المغالطات المنطقية وأثرها في الشعر العربي (4)
أ. د. يوسف حطّيني | شاعر وناقد أكاديمي – جامعة الإمارات
الفصل الثّاني: الورد والشّهدُ
ليسـت خلاصــةُ كلِّ شيء غُنيـةً
عنهُ وإنْ كانتْ خلاصةَ ماهرِ
فالشّهدُ وهو خلاصة الأزهار لا
يغني العيونَ عن الرّبيعِ الزّاهرِ
عبّاس محمود العقّاد
(1)
فورَ اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة صباح الحادي عشر من أيار (مايو) 2022 راحت وسائل التواصل تتناقل الخبر مبيّنة بشاعة هذه الجريمة الصهيونية الجديدة، غير أنّه سرعان ما راح كثير من هذه الوسائل يتخذ منحى آخر، حين بدأ بعض المغردين يسأل أسئلة غير بريئة حول ديانة شيرين، وحول جواز الترحّم عليها؛ لتحتل هذه القضية الجانبية منصّة الاهتمام، بدلاً من القضية الرئيسية ذاتها.
إنّ هذا التضليل الذي مارسه المشاركون في حملة التقليل من طهرانية استشهاد شيرين، سواء عن قصد أو غير قصد، إنما يمارسونه بتخطيط غيرهم، عبر استخدام مغالطة منطقية، تسمّى الرنجة الحمراء (Red Herring) التي اتخذت هذا الاسم من خدعة قديمة للصوص الذين كانوا يضعون سمكاً نفّاذ الرائحة في طريق هروبهم، لتضليل الكلاب البوليسية، ومن عادة مستخدمي هذه المغالطة أن يركّزوا على تفاصيل غير أساسية في القضية، مهملين جوهرها؛ ليحرفوها عن هدفها المرسوم. وتعني هذه المغالطة “أن يطرح الشخص، حين يعجز عن الاستدلال، مواضيع جانبية لافتة في أثناء النقاش، لتشتيت انتباه الطرف الآخر، وإخراجه عن الموضوع، ثم يناقش الموضوع الجديد؛ ليظهر كمنتصر في النقاش، في حين يكون الطرف الآخر قد نسي الموضوع الأصلي الذي انطلق منه[1]“.
غير أنّ المسألة تختلف في الشعر، إذ تتخطى جماليةُ الشّعر قضيّةَ تضليل الرأي العام، أو توجيهه على الأقل، إلى جذب المشاعر عن طريق التفاصيل الصغيرة التي تكون جزءاً من الموصوف، فيما قد تكون خارجه في المحاورات المنطقية. ويتجلّى هذا في الشعر العربي أكثر ما يتجلّى في القصائد التي تكثّف اللحظة الحاضرة، وفي قصائد “التفصيل الواحد”، وفي فن الكاريكاتير الشعري الذي حمل رايته الأولى الشاعر العباسي ابن الرومي بلا منازع.
(2)
إن التركيز على زمن معين، أو تمجيد اللحظة الحاضرة كما يقول الوجوديون، أو التبئير الزمني كما يقول السرديون، له وجه آخر، يعني فيما يعنيه تجاهل الأزمنة الأخرى لصالح زمن يجتهد صاحب النص في جعله بؤرة زمن القارئ.
لسبب ما تخطر في بالي وأنا أكتب هذه السطور أغنية “في يوم وليلة” لوردة الجزائرية[2]، حيث “دوّبْنا عمر الحبّ كلّه/ في يوم وليلة”، وأغنية عبد الحليم حافظ “فاتت جنبنا[3]” التي تركّز على لحظة مرور الفتاة الجميلة، وحيرة الصديقين بعد ذلك حول صاحب الحظ السعيد الذي ضحكت له منهما.
لقد شكّلت اللحظة الحاضرة للناس عامة، حيّزاً زمنياً يجب استثماره في العمل الصالح، أو انتهابه في الملذات التي قد لا تتاح مرة أخرى، ولولا الخوف من اتساع الموضوع لتحدّثنا باستفاضة عن لحظة انطلاق خاصة جداً تحكم النص الأدبي شعراً ونثراً، على نحو ما نجد في رواية “الانمساخ” لكافكا[4]، وقصيدة مالك بن الريب اليائية الشهيرة التي رثى فيها نفسه[5]. ولعلنا نذكر هنا مطلع قصيدة للشاعر اللاتيني هوراس (ت: 865 ق.م)؛ يقول فيه: “اغتنم اللحظة[6]“، وهذا ما نجد صداه في كثير من الشعر العربي القديم والحديث على حد سواء، بما يعنيه التركيزُ على الزمن المحدّد من حجب للأزمنة الأخرى، ولنا أن نتذكر “خدر عنيزة” وأياماً أخرى محددة، خصها امرؤ القيس، بأبيات في معلّقته، ليؤكد لنا أنّه محبوب من قبل النساء اللائي يقبلن عليه، ليبعد القارئ عن شبهة “أيام أخرى” تكرهه فيها النساء. يقول امرؤ القيس:
ويَـوْمَ دَخَـلْـتُ الـخِـدْرَ خِـدْرَ عُـنَـيْـزَةٍ
فَـقَالَـتْ: لَكَ الـوَيْـلاَتُ! إنَّـكَ مُـرْجِـلِـي
تَـقُـولُ وقَـدْ مَـالَ الـغَـبِـيْـطُ بِـنَـا مَعاً
عَقَـرْتَ بَعِـيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْـزِلِ
فَـقُـلْـتُ لَـهَـا:سِـيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـه
ولاَ تُـبْـعـدِيْـنِـي مِـنْ جَـنَـاكِ الـمُـعَـلَّـلِ
فَـمِـثْـلُكِ حُـبْـلَـى قَـدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعاً
فَـأَلْـهَـيْـتُـهَـا عَـنْ ذِي تَـمَـائِـمَ مُـحْــوِلِ
إِذَا مَـا بَـكَـى مِنْ خَلْـفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ
بِـشَـقٍّ، وشقٌّ عندَنا لَــمْ يُـحَـــوَّلِ[7]
وبصرف النظر عن مدى الصدق الواقعي لهذه الحادثة، ولحوادث أخرى يذكرها امرؤ القيس في السياق ذاته، فإن الصدق الفني يعبّر ببراعة، ليس فقط عن تمسك الشاعر بالزمن الأخص، بل عن هروبه من لحظات أخرى وحوادث أخرى تنسج حول كره النساء له، وعدم إقبالهنّ عليه.
ومن مثل ذلك التخصيص للزمن، ما يكتبه الشعراء في غرض الوصف الذي ينصب على ليلةٍ ميّزتها المرأة العاشقة أو الطبيعة في حياة الشاعر على نحو ما نجد في شعر ابن حمديس الصقلي الذي وصف ليلة مطيرة في قصيدة مشهورة مطلعها:
نثر الجوّ على الأرض برَدْ
أيّ درّ لنحورٍ لو جمَد
لؤلؤ أصدافه السُّحْبُ الّتي
أنجز البارقُ منها ما وعدْ[8]
وربما نجدُ في ليلة أخرى من ليالي الشاعر العماني سيف الرحبي تبئيراً لآلام الماضي التي تتجلى من خلال أجداد يزأرون ذاهبين إلى الحرب، تاركين الشاعر يستمطر ذاكرته بينما يبحث لنفسه عن حرب أخرى مختلفة:
في الليلة الأخيرة التي تشبهُ قلبا
ينفجرُ على منعطفٍ
في هذه الليلة
أصغي بين أضلعي، لزئير الأجداد
ذاهبين الى الحرب
مقتفين أثر الكلاب المندفعة
كمبضع ينتهك صدر الصحراء
لخيولهم تحملُ جثث الأعداء عبر المفازة
لِلَمعانِ الأجنة والبطون المبقورة
لجلبةٍ تحملُ الأفق ذريعةً للحكاية
لأولئك القادمين من أغوار السنين
بحثاً عن مكانٍ بين أضلعي والمسافة..
في هذه الليلة أبتكرُ حرباً أخرى
وأمضي[9]
ومن ذلك التحديد الزمني أيضاً ما كتبه الشعراء المسلمون قديماً وحديثاً عن “يوم القيامة” و” ليلة الإسراء والمعراج” و”ليلة القدر” وغيرها، يقول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في وصف ليلة القدر:
يَا لَيْلَةَ القَدْرِ يَا ظِلاًّ نَلُوذُ بِهِ
إِنْ مَسَّنَا جَاحِمُ الرَّمْضَاءِ مُلْتَهِبَا
ذِكْرَاكِ فِي كُلِّ عَامٍ صَيْحَةٌ عبرَتْ
مِنْ عَالَمِ الغَيْبِ تَدْعُو الفِتْيَةَ العُرُبَا
يَا لَيْلَةَ القَدْرِ يَا نُورًا أَضَاءَ لَنَا
قَاعَ السَّمَاءِ فَأَبْصَرْنَا مَدىً عَجَبَا
تَنَزَّلُ الرُّوحُ رَفَّافاً بِأَجْنِحَةٍ
بِيضٍ عَلَى الكَوْنِ أَرْخَاهُنَّ أَوْ سَحَبَا
وَلِلمَلائِكِ تَسْبِيحٌ وَزَغْرَدَةٌ
تَكَادُ رَنَّاتُهَا أَنْ تُذْهِل الشُّهُبَا[10]
أمّا الشاعر المغربي عبد المجيد آيت عبّو فإنه لا يهتمّ بوصف الليلة المباركة بمقدار ما يهتم بحثّ المسلمين على التعبّد فيها والنيل من فيوضها الكثيرة، فيقول:
زَارَتِ العَشْرُ فَيَا مُرْتَقِبًا
مَا الَّذِي أَعْدَدْتَ مِنْ طِيبِ القِرَى
أَكْرِمِ الضَّيْفَ إِذَا أَحْبَبْتَهُ
خَابَ مَنْ شَحَّ نَدَاهُ مُقْتِرَا
جَاءَتِ العَشْرُ وَفِيهَا لَيْلَةٌ
بَرَزَتْ فِي العَشْرِ بَدْرًا نَيِّرَا
لَيْلَةُ القَدْرِ رُبَى الـخَيْرِ بِهَا
نَزَلَ الذِّكْرُ مَنَارًا لِلْوَرَى
هِيَ فِي عِقْدِ اللَّيَالِي دُرَّةٌ
أُمُّ هَاتِيكَ اللَّيَالِي عِبَرَا
أَلْفُ شَهْرٍ دُونَهَا مَنْزِلَةً
فَاغْنَمِ الفَضْلَ لِتَحْيَا عُمُرَا[11]
ولتوضيح التضليل الذي يمكن أن يمارسه تحديد الزمن الخاصّ في المجتمع؛ يمكن أن نشير إلى أنّ الشعراء يكتبون عن المناسبات الدينية والاجتماعية الخاصة التي يحددها الزمن لاقتناصها في ترسيخ سلوك إيجابي، يمتدّ على زمن يتجاوز خصوصيتها، غير أن النص في الأغلب الأعم لا يحقق مراده، فالمسلمون الذين يملؤون المساجد في ليلة القدر يشبهون مجتمع الأبناء في عيد الأم؛ إذ تمتلئ المساجد عن بكرة أبيها في رمضان، وتسهر حتى الصباح في ليلة القدر، ولكنها تخلو تقريباً بعد صلاة العيد بانتظار مناسبة دينية أخرى، والأبناء البررة الذين يتسابقون لنيل رضى الأمهات في الحادي والعشرين من آذار (مارس) ينفضون عنها في أيام السنة الأخرى، إلا من رحم ربي؛ ويبقى دور المبدع في مجال الأمثولات الأخلاقية والدينية أن يركّز على زمن خاص، طامحاً إلى سحبه على زمن عام؛ في عمر قصير لا يحتمل إضاعة لحظة منه في غير استثمار موجّه. وها هو ذا عمر أبو ريشة يدعو إلى “العيش” مهما بلغ العمر من القصر، من خلال رصد حوار بين فراشتين:
فراشـة ٌ قالـت لأخـت لـهـا:
ـ مـا أبهـج ..الكـون و مـا أسنـى
لكننـي يــا أخـت فـي حيــرة
مـن أمـره سرعـان مــا يفـنـى
ـ رفـيـقــة الـعـمــر لــنــا يـومنـا
فلْنجـنِ مـن نعمـاه مـا يُجنَـى
لا تسـألـي عــن غـدنـا ربـمــا
أيقظت من أشباحه الوسنى[12]
(3)
ويمكن للمرء أن يعرض جانباً آخر من جوانب استثمار مغالطة “الرنجة الحمراء” المنطقية في الشعر من خلال عدد من القصائد التي تركّز على تفصيل صغير، تلفت إليه النظر، حاجبة التفاصيل الأخرى، ومن غير شك فإن القراء العرب يعرفون قصة التاجر الذي شكا كساد بضاعته من الخمُر السُّودِ إلى مسكين الدارمي، فأنشد له أبياتاً عملت على تضليل “الرأي العام النسوي”؛ إذ طارت شهرة الأبيات، وطارت معها تلك الخمر السود؛ لتستقر على أوجه نساء حلفن أن يسلبن دين الناسك المتعبد، ويقينه. قال الدارمي:
قل للمليحة في الخمار الأسودِ
ماذا أردتِ بناسك متعبّدِ؟
قد كان شمّر للصلاة ثيابهِ
حتّى قعدت له ببابِ المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحقّ دين محمّدِ[13]
وتمكن في هذا الإطار الإشارة إلى قصيدة “ذات الوشاح” ليزيد بن معاوية التي ينطلق الشاعر من وشاحها في البيت الأول بداية مخصصة سريعة ينتقل بعدها إلى غيرته عليها منه ومن ثيابها ومن أقرب الناس إليها:
خذوا بدمي ذات الوشاح فإنني
رأيتُ بعيني في أناملها دمي
أغار عليها من أبيها وأمها
ومن خُطوة المسواك إن دار في الفم[14]
كما تمكن، بقفزة زمنية هائلة، الإشارة إلى قصيدة “المنديل الأصفر” للسياب؛ حيث يحتلّ المنديلُ القصيدةَ وقلب الشاعر، وينقل إلى القارئ أثر المنديل، دون أن يعطيه فرصة التفكير في عيني المحبوبة أو شفتيها أو شعرها، وها هو ذا يدفع القارئ إلى تأمل المنديل، ونسيان كلّ ما عداه، مستفيداً من استدارة تشبيهية يفضّل فيها المنديل على شعور النساء الذهبية المتراخية على الأكتاف:
خريفٌ ولكنّه كالرّبيعِ
يضوعُ بعطرِ الصِبا والمَراحْ
فما مُذهبٌ من شعور الحسانِ
تراخى على كتفٍ واستراحْ
بمشبهِ منديلها فتنةً
وسحراً إذا جاذبته الرياحْ
أمنديلَها.. من تحبّ الفتاةُ
ألا إنَّ شأن الهوى أن يباح[15]
(4)
لقد تمّ اختصار صفات النسوة ها هنا في الخمار والوشاح والمنديل والبستان، فصارت هذه الأشياء علامة، أو شعاراً[16]، يلغي العام لصالح الخاص، شأنه في ذلك شأن “طَرْف” حبيبة عمر بن أبي ربيعة الذي صار مركز جذب في قوله:
أشارت بطرف العين خشية أهلها
إشارةَ محزونٍ ولم تتكلَّمِ
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحباً
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيّمِ[17]
وغنيٌّ عن القول أن “العيون التي في طرفها حور” احتلّت مكانة مرموقة في الشعر العربي، واختصرت جمال المرأة، من جرير إلى السياب، وقامت بإزاحة جمال المرأة الكامل لصالحها في كثير من الأحيان، يقول السياب في قصيدة “عينان”:
إنّ في مقلتيك بحرين ينثا
لان بالدفء والندى والضياءِ
بالضباب الشفيفي يفنى شعاع الـ
بدر فيه وناسماتُ الهواءِ[18]
وإذا كان السياب قد خصص للعيون من الشعر ما كثُرَ وذاع صيته فإننا نجد عند إيليا أبي ماضي قصائد مخصّصة لمثيرات أخرى من جسد المرأة، على نحو ما نجد في قصيدة بعنوان “ابسمي” التي تدور في فلك “ابتسامة” تمنح الطبيعة ربيعاً زاهراً. يقول أبو ماضي:
اِبسِمي كَالوَردِ في فَجرِ الضياءْ
وَابسُمي كَالنَجمِ إِن جُنَّ المَساءْ
وَإِذا ما كَفَّنَ الثَلجُ الثَرى
وَإِذا ما سَتَرَ الغَيمُ السَماءْ
وَتَعَرّى الرَوضُ مِن أَزهارِهِ
وَتَوارى النورُ في كَهفِ الشِتاءْ
فَاحلَمي بِالصَيفِ ثُمَّ اِبتَسِمي
تَخلُقي حَولَكِ زَهراً وَشَذاءْ[19]
وهذا إبراهيم ناجي يخصص قصيدة لـ “شعرة”، ملكت قلبه وروحه، وغدت كونه الصغير الذي يؤنس وحشته، يخبئها ويحافظ عليها، ويفيء إليها حين يحزبه الشوق. يقول ناجي في بعض أبيات القصيدة:
وشعرةٍ خطفتُها
كأنني قطفتُها
ملكتُ ملكَ الدّهرِ وحـ
دي حينما ملكتُها
إذا الرّياح نازعت
ني أمرَها ضممتُها
بقبضتيَّ خائفاً
إذا اعتدت رددتُها
وفي مكانٍ ليس في
بالٍ جَرى خَبأتها
خبأتُها حيث إذا
جُنَّ الهوى رأيتُها[20]
أما عمر أبو ريشة فيخصص أبياتاً جميلة للحديث عن قلبه الذي يضيء بعشق من يهوى، يقول في قصيدة “قطرة الزيت”:
لن تعثري عبر الدّجى إنّهُ
أسنى سراجٍ كان في بيتي!
حملته في غفلتي، بعدما
أسرى بكِ التيهُ وأسرَيْتِ
وما تلفت به، صوب ما
أضحكتِ من عمري، وأبكيتِ
ليتك لما سرتِ في نوره
ذكرتِ فيه قطرة الزيتِ[21]
(5)
هناك شكل مهم آخر لاستثمار مغالطة “الرّنجة الحمراء” التي تعتمد على حرف النظر إلى الثانوي بدلأ من الجوهري، هو فن الكايركاتير البصري الذي يفيد كثيراً من هذه المغالطة؛ فيعمد إلى السخرية عبر تضخيم جزء من أجزاء الجسد، مستفيداً من لغة الجسد ورموزها ودلالاتها، أو عبر تبئير حدث من الأحداث الصغيرة، من أجل توجيه المتلقي إلى معنى قد يكون خافياً عنه.
وكثيراً ما يعتمد هذا الفن على مبدأ الكوميديا السوداء، فيحوّل الألم إلى ابتسامة، على نحو ما نجد عند نزار قباني في قصيدة “الديك” الذي يرمز للحاكم العربي في صورة كاريكاتيرية مضحكة مبكية:
في حارتنا ديكٌ ساديٌّ سفّاحْ
ينتفُ ريشَ دجاجِ الحارةِ كلَّ صباحْ
ينقرهنَّ،
يطاردهنَّ،
يضاجعهنّ،
ويهجرهنّ..
ولا يتذكَّر أسماءَ الصيصانْ[22]
مثل هذا الوجع الكاريكاتيري المضحك موجود في قصائد الشعر العربي القديم، عند ابن الرومي والمتنبي بشكل خاص، فقد تميّز هذان الشاعران، وتمايزا، فاعتمد ابن الرومي، بخلاف المتنبي، على الشخصية أكثر من اعتماده على الحادثة في ترسيخ فن السخرية اللاذع.
ولا أظنني أقول جديداً حين أشير إلى أنّ ابن الرومي واحد من أهم الشعراء العرب الذين فتحوا الباب واسعاً أمام فن الكاريكاتير؛ إذ مارس هذا الفن بالكلمات، فوصف الشخصيات، وأضاف إلى أبعادها حسّ السخرية الذي يتقنه أيّما إتقان. وها هو ذا يصف بخيلاً اسمه عيسى؛ فيقول:
يقتّر عيسى على نفسِهِ
وليس بباق ولا خالدِ
ولو يستطيعٌ لتقتيرهِ
تنفّسَ من منخرٍ واحدِ[23]
بينما يصف لحية طويلة جداً لرجلٍ في صورة كاريكاتيرية يستطيع القارئ ملاحظةَ مدى قدرتها على الإضحاك والإمتاع، وربما ينتبه إلى أن التركيز على اللحية، والتركيز على الأنف في المقطع السابق، يحقق غرض الشاعر في حجب الأعضاء الأخرى عن حيز الانتباه، فيحتلّ الخاص مكان العام. يقول ابن الرومي:
ولحيةٍ يحملها مائقٌ |
مثل الشراعين إذا أشرعا قوداً عنيفاً يُتعب الأخدعا لم ينبعث في وجهه إصبعا صاد بها حيتانه أجمعا[24] |
|
وأما المتنبي فقد كان فنه الكاريكاتيري يوصّف الحادثة غالباً أكثر من توصيف الشخصية، ويسعى إلى تحقيق سخريته عبر إزاحة صورٍ قد تكون مشرّفةً من حياة الأشخاص الذين يسخر منهم، ليبقى أثر الحادثة التي تُحَقِّق غرضه. يقول المتنبي في حادثة صغيرة تحكي حكاية رجلين اصطادا فأراً:
لَقَد أَصبَحَ الجُرَذُ المُستَغيرُ
أَسيرَ المَنايا صَريعَ العَطَبْ
رَماهُ الكِنانِيُّ وَالعامِرِيُّ
وَتَلّاهُ لِلوَجهِ فِعلَ العَرَبْ
كِلا الرَجُلَينِ اِتَّلى قَتلَهُ
فَأَيُّكُما غَلَّ حُرَّ السَلَبْ
وَأَيُّكُما كانَ مِن خَلفِهِ
فَإِنَّ بِهِ عَضَّةً في الذَنَبْ[25]
لقد ارتبط الكاريكاتير الشعري بفن الهجاء، وقلّ الإقبال عليه في الشعر الحديث، وصار الإنسان العربي أكثر ارتباطاً بهمومه السياسية والاجتماعية، ونشأت فكرة هجاء المؤسسة، بدلاً من هجاء الأفراد الذي كان سائداً في العصور الأدبية السابقة، فنحن لا نكاد نجد في الشعر الحديث هجاء يؤكد على الصورة الحسية، كما نجد في بيت ابن الرومي الذي يرتكب مغالطة التفكير التشبيهي[26]، لإحلال تشابه الصفات من خلال تشابه الشكل:
وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طولُ[27]
حتى إنّ قصيدة “الديك” المشار إليها لا نتقد شخصاً، ولا صورة حسية، إنّما تستعير صورة الديك، لهجاء المؤسسة القائمة التي تنجو رغم مسؤوليتها من الهجاء المباشر، ويمكن أن نجد في كثير من هجائيته تركيزاً على الصفات المعنوية التي تبعد الصورة الكاريكاتيرية عن ساحة الوعي، فالتعميم يلغي الحسي لصالح المعنوي، والألم يبعد السخرية ويستحضر الغضب، ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى قصيدة لأحمد مطر يقول فيها واصفاً الحاكم العربي:
أأقول للمأبون حين ركوعه
حرماً؛ وأمسح ظهره بثنائي
أأقول للص الذي يسطو على
كينونتي : شكراً على إلغائي؟
إن لم يكونوا ظالمين فمن ترى
ملأ البلاد برهبة وشقاء
عشرون عاماً والشعوب تفيق من
غفواتها لتصاب بالإغماء[28]
(5)
إنّ تجلّي مغالطة الرنجة الحمراء في الشعر تقود المرء إلى الجمال الخاص، وتستنفر كل الحواس تجاه جزء من المشهد، وتجعل المتلقي مثل ذلك الحصان الذي وُضعت على عينيه غمامتان توجهان بصره نحو الهدف. ويبقى على المتلقي خارج ميدان الشعر أن ينتبه إلى أنّ هدف الفارس يختلف في معظم الأحيان عن هدف الحصان.
المراجع والإحالات والمصادر:
[1]يوسف صامت بو حايك: رجل القش، مرجع سابق، ص60.
[2]الكلمات للشاعر حسين السيّد.
[3]الكلمات للشاعر حسين السّيد.
[4]تمت ترجمت هذه الرواية بعناوين مختلفة، منها المسخ والتحوّل والانمساخ، وتنطلق لحظتها السردية من استيقاظ غريغور سامسا ذات صباح، وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة. تمكن العودة إلى:
ـ فرانز كافكا: الانمساخ، ترجمة: إبراهيم وطفي، منشورات وطفي، 1ط، 2014، ص11.
[5]هي القصيدة اليائية التي مطلعها: ألا ليتَ شعري هل أبيتنّ ليلةً/ بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
تمكن العودة إلى:
ـ مالك بن الريب: ديوان مالك بن الريب (حياته وشعره)، تحقيق: د. نوري حمودي القيسي، وهو مستلٌّ من مجلة معهد المخطوطات العربية، مج15، ج1، ص88 وما بعدها.
[6]https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%87%D8%B2_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%B5%D8%A9
[7]امرؤ القيس: ديوان امرئ القيس (رواية الأصمعي عن نسخة الأعلم)، دار المعارف، القاهرة، ط5، 2014م، ص ص 11ـ 12.
[8]ابن حمديس: ديوان ابن حمديس، صححه وقدّم له: إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت، ص117.
[9] https://poetsgate.com/poem.php?pm=177608
[10]لم أجد القصيدة في ديوان السياب، فنقلت بعض أبياتها من كتاب عيسى بلاطة: بدر شاكر السياب حياته وشعره، يمكن النظر في:
ـ عيسى بلاطة: بدر شاكر السياب ـ حياته وشعره، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979، ص ص281ـ 282.
[11]https://www.nabee-awatf.com/vb/archive/index.php/t-5988.html
[12]عمر أبو ريشة: ديوان عمر أبو ريشة، دار العودة، بيروت، 1998، مج1/ ص ص221ـ 222.
[13]الحكاية مشهورة جداً، والبيت الثالث غير موجود في النسخة التي عدنا لها في الديوان، تمكن مراجعة:
ـ مسكين الدارمي: ديوان مسكين الدرامي، جمعه وحققه: عبد الله الجبوري وخليل إبراهيم العطية، مطبعة دار المصري، بغداد، 1979، ص30.
[14] https://diwandb.com/poem/%D8%AE%D8%B0%D9%88%D8%A7-%D8%A8%D8%AF%D9%85%D9%8A-%D8%B0%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B4%D8%A7%D8%AD-%D9%81%D8%A5%D9%86%D9%86%D9%8A.html
[15] بدر شاكر السياب: ديوان بدر شاكر السياب، دار العودة، بيروت، 2016، مج1/ ص128.
[16]الشعار عند السرديين طريقة من طرق التّشخيص، يتمّ خلالها الإلماح إلى سمة محدّدة بشكل يترافق مع ذكر شخصيّة دون غيرها، وبذلك يصبح سمة لازمة لها؛ كأن نذكر عند تقديم شخصيّة معينة عبارة مثل (الرّجلُ ذو الأنف الطّويل) في أكثر من سياق سرديّ. ولعلّ من أشهر الأمثلة شخصيّة ليلى (ذات القبّعة الحمراء).
[17]عمر بن أبي ربيعة: ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، المطبعة الميمنية، مصر المحروسة، 1893م، ص41.
[18]بدر شاكر السياب: ديوان بدر شاكر السياب، مصدر سابق، مج1/ ص180.
[19]إيليا أبو ماضي: ديوان إبي ماضي، دار العودة، بيروت، ص124.
[20]إبراهيم ناجي: ديوان إبراهيم ناجي، دار العودة، بيروت، 1980، ص285.
[21]عمر أبو ريشة: ديوان عمر أبو ريشة، مصدر سابق، مج1/ ص216.
[22] https://nizarq.com/ar/poem814.html
[23]ابن الرومي: ديوان ابن الرومي، شرح الأستاذ أحمد حسن بسج، دار الكتب اللبنانية، بيروت، ط3، 2002، ج1/ ص412.
[24]المصدر نفسه، ج2/ ص392.
[25]المتنبي: ديوان المتنبي، مصدر سابق، ص13.
[26]تقوم مغالطة التفكير التشبيهي على مماثلة في الشكل، تستدعي للذهن مماثلة قد لا تكون صحيحة في الجوهر. تمكن العودة إلى:
ـ عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، مرجع سابق، ص153 وما بعدها.
[27]ابن الرومي: ديوان ابن الرومي، مصدر سابق، ص497.
[28] https://bilarabiya.net/21919.html