تاريخ

المتحدث الرسمي والملك العادل

الجانب الحضاري في السيرة النبوية

بقلم: د. طارق حامد

لقد اجتمع في توجيه النبيﷺ المسلمين للهجرة نحو الحبشة عدة عناصر تكشف فقهًا عميقًا وحكمة بالغة في السيرة النبوية، وتظهر جانبًا مشرقًا من جوانب الحضارة الإسلامية التي أسسها النبي الكريم ﷺ. دعنا نتناول هذا المعنى الجميل بشيء من التفصيل.

أولاً: الفهم الاستراتيجي والرؤية الثاقبة (فهم الرسول ﷺ للرجال)

قرار الهجرة إلى الحبشة لم يكن هروبًا عشوائيًا، بل كان قرارًا استراتيجيًا قائمًا على عدة أسس:

1. التمييز بين الشخصيات والمواقع: فهم النبي ﷺ أن لكل رجل قدراته ومكانته. فجعفر بن أبي طالب لم يكن مجرد صحابي عادي، بل كان:
· من بيت النبوة: ابن عم النبي ﷺ وتربى في بيته، فهو قريب منه قلبًا وقالبًا، ويعرف تفاصيل الدعوة وأخلاقها كما يعرفها النبي نفسه.
· متحدثًا فصيحًا بليغًا: تمتع بفصاحة اللسان وقوة الحجة، مما يجعله المؤهل الأمثل لتمثيل المسلمين أمام ملك عادل.
· ذو هيئة ووقار: كانت هيئته تلفت الانتباه وتُحدث أثرًا طيبًا في نفوس من يراه.
2. وضع الرجل المناسب في المكان المناسب: لم يقل النبي ﷺ “اذهبوا إلى الحبشة” فقط، بل في التكليف الضمني جعل جعفر هو القائد والوجهة والمتحدث باسم الجماعة. هذا هو فن إدارة المواهب وتوزيع الأدوار.
3. الدراية السياسية والحضارية: اختيار الحبشة تحديدًا يدل على فهم عميق للخارطة السياسية والعقائدية في ذلك الوقت. فالحبشة:
· ملك عادل: النجاشي مشهور بعدله ورفضه للظلم، حتى لو كان على حساب مصلحته.
· ديانة سماوية: النجاشي وأهل الحبشة على دين المسيح عيسى عليه السلام، مما يعني وجود قواسم مشتركة مع المسلمين في الإيمان بالله والرسل واليوم الآخر، وهذا ما استثمره جعفر ببراعة في خطابه.

ثانيًا: جعفر بن أبي طالب – الدبلوماسي المفوه والمتحدث الرسمي

عندما قابل وفد قريش (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) النجاشي وحاولا تسليمه المسلمين، وقف جعفر ليشرح قضيته. كان موقفه نموذجًا رائعًا في الدبلوماسية والخطابة والحوار الحضاري:

1. البدء ببروتوكول محترم: لم يهاجم أو يتهم، بل بدأ قائله: «أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية…». هذا أسلوب راقٍ يشرح الحالة الأولى بموضوعية.
2. عرض العقيدة بوضوح وجمال: لخص رسالة الإسلام في كلمات بليغة: «فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء…». لاحظ كيف قدم الجانب الأخلاقي والحضاري للإيمان قبل الجانب العبادي المجرد.
3. الربط الذكي بالديانة المسيحية: هذه من ذروة الحكمة والحجة، حيث قال للنجاشي: «وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام» ثم أتى بالضربة القاضية للحجة: «وعدد من فرائض الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان… فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك».
لقد قدم الإسلام ليس كدين جديد منافس، بل كدين يوافق الأصول التي جاء بها المسيح عليه السلام. وهذا ما جعل النجاشي يطلب منه أن يقرأ عليه شيئًا من القرآن.
4. الاختيار الذكي للنص: لم يقرأ جعفر آيات تتحدى النصارى، بل قرأ من سورة مريم التي تروي قصة ولادة السيدة مريم وعيسى عليه السلام بمنتهى الروعة والبيان. هذا الاختيار أثر في النجاشي وبكى حتى اخضلت لحيته، وقال: “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة”.

هنا، لم يكن جعفر مجرد ناطق، بل كان ممثلًا حضاريًا للإسلام، قدمه بأرقى صورة: صورة التوحيد، والأخلاق، والمنطق، والاحترام للآخر.

ثالثًا: عدل النجاشي – أساس التعايش والحضارة

قصة النجاشي تقدم نموذجًا للحاكم العادل الذي يحترم القانون والعدالة فوق كل الاعتبارات:

· الحياد والإنصاف: لم يستمع لاتهامات قريش مباشرة، بل أعطى الطرف الآخر (المسلمين) فرصة كاملة للدفاع عن أنفسهم.
· العدل فوق المصالح: رغم أن قريشًا كانت قوة تجارية وسياسية كبيرة، إلا أن العدل كان أثقل في ميزان النجاشي من أي مصلحة دنيوية.
· التسامح الديني وحماية المستضعفين: منح النجاشي الأمان للمسلمين وقال لهم الشهيرة: “اذهبوا فأنتم شُيومٌ (آمنون) بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرًا (جبلًا) من ذهب وإني آذيت رجلاً منكم”. هذا البيان هو أعلى درجات الحضارة في حماية حقوق الإنسان وحريته الدينية.

الخلاصة: الجانب الحضاري المتكامل

القصة بأكملها تقدم لنا نموذجًا متكاملاً للحضارة الإسلامية التي أسسها النبي ﷺ:

1. الحكمة السياسية: في اختيار الملاذ الآمن (الحبشة).
2. فن إدارة الموارد البشرية: في اختيار جعفر بن أبي طالب قائدًا ومتحدثًا.
3. فن الحوار والدبلوماسية: في خطاب جعفر البليغ والمحترم.
4. الانفتاح على الآخر: في الاعتراف بفضائل النجاشي وعدله ودينه.
5. العدل كأساس للحكم: في موقف النجاشي الذي يمثل قيمة عالمية.
6. الأخلاق كجوهر للدعوة: كما ظهر في عرض جعفر للإسلام.

فهي ليست مجرد قصة هجرة، بل هي درس في بناء الدولة، وفن القيادة، وأصول الدبلوماسية، وقيم الحضارة الإنسانية التي جاء بها الإسلام.

إن المتأمل في حادثة الهجرة إلى الحبشة يكتشف أنها لم تكن مجرد فرار بالدين، بل كانت مشروعاً حضارياً متكاملاً أرسى قواعده النبي الكريم ﷺ بفهمه الثاقب للرجال والمواقع.

لقد أدرك الرسول ﷺ أن قلوب العظماء تتشابه في نقائها وعدلها، فاختار الحبشة ليس لأن فيها ملكاً قوياً فحسب، بل لأن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد. في هذا الاختيار معنى عميق: إن العدل هو الجسر الذي تلتقي عليه الأمم رغم اختلاف أديانها وثقافاتها.

وفي هذا المشروع الحضاري، برز جعفر بن أبي طالب ليس مجرد مهاجر، بل كان سفيراً فذاً ومتحدثاً رسمياً مفوهاً اختاره النبي ﷺ عن علم وحكمة. لقد جمع جعفر بين فضائل عدة: كان من بيت النبوة فعرِف حقيقة الإسلام، وكان فصيحاً فامتلك قدرة التعبير، وكان خلوقاً فجسّد ما يقول.

وما أروع ذلك المشهد في بلاط النجاشي حين وقف جعفر ليحاور لا ليدافع، وليشرح لا ليناقش. لقد قدم الإسلام لا كدين جديد ينافس، بل ككلمة سواء تلتقي مع الحق أينما كان. فبدأ بسرد قصة الجاهلية والعبودية للأوثان، ثم انتقل إلى جوهر الإسلام: التوحيد الخالص، والأخلاق السامية، والعبادة الطاهرة. ثم كان الذروة حين قرأ من سورة مريم آيات تفيض رحمة وروحانية، فكانت لغة القرآن هي لغة الحوار التي أذابت الفروق ووصلت القلوب.

أما النجاشي فمثّل النموذج النادر للحاكم الذي يضع العدل فوق المصالح، والحقيقة فوق العاطفة. لقد استمع ثم حكم، فكان موقفه “من سبكم غرم” دستوراً للحماية السياسية والإنسانية قبل أن تكون دينية.

لم تكن هجرة الحبشة مجرد محطة للنجاة من الاضطهاد، بل كانت “البيان العملي الأول للدبلوماسية الحضارية في الإسلام”، حيث حوّل النبي ﷺ أزمة الاضطهاد إلى فرصة لبناء جسور مع حضارة أخرى، مقدماً للعالم نموذجاً للتعايش يقوم على الحكمة في الاختيار، والكفاءة في التمثيل، والحقيقة في الحوار، والعدل في الحكم. لقد أسس رسول الله ﷺ في هذه الحادثة لفقه التعامل مع العالم: لا انغلاق ولا ذوبان، بل حوار بالحكمة والموعظة الحسنة، وثقة بأن الحق إذا ظهر فإن نوره سيصل إلى كل قلب عادل.
في ذلك المشهد الملحمي حيث تلتقي الروح بالتاريخ كانت هجرة الحبشة لوحة ربانية رسمها رسول الله ﷺ و بعناية الحكمة الإلهية لم تكن هروبا من العذاب بل كانت تحليقا نحو آفاق التعايش الإنساني لقد أبدع النبي ﷺ في اختيار الحبشة كمنصة للحوار الحضاري لأنها تمتلك مقومات العدالة والضمير الحي في شخصية النجاشي الملك العادل الذي لم يكن حاكما فحسب بل كان قاضيا عادلا ومفكرا مستنيرا ثم جاء اختيار جعفر بن أبي طالب كمبعوث دبلوماسي ألمعي ليكون الوجه الناطق برسالة الإسلام بلسان البلاغة وقلب الإيمان وعقل الحكمة لقد قدم جعفر للعالم نموذجا للحوار الحضاري الذي يخاطب العقل قبل القلب ويستند إلى القواسم المشتركة قبل الاختلافات

إن عبقرية الرسول ﷺ في هذه اللحظة التاريخية تجلت في تحويل المأساة إلى ملحمة والأزمة إلى منصة انطلاق لقد صنع من دموع المضطهدين سفنا تعبر محيطات التاريخ حاملة بذور حضارة جديدة لم تكن هجرة للحفاظ على الدين فقط بل كانت هجرة لبناء فلسفة التعايش الإنساني لقد علمنا ﷺ أن المواجهة ليست دائما بالسيوف بل أحيانا بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة والسلوك الكريم

في مشهد لقاء جعفر بالنجاشي كانت الكلمات تشع نورا كالنجوم في ليلة مظلمة حين وقف جعفر يشرح روح الإسلام بمنطق الوحي وبلسان الفطرة فكانت كلماته كالندى على قلوب المستمعين لقد حوّل المجلس إلى محراب للفكر والروح وأثبت أن الحق عندما يخرج من القلب فإنه يدخل إلى القلب دون استئذان

هذه الهجرة لم تكن حدثا عابرا في سيرة النبي ﷺ بل كانت بيانا خالدا بأن الإسلام ليس دين انغلاق وانعزال بل هو مشروع حضاري يبحث عن الشراكة الإنسانية ويؤسس لعلاقات الدول على أساس العدل والاحترام المتبادل لقد صنع رسول الله ﷺ من هذه الهجرة أكاديمية للدبلوماسية النبوية تخرج فيها سفراء القيم ومهندسو التعايش

إنها المعجزة الحضارية التي لا تزال تقدم للبشرية حتى اليوم النموذج الأمثل للخروج من الأزمات بالحكمة والموعظة الحسنة والثقة بأن نور الحق لا بد أن يصل إلى كل قلب طاهر كقلب النجاشي الذي أضاء بنور الإيمان فأصدر حكمه التاريخي بالعدل والإنصاف ليصبح شاهدا على أن الحضارات تلتقي عندما تتصافح الضمائر قبل أن تتصافح الأيدي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى