أضغاث صحوتي.. مريم التي زارتني (10)
منال رضوان | مصر
اللوحة للفنان محمد رضوان
ربما الأحلام هي كل ما رسخ بذاكرتي من أعوام بعيدة، وقتها كنت قد جمعت من عقد السنوات خمس عشرة حبة، ودائمًا ما أتعرض لحالة من الارتفاع الشديد في درجة الحرارة، ولا يصاحب ذلك أي أعراض أخرى، وبما أن ذلك يعد كعرضٍ لابد وأن يشير إلى شيء ما خاطىء وخفي يحدث داخل الجسد؛ غير أن الأطباء عجزوا عن اكتشاف السر وراء حالات (الحمى) المتكررة التي تنتابني كل عدة شهور؛ فأظل مريضة ليومين أو ثلاثة ثم ينتهي الأمر ويُنسى، حتى يعاود اللهب النهم افتراس جسدي مرة أخرى، تارِكًا إيَّاي أُصَارِع المَوت ثُمَّ يَرحل بعد أن تخفت نيرانه.
ليلتها عاودتني الحمى؛ حتى خيل إليَّ أنهم ألقُونِي في بُحيرةٍ من النَّارِ لن أخرج منها أبدًا،
أمي تحاول إطفاء نِيرَاني المُتَقِدة بِسَكب الماء على رَأسيّ حَتَى خَارت قُواها وظلتْ تنتظر رَّجُلها حَتى يعود ويَأخذ وحيدتهما إلى أقرب طبيب.
ها قد جاء أبي أخيرًا يحملُ قفصًا صغيرًا بداخله أحد الطيور الغريبة، كان هدهدًا رائع الشكل، حاولتُ بِشَغفِ الطفولة التي لَمْ تَكُن قَد غَادرتْ عتباتي بعد أن أَنهض لأراه دُونَما جدوى.
مَنحني أبي بَعض المُسكنات مُقتَرحًا أَنْ نَنتظر حتى الصباح واِمتثلت أمي كعادتها؛ لكنها حرارتي تزداد اِرتفاعًا، أَذكُر أنها سحبتني سحبًا مرة أخرى لتسكب عليّ الماء البارد وسط صراخي، ثم سَاعدتني لأدخل فِراشي، كما أتذكر أيضًا بكائي مِن ألمٍ شديد يَنهَشّ عضلاتي، لكنني تحاملت على نفسي وأََمسكتُ بالقرآن الكريم لأقرأ سورة “مريم”.
عدة آيات حتى توقفت من شدة البكاء أو الألم؛ كعادتي منذ سنوات كثيرة لا أدري أَيُهما يكون أشد وطأة على نفسي، ثم تمتمتُ بكلمات، هذا ما أتذكره منها :
(يا رَب، لَقدْ عانت سَيدتنا مَريم وساعدتها بِرَحمتك، هَلْ من الممكن تُسَاعِدني أنا الأخرى. يا ستنا مريم: هَل تَطلبين من الله ألا يجعلني أُعَاني من اِرتفاع الحرارة مَّرة أخرى طوال حياتي)
قُلت هذا ثم نمت.
رأيت فيما يَرى النائم صورتها تسطع ببهاءٍ شديد عَلى الحائط المقابل لفِراشي، ثم اختفت !
نَعم إنها هى بالتأكيد السيدة العذراء، كما كُنت أَرى صُورتها عند جيراننا أو هذا المجسم الكبير من الجص الذي يسكن أحد أركان مكتب مديرة مدرستي الأخت سعاد دانيال، يبدو أنها قد أنصتت لكلماتي، وعادتني في مرضي، هكذا حدثت نفسي فيما بين يقظة الحمى و أضغاث الأحلام.
اِستيقظتُ صبيحة اليوم التالي لا أُعَاني أيَّ آلام، مَددتُ يَدي لِقَفص الهُدهد الذي تركتهُ أُمي بِجَانبي طوال الليل تحت إلْحَاحي الشديد أثناء (هلوسة العناد) الواعية لكل ما يحدث حولي، وقد أخبرتها برؤياي العجيبة فَتَمتمت في تَعجُّبَ بما معناه:
( يا سبحان الله، لقد اصطفاها وطهرها؛ لكنك من شدة حرارتك اِلتبست أحلامك مع واقع قراءة سورة تحمل اسمها).
قلت ربما. وللحق، فَإنّ مَا كان يشغلني وقتها بالإضافة لشفائي السريع هو ذلك الضيف الذي لم أحسن اِستقباله لظروف المرض، أخذت أداعبه محاولة إطعامه دون جدوى، حتى مر اليوم ولم يأكل (بيسكو) شيئًا، هكذا أسميته.. (بيسكو).
إطمأنت أمي أنني تعافيت هذه المرة بسرعة، وذهب والدي إلى عمله، وأنا أحاول جاهدة إطعام الهدهد، هكذا مر يومنا.
عِند المساء خَلدتُ إلى النوم ليبدأ حُلمي الثاني.
– أحد الأشخاص كان يرتدي عباءة من نورٍ أبيض شديد السطوع، يقترب من فِراشي قائلًا عبارة من سبع كلمات مفادها:
– ( يكفيكِ هذا، أطلقي هذه الروح التي تحبسينها)
ويتلاشى، استيقظت خائفة وأخبرت أمي بما رأيت، أخذت المسكينة في الصراخ معاتبة أبي؛ فهو من أحضر لنا هذا الطير المبارك الذي ربما كان من أحفاد “هدهد سيدنا سليمان عليه السلام” ونحن عن جَهلٍ وضعنا أمامه بعض ديدان الطمي – التي ابتاعها أبي مع القفص الحديدي – وحشائش خضراء وهو من سلالة الملوك في جنسه!
(السماح.. السماح.. السماح) رددت أمي عشرات المرات، وأنا لا أعلم شيئًا سوى وقائع نومي وأحلام شفائي،
اِصطحب أبي الضَيف الملكي؛ ليعيده إلى حيث عثر عليه وسط حدائق قصر المنتزة، قبل أن يبتاع له القفص الحديدي لتلهو صغيرته به.
والحقيقة أنني لم أحزن على فراق “بيسكو”، كما أنني لم أنس هذه الحكاية أبدًا رغم حدوثها منذ سنوات بعيدة، إلا أن الحرارة المرتفعة لم تعاودني منذاك اليوم؛ رغم عدة عمليات جراحية أجريتها بعد ذلك وإصابتي بكوفيد ١٩، غير أن “كهيعص” بأنفاس ملتهبة، وزيارة بهية تجلت فيها سيدة نساء العالمين على حائط غرفتي، وصاحب السمو المجهول، قد أتمواْ معجزة الشفاء في وشيج عجيب من حقيقة خالطتها الأحلام.