أدب

“الحب بمن حضر”: عن سلطة الراوي العليم

بقلم: عزة حسين | ناقدة وأديبة مصرية
منذ عنوانها، بما للعنوان من حمولةٍ دلاليةٍ واستنباتٍ للتآويل، تشي الرواية الأحدث للكاتب المصري وحيد الطويلة، “الحب بمن حضر”، بالانحياز للشفاهي أو دارج اللغة المحكية؛ التي تختصر مسافاتٍ بين القارئ ومتلقيه، وتصعد بإيقاع السرد لربى أكثر حرارة.

ولا يتوانى الكاتب عن تأكيد ذلك الملمح فيصدر فصله الأول بالعنوان الفرعي: “راو على الناي” ومن ورائه “كان يا ما كان”، الجملة الافتتاحية العتيقة التي قلما يفلت من أسرها مستمع أو قارئ، ثم جملة “وقامت القيامة” ويؤكد: “نعم!!!”.

يبدأ حكايته من ذروتها، ويستبق أول كلماتها بواو عطفٍ توهم القارئ بأنه عاين من الأحداث ما يهيئُه للوقوف أمام عقدتها؛ انتظارًا لانقشاع الغبش وتكشف الرؤية وظهور الحل، قبل أن يدرك تكنيك اللعبة السردية التي استدرجه إليها راو عليم، تغول في سلطته وبسط حضوره على أحداث الرواية وعلى طريقة سردها وتلقيها، وقد لا ينكر الكاتب أنه تغول على سلطته أيضًا.

تبدأ الرواية بحكاية العجوز حارس القمينة “ورشة الطوب”، المضطلع- منذ عقودٍ – بحرق الطوب اللبن والفخار، مشيدًا ومؤثثًا بيوت القرية، لكن دوره يتعدى حراستها إلى حراسة القرية ذاتها، المهددة بالاحتراق والاختفاء كأن لم تكن، ما لم يأت غريب ليتسلم القمينة من العجوز قبل أن يموت الأخير؛ “هكذا تقول النبوءة”.

يطول انتظار العجوز للغريب المخلص، لكن “الغريب نفسه سر بلا مواعيد؛ حكمة الغيب”. يقاسمه القلقَ أهل المكان المحومون حوله في رعبٍ كأنما يحرسونه من موتٍ سيشملهم حتى المحو، لكنه في النهاية يأتي. الغريب، فتى اقتبس اسمه من الأساطير، ينذره أبوه للقمينة، ويتلقفه العجوز بلهفةٍ ويقول: “موعود… وريث الحياة الدنيا، صاحب الوعد”.

لكن مهلًا، هل انتهت الحكاية هكذا سريعًا، منذ فصلها الأول؟، يجيب الراوي: بأن لا؛ أنا فقط “أحب أن أخفف عنكم، ولا أصدمكم مرة واحدة، الحكاية طبقات والدنيا نفسها طبقات”.

وفي هذه الرواية طبقات ومستويات من اللغة، والأحداث، والأصوات، تتواتر على لسان الراوي، المتقمص لدور شاعر الربابة، مغني السير الشعبية، الذي ينفخ في الحواديت من روحه، ويشحن اللغة بالشعر والدراما، والأحداث بالتوتر، ناحتًا من صلصالها بشرًا على هيئة أبطال الأساطير، ولو كانوا، كما هي الحال في الرواية، غجرًا، وسقطَ لصوصٍ، ومقاطيع، فهو يشارك فيلليني الرأي بأن “ليس هناك أوغاد، هناك دائمًا بشر”.

الحدوتة ليست هنا، ولم تكن في الأعمال الأسبق لوحيد الطويلة، الرهان الأول، بل كيف تروى؛ فهو قد يبدأ حكايته من آخرها، ويحبس الأنفاس منذ المشهد الأول، كما فعل في روايته الثانية “أحمر خفيف”، أو بعد الجملة الأولى كما فعل في روايته قبل الأخيرة “كاتيوشا”، ويظل محتفظًا بالقارئ ومورطًا إياه لأقصى مدى في عالم زخم، من فانتازيا الواقع، الذي يعيد تشييده بمتعةٍ، يصر على استشعارها أولًا قبل تقطيرها للقارئ.

أما وقد تصادف أن يكون صاحب هذه العقيدة الفنية ذا تجربةٍ إنسانيةٍ بالغة الثراء والخصوصية، مولودٌ في بقعةٍ نائيةٍ، يعتاش رجالها على صيد الطيور المهاجرة وغنائم السطو والجرائم، وتعتاش نساؤها على اجترار وتوليد الحواديت، انتظارًا لمن قد لا يعودون، أو بتعبير الروائي الكبير خيري شلبي “تصادف وكان من بين أبناء هذا العالم شاب موهوب في فن الرواية” فإنه – والكلام لشلبي – “حري بأن يكون، بتفاصيل هذا العالم وحده، روائيًا كبيرًا، يناطح قامات كثيرة كانت تتمنى لو أنها رُزقت ولو بشطر ضئيلٍ من هذا العالم الثري الذي خرج منه”.

صحيح أن عبارة شلبي وردت في سياق الاحتفاء بالروائي الراحل حمدي أبو جليل، لكنها تنطبق تمامًا على وحيد الطويلة، الذي للمفارقة خرج من نفس النقطة الجغرافية التي خرج منها خيري شلبي، بفارق ثلاثة أو أربعة عقود، ووجد كلاهما في بيئته كنزًا اغترف منه أعماله، فصعد بهامشه المطمور تحت طبقات الطين والعنف والبدائية إلى متنٍ لم يكن ببالغه إلا بالفن والالتفات المبكر لثراء ذلك العالم.

عن تلك العلاقة كتب وحيد مرةً: “بحث عني خيري شلبي كثيرًا؛ أنا وهو من مركز واحدٍ تقريبًا، يتم حل مجلس الشعب فنصبح دائرتين، يعود مجلس الشعب فنصبح مركزًا واحدًا، هو من قرية على تخوم البندر وأنا من قرية اخترعها ذئب عتيد ليدلل أولاده فيها بعيدًا عن أعين الحكومة، لم يترك خيري شلبي لنا شيئًا، كتب عن كل حلمٍ وحكى حكاية كل كابوس، نفّض المنطقة بكاملها، لم ينس أن يكتب عن أول بدلة دخلت قرانًا وكانت لعمه، دشن مواعيد شراء القماش ومواعيد البروفات والفطير الذي صنع يوم قدومها ومنشة الذباب التي اشتروها باعتبارها من المكملات، وعن الضحكات المكتومة حول القمل السارح في شعر أمثالنا القادمين من القرى عند زيارة أقاربهم في المدينة، لم يترك وجهًا أحبه إلا وكتبه، قلت لزين ابنه وصديقي (خلي أبوك يخف إيده شوية)… وحين كلمته كان سؤاله المتوقع (هي الحتة دي فين بالضبط يا ولد؟)”.

ما لم يقله وحيد في هذا المقال، وذكره في سياقٍ آخر، إنه أجابه قائلًا: “دي حتة على شمال السما يا عم خيري، عملوها بعد ما انت مشيت!”.

“في هذه الرواية طبقات ومستويات من اللغة، والأحداث، والأصوات، تتواتر على لسان الراوي، المتقمص لدور شاعر الربابة، مغني السير الشعبية، الذي ينفخ في الحواديت من روحه، ويشحن اللغة بالشعر والدراما، والأحداث بالتوتر”

في أبعد نقطةٍ في الشمال، بمحافظةٍ كانت تعامل حتى بداية الألفية الحالية معاملة المناطق النائية، عند الطرف الميت من بحيرة البرلس، حيث يتواصل المطر طوال أشهر الشتاء، على أرضٍ مالحةٍ انحسر عنها ماء البحيرة، فلا يزدهر فيها صيد ولا زرع، بلا طريقٍ ممهدٍ ولا مرافق، حتى ثلثي القرن الماضي، كانت قرية الطويلة مكانًا مثاليًا للهاربين من الثأر، أو الشرطة أو من أقدارهم وأوجاعهم ومواضيهم. ولم يكن مفاجئًا أن تصير مسرحًا لأعماله منذ روايته الأولى “ألعاب الهوى، 2005” ومن ورائها روايته الثانية “أحمر خفيف، 2008”.

وبعد أربع رواياتٍ بعيدًا عن ذلك العالم هي: “باب الليل”، “حذاء فيلليني”، “جنازة جديدة لعماد حمدي” و”كاتيوشا”، وبفاصل عقدٍ ونصف العقد من الزمان، عاود وحيد الطويلة، كأن لم يغب، لتمتينه في الرواية الجديدة “الحب بمن حضر”.

في تلك البقعة الممثلة لديموغرافيا القرى البعيدة، حيث القسوة التي لم يحتملها حتى الغجر، ولم يصمد فيها سوى البوم، ومن على سمتهم من البشر، ولدت حكاية أشبه بالفصل الأول من حياة قابيل ابن آدم، الذي قرب قربانًا ولما لم يُتقَبَّل منه اخترع الانتقام و”قامت القيامة”.

قامت- وللمفارقة – على يد موعود، المخلص الذي انتظرته القرية ليخلف العجوز ويرجئ اللعنة لمائة عام أخرى، لكنه استحال بذاته لعنة أشعلت حرائق القلوب وأوشكت على محو كل أثر.

فطبقًا للأسطورة التي يقطّر الراوي فصولها تدريجيًا ليحتفظ بخيوط الرواية ويشد نسيج حبكتها، سيفنى المكان بسبب قصة حب، تبدأ وتنتهي عند عامل القمينة؛ ظهور الغريب لم يكن إذًا الشرط الوحيد لصد النبوءة، بل أيضًا الحب؛ “الحب، هو السر يا سادة، إن وجد وجدت، إن عاش عاشت، وإن اختفى تختفي البلدة كلها”.

وموعود أحب بهجة ولما لم تبادله الحب، قرر حرق الأرض بنارٍ مجرَّبة، فأمطر شرفات وأبواب البيوت برسائل غامضة تخبر كل شريكٍ بأن شريكه يخونه، ختمها بتوقيع “فاعل شر”، وقلب مكسور.

رسائل مختلف ألوانها: الصفراء للرجال والحمراء للنساء، لكن تشابهت روائحها المدخنة وأثرها الجمر، وكانت القيامة على بعد شرر، لولا أن استجاب موعود أخيرًا لتوسلات حبيبته، التي تتبعت رائحته في الرسائل وأنفاسه التي كان يبثها في الناي منتصف كل ليلة قبل أن يطيِّر رسائله، بأن ينهي ذلك الجحيم، ليتحقق الشطر الأخير من الأسطورة، الجزء الذي علمته بهجة ولم يبح به الراوي إلا قرب النهاية:

“الأسطورة صحيحة يا جماعة، كل مائة عام يفنى المكان بسبب قصة حب، لكن هناك ما هو أهم، ما لم يقله والد بهجة لإبنته، ولم أقله لكم من البداية، وهو ما كان يجب أن أفعله وسامحوني: إن قصة حب أيضًا يمكنها أن تحمى هذا المكان، تنقذه وتنقذ الناس من الهلاك (…) عندما يحضر الكلام عن الحب، يختفي الكلام عن القيامة”.

يختتم الراوي حكايته، متنبئًا بأنه سيغنيها شعراء الربابة، وسيصنع المغنون الشعبيون منها العجب، وسيطلبها المتفرجون؛ وبغض النظر عن تسلطه على الأحداث والأوصاف والتلقي وكسر جميع حوائط السرد، فإن قوة هذه الرواية ليست في تسلسلها الدرامي، ولا فقط في حبكتها المصنوعة بنفس مونتير أو قصاص يعي نصيحة هيمنغواي: “اكتب وأنت واقف”، فيعتمد الجمل القصيرة، التي تولد الشاعرية تلقائيًا، من تدافع الكلمات وتجاورها، وإنما في كونها رواية شخصيات، أو منحوتات بشرية انحاز صانعها لكلٍ منها على حدة، وكأنه لم يخلق غيره، فلا تستطيع تمييز الرئيسي من الثانوي، إذ يصلح جميعها للزعامة ضمن أسطورةٍ خاصة، أو على طريقة فيلليني أن يخرج من الفيلم بفيلمٍ آخر.

مسعد الحشاش النبيل، نصف الغجري، وعلعول الزمار المبهج، وإمام المسجد المرائي، وعشيقته حربية، وصابر سائق الحنطور والشيخ كزبرة، والشيخة صباح، وسماح ضحية الغدر والخذلان وغيرهم، ووالد بهجة المسيح الأرمل، شخصيات ينافس حضورها في الرواية أثر الحدوتة المجردة، وحتى الأسطورة، ويضفون حيويةً وإنسانية على نصٍ يعد نسبيًا غير طويلٍ، لكنه يحتشد بالألوان والأصوات والروائح، كأنها الكون في غرفةٍ مسورةٍ بالمرايا، أو بحسب تعبير الكاتب أحمد المديني “مهرجان فرجة ومتع من أصوات وواقع كالأخيلة وألوان وأذكار”.

أخيرًا فإن رواية “الحب بمن حضر” بعنوانها المخاتل تنتهي كمثل الأعمال المركبة مخلفةً أثرها، الذي تبرز معه من جديد فكرة التطهر بالفن، وكأن التورط في القبح والدنس له دائمًا حل أزلي هو غمس اليد في النار لتخرج بيضاء من غير سوء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى