً، ويمنح القارئ شعوراً بأن السرد ليس مجرد حكاية، بل طقساً سردياً يذكره بجذوره، ومصر ليست خلفية صامته، بل نبضاً لحياة تفور وتشتعل وتسيل كما مياه النيل في كل لحظة من لحظاتها.
في النهاية يمكن القول إن رواية “شيء من بعيد ناداني” لمؤلفها أحمد طايل تجربة مميزة تستحق القراءة والاحتفاء حيث نجد أنفسنا أمام نص يوازن بين الواقع والخيال، معتمداً في طرح همه الاجتماعي على لغته القريبة من الشعرية، ليمزجها بالتفاصيل اليومية لحياة البشر، ويبدو الكاتب من خلال منجزه هذا وكأنه يحمل مشروعاً روائياً مستمراً بالتدفق يبحث فيه عن المعاني وأساليب طرحها، ليختلف بذلك عن التقليدي والمعتاد، ويجعلنا ننصت معه إلى ذلك النداء البعيد الذي يسكننا.




