مشيتي والقط
بقلم: محمد سعيد
لم أكن ألتفت لمشيتي،ولا كيف أبدو في نظر من يراني؟ لكني كنت أعرف في أعماقي أني أحترم وأقدس المواعيد، وأنني لا أحب أن أصل متأخراً أبدا. وهكذا تعمقت، علي ما يبدو، علاقاتي بأصدقائي، وأصبحت أكثر قوة. كما توطدت علاقتي بالأماكن التي أحببت إرتيادها، وتفتحت، مع الوقت، طرقأ جديدة، كما تتفتح الأزهار في الحديقة. وكان من حسن الطالع أني عرفت، في البدايات، شابا انجليزيا، كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في المعهد البريطاني. كان ساهما، وينظر إلي ماهو غير منظور، عبر الأرضية الرخامية، في كافيتريا المركز الفرنسي، يلبس بنطلون جينز وفانلة رياضية خضراء متواضعة جداً. قصير ورفيع إلي حد ما،شعره أشقر، له أنف وفم صغيرين، عيناه خضروان. انتبه ضاحكاً علي جلستي المفاجئة أمامه، وأنا أحمل كوب الكابتشينو.. بونجور مسيو، مد يده قائلا: جوناثان راوث.. مدرس لغة إنجليزية، ضغطت علي يده الممدودة، بروح شبابيه، كلها إنطلاق وحيوية، وأنا أقول: حماده طالب في المستوي التاسع .!
جاء لقائنا الأول حماسيا من جانبه ومن جانبي،تحدث جوناثان بإنفعال عن سحر الشرق ،وعن القضية الفلسطينية!، مما جعلني أصدقه من أول لحظة. كانت بداية موفقة من ناحيته،فقد عرف كيف يعزف علي أوتار قلبي!،وشعرت، حينها، أن الحياة تبتسم لنا نحن معشر الشباب.!، وأن بابا جديداً قد فتح، وأن علي، فقط، أن أدخل.
وتتابعت المقابلات حتي صارت جزءًا مهما من برنامج الأسبوع، كالذهاب لمطعم وبار كاب دور في المنشيه كل خميس أو قضاء يوم في البيطاش. وفي مرة، عصراً، كنت أمشي بجانبه، وهو يحكي بتأثر عن حلم رآه، قال: تقدمت سلحفاة صغيرة بحركة سريعة، نسبياً، علي الرغم من كونها سلحفاة، من إناء من الفخار مملوء بالحليب، بجانبه قط أسود يغط في نوم عميق، ثم قربت السلحفاة فمها وشربت!.
أنا قلق للغاية يا صديقي، تري ما تفسير هذا الحلم؟ وما دلالة شرب السلحفاة للحليب، وماذا يعني نوم القط؟! وماذا عن الإناء الفخار، وأي رمزية يحمل ؟
قلت له بعد أن إزدردت ريقي : المشكلة الحقيقية عندما يستيقظ القط لن يجد حليبا يشربه.!
كان فكاهيا،وكنت أحاول أن أكون مثله أو ،علي الأقل، أكون علي طبيعتي.
حدجني بنظرة باسمة ثم نظر إلي أعلي ناحية يافطات الدكاكين في شارع فرنسا المكتظ بالبضائع والناس، ثم عاد ورمقني مستغرباً ،علي ما يبدو، أفكاري، قال : رأيتك بالأمس وأنت تمشي في شارع سعد زغلول،قلت له متفاجئا: بالأمس.. .قال: نعم.. تمشي دائماً بسرعة ،وقد تابعتك أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أراك تمشي بنفس الطريقة!, أنت تمشي مثل الإنجليز ،مثلنا! .كان تصريحه ذاك بمثابة فتح جديد، لا يقل أهمية عن دخولي الإسكندرية لأول مرة !، تعرفت من خلاله علي نفسي عن قرب ، أمشي مثل أهل بريطانيا العظمى، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. رحت بعدها أتأمل حياتنا في الباص ٢١٨ الذي يأتي من المندرة ويصل حتي المنشيه، والذي يمر ،حتماً، بعزبة سعد ،وعن ذلك الحزن الذي يكسوا الوجوه ،و ذلك الشرود. وقر ،في أعماقي، أننا كسالي ونمشي ببطء ،ونصل للعمل متأخرين!. ولهذا السبب وحده، وليس غيره ،لسنا متقدمين. كما رأيت نفسي ثائراً، أتراس إتحاد الطلبة في الجامعة، وأحفزهم علي الإقتداء بالإنجليز في مشيتهم وهمتهم. ثم رأيت نفسي، مرة أخرى، محمولاً علي ألاكتاف وسط هتافات حماسية .. نموت ..نموت وتحيا مصر ..تحيا مصر!..
وفي يوم،وبينما كنت أمر بجانب سينما أمير، متجها نحو محطة ترام الرمل، وجدت إعلانا عن فيلم ناصر ٥٦،وصورة الممثل أحمد زكي بتسريحة وملامح تشبه،إلي حد كبير،الرئيس عبد الناصر. كان الأفيش بالأبيض والأسود. وكان من عادتي آنذاك أن أبحث عن اسم المخرج، لأعرف إن كان العمل يستحق المشاهدة أم لا،وعندما وجدت إسم المخرج محمد فاضل،شعرت بأنني ساشاهد فيلما جيداً ومختلفا،. وبالفعل رحت أرتب لهذا الحدث الخاص، وأنا أمشي،وعلي عكس عادتي،علي مهل وبدون تعجل! .كنت أحب السينما، وكم تمنيت من كل قلبي لو أصبحت مخرجا. بالفعل أرسل إلى أبي حوالة بريدية بمائتي جنيه، إستلمتها وذهبت ،علي الفور،لدكان السجائر المجاور لمكتب البريد، وإشتريت علبة مارلبورو حمراء ساخنة كما يقولون!.ثم ركبت الترام من سيدي جابر حتي الرمل. إتجهت لحفلة الواحدة بسينما أمير، لأشاهد الفيلم .قبل ذلك ،ومن فترة ليست ببعيدة ،كانت شوكولاته جيرسي وبسكويت بمبو مع كيس كاراتيه تمثل ذروة الأحداث ووهجها، أما الآن، فالوهج مختلف جداً!، ويشبه، إلي حد كبير، وهج جمرات الشيشه، أما ذروة الأحداث فتبدء،عادة، بإزاحة الغطاء عن زجاجة بيرة ثم إشعال سيجارة مارلبورو ساخنة! لكل مرحلة ديكها الذي يصيح بعنفوان وسطوة !.
– ديك أمك.!
دخلت الصالة المكيفة ثم بدأ العرض. حاجز نفسي خفي ،بيني وبين الفيلم صنعه إخراجه بالأبيض والأسود ،لم أستسيغه علي الرغم من جودة العمل ،وتفاني العاملين وإخلاصهم !.لكنه، مع ذلك، ،لم يفقد جاذبيته التي صنعها بطولة ناصر ثم تسلسل السرد وسلاسته!. خلعت تدريجياً عباءة المخرج،وإرتديت عباءة الفدائيين ،وعرفت، أخيراً، كلمة السر،عويس ذلك الفلاح المصري البسيط والفصيح الذي قهره الإستعمار. خرجت للشارع وأنا كلي رغبة في إلانتقام،ووجدتني، فجأة، مطاردا من البوليس السياسي، مثل عمر الشريف في بيتنا رجل،ووجدتني أيضاً أهاجم،وحدي، معسكرات الإنجليز في دكرنس وكوم حماده والوحال!. ثم رأيتني أعانق بحرارة زميلتي داليا ، في حديقة المنتزه، أسفل شجرة عجوز ،وتحت ضوء القمر الحاني، لتقلني، بعد ذلك، سيارة بيك أب سوداء إلي وجهة غير معلومة!. وفي لقاء أقرب ما يكون إلي المواجهة والصراحة المتبادلة، في شقته المطلة علي شارع الملك فؤاد، خاصة بعد نجاح الفيلم، وقف جوناثان صديقي الإنجليزي غاضباً مكفهر الوجه ،ليعبر عن عدم رضاه عن الفيلم،خاصة بعد ظهور رئيس الوزراء الإنجليزي الشهير إيدن خلال سرد مشاهد ما بعد إعلان ناصر التاريخي تأميم قناة السويس.
قال : أصدقائي يقولون أن الفيلم متوسط القيمة….نص ..نص…السيد إيدن شخصية