إضاءات حول كتاب د. بشّار الجعفري: “سوريّة وعصبة الأمم”(1)
بقلم: أ. لبنى مرتضى
كانت عُصبة الأمم خطوة أولى ومبكّرة عملت عليها دُول وشهدتها دول أخرى، حالت الظّروف دون أن تكون مؤسِسة لها على قدم المساواة مع غيرها، وسوريّة الدّولة العربيّة الهويّة والمقصد والانتماء، كانت وحدها من بين العرب شاهدة على ولادة عصبة الأمم، لكنّها حُرت من أن تكون فاعلة ومُشاركة. وفي مرحلة تالية كانت سوريّة دولة مشاركة ومُسهمة في منظّمة الأمم المتّحدة، ومن هذا الفارق وُلدت فكرة هذا البحث، هذا ما بدأ به المؤلّف الدّكتور بشّار الجعفري في كتابه (سوريّة وعصبة الأمم ط1، عن دار بستان هشام، عام2021م.). وأكّد بقوله أيضاً بأن التّاريخ ليس صنماً يُعبد، والسّياسة بمعناها الأكاديمي والمعرفي لا ينبغي أن تكون وثناً تُقدّم للشّعوب على مذبحة ضرائح وتُنذر الإنسانيّة فداء له وتُسكب دماء البشر قرابين في محرابه. فمن أجل سوريّة وإنسانها وتاريخها ومستقبلها كان هذا البحث، كما كانت الأبحاث السّابقة، وكما ستكون الأبحاث القادمة، فالغاية النّبيلة هي مسوّغ البحث وبذل الجهد وما من غاية أكثر نُبلاً من وطن نفديه.
-ففي دراسة للكتاب من قِبل د. جورج جبّور رئيس الرّابطة السّوريّة للأمم المتّحدة ومُستشار رئاسي سابق، قال: كلماتي هنا لكتاب ضخم مكتنز غني بالمعلومات والوثائق لم أُطالع مثله حجماً من سنوات (سوريّة وعصبة الأمم)، وهو باكورة إصدارات دار نشر جديدة في دمشق وهي (بستان هشام)، ليس كتاباً عن سورية وعصبة الأمم فقط، بل هو في الحقيقة تاريخ للدّبلوماسيّات العالميّة الّتي شكّلت أساليبها الملتوية دولاً اُنتزعت من كيان جاثم في ضمائر النّاس، اسمه بلاد الشّام. ضخم هو عدد صفحاته 863 من القطع الكبيرة، وثائقيٌّ هو، تعثر فيه على ما تتوقّع وما لا تتوقّع من وثائق كلّها مفيد وضمن الموضوع، مُكتنز هو لماذا؟!. ثُلثاه فيما أقدى هوامش على النّص، كُتبت بحرف أصغر، فإذا أُحصيت الحروف فسيتّضح أن مادّته تصلح لبضعة كُتب قد تبلغ العشرة، وصف ممتدح في مجمله وتتلوه.
اَعلمني المؤلّف أنّه ذَكر جهدي في التّعريف بالمادّة 78 من ميثاق الأمم المتّحدة الّتي تُعرف باسم (مادّة سوريّة). ولننظر هنا أن ثمّة صفحات طويلة عن عقوبات ترامب على مسؤولي محكمة الجنايات الدّوليّة، الّذين انتقدوا بعض التّصرّفات الأمريكيّة (ص112-116)، وهي مفيدة لنا في تبيان محدوديّة تلك المحكمة الّتي يظن البعض أننا بالشّكوى إليها سوف نستعيد بعض حقوقنا، قولي هذا لا يعني أن نُهمل تقديم شكاوينا إليها، ولكنّه يعني ألا نُبالغ بالتّفاؤل بما يمكنه أن يُقدّمه لنا. ثمّة صفحات مفيدة جدّاً عن الحق في الحماية (ص121)، وهو الحق الّذي نودي به ليكون ذريعة للقضاء على حكم القذّافي، وهو الحق الّذي جعل من ليبيا فريسة دول عطشى للنّفط اللّيبي.
ويحضر في الكتاب حادث مصرع الكونت برنادوت (ص128) وهو أمر يستمر هامّاً، ما تزال صالحة دعوتي الّتي أطلقتها من يوم اغتياله، حيث يصح أن يُسمّى يوماُ عربيّاً دوليّاً للقضاء على الإرهاب الدّولي، أو على الأقل على الإرهاب الّذي يتعرّض له مسؤولو الأمم المتّحدة لدى قيامهم بواجبهم، ولنتذكّر دعوتي المنشورة في أيلول 1991م إنّما جاءت قبل وقت قصير من إشهار الوزير الشّرع في مؤتمر مدريد صورة شامير مطلوباً للعدالة كمجرم، وترتبط باغتيال برنادوت حادثة مصرع همرشولد الّتي يبحث فيها الكتاب مفصّلاً عبر صفحات طوال تُشير تقريباً إلى دور بريطاني.
وألاحظ بكل تقدير للدّكتور الجعفري أنّه قام بجهد كبير في تأريخه لأطماع الغرب في بلاد العرب وسعيه لتقسيمهم، وألاحظ بكل تقدير له أيضاً أنّه لم يلجأ في هذا المجال إلى ما يُعرف بوثيقة كامبل بترمان، وأُحب لكل من يقرأني الآن أن يعود إلى ما كتبه عن الوثيقة الدّكتور أنيس صايغ في مقال بجريدة السّفير 26 تمّوز 1996م.
سوريّة وعصبة الأمم ذلك عنوان يبدأ بعد أن نكون قد قطعنا 374 صفحة من الكتاب عنوان متأخّر، لكن ما بعده مطوّل أيضاً يزيد عن 450 صفحة. ألم أقل لكم أن الكتاب ضخم ومُكتنز!!. وأستطيع أن استمر في التّجوّل هكذا بين صفحات الكتاب، ولكن سوف أقف عند نقطتين استحسن الإشارة إليهما، واستقرّت في الذّهن لدى القراءة، واتبعها بثلاث نقاط أخرى أراني مولعاً بإيرادها.
الأولى: عبثت أمريكا بهيبة الأمم المتّحدة فيما يختص بحرّية الدّبلوماسيين، أحسن جدّاً السّفير السّوري فيما أورده عن عدم تمكّنه من السّفر إلى فعاليّة للأمم المتّحدة دُعي إليها بسبب معارضة الأمن الأمريكي، إلّا أن الحكاية مفيدة جدّاً لمن يظن من الدّبلوماسيين، إن الأقامة في نيويورك ليست رفاه ورغد، وأتساءل: متى تنقل الأمم المتّحدة مقرّها من نيويورك إلى مكان آخر أكثر احتراماً لها؟
الإجابة: في مستقبل غير منظور، وتبقى سلطة أمريكا على المقر أحد عناوين سلطة أمريكا على المنظّمة.
الثّانية: تعلّمت من الكتاب أن ذهاب فيصل إلى مؤتمر الصّلح كان له أثره في نشوء حزب الوفد الحصري، أحب سعد زغلول أن يكون له ما كان لفيصل، أي تدعى مصر إلى مؤتمر الصّلح.
ثم نعم تعلّمت من كتابك يا دكتور بشّار ما لا يخطر بالبال أنّه كانت ثمّة علاقة استحسان متبادل بين فيصل (ممثّل ملك الحجاز) وبين أناتول فرانس (الأديب الفرنسي الشّهير).
آتي الآن إلى النّقاط الثّلاث الّتي أجد نفسي مولعاً بإيرادها: الأولى: لم يتم الجلاء في 17 نيسان، انسحب آخر جندي أجنبي من سورية الاثنين 15 نيسان، واحتفل بعيد الجلاء بعد يومين، ما جنسيّة آخر جندي غادر دمشق؟، هندي من فيصل هندي ضمن الجيش البريطاني، وحدد لعيد الجلاء موعد في 18 نيسان، ثم عدل عنه إلى 17 نيسان في مشهد عظيم.
الثّانية: غياب الإشارة إلى بعض المراجع العربيّة والسّوريّة، الّتي تعالج برويّة الأحداث الّتي يعالجها الكتاب.
الثّالثة: في الحديث عن الرّئيس ويلسون وصورته الّتي لم تتغيّر هذه الأيام ثمّة مقتطف بالغ الرّوعة وقعت عليه في جلسة تنقيب جرت في مكتبة بجامعة حلب، تحدّث الكتاب عن جريدة العاصمة، لم يتحدّث عن شقيقتها الحلبيّة واسمها (حلب) في أحد أعدادها احتفلت بويلسون واصفة إيّاه بأنّه (الوالد الثّالث للبشريّة) بعد آدم ونوح، أتمنّى ألا يغيب هذا الوصف عمّا قد يخطّه قلم الدّكتور الجعفري عن الرّئيس ويلسون في قادمات الأيام.
وفي رؤية للأستاذ إسماعيل مروّة باحث وأستاذ جامعي حيث قال: لا يحتاج مؤلّف الكتاب الدّكتور الجعفري لأي تعريف عن مكانته وعلمه، فهو صاحب المواقف الوطنيّة والقوميّة الهادئة والمتّزنة الّتي دافعت عن سورية بلسان سوري عربي مبين استطاع أن يقوم بدوره الوطني والقومي في أحلك الظّروف السّياسيّة والعسكريّة في مجلس الأمن عندما كان يعقد الجلسات الواحدة تلو الأخرى من أجل سورية وبانحياز مُطلق. وهو إلى ذلك الباحث الحقيقي والجدير الّذي حيثما حل يقصد العلم إضافة إلى عمله، فأصدر كُتباً مهمّة كان منها كتابه الصّادر حديثاً عن دار (بستان هشام) والّذي حمل عنوان (سوريّة وعصبة الأمم). فموضوع عصبة الأمم وهناك كثيرون وبعضهم من الباحثين لا يُفرّقون بين عصبة الأمم والأمم المتّحدة، وهذا الموضوع يأتي الكتاب لكشفه وبيانه قبل أن تطويه صفحات النّسيان كما يُشير المؤلّف في مقدّمته. وعصبة الأمم قامت بأدوار كثيرة كان من المفترض ألا تقوم ببعضها كما أشار المؤلّف إلى أن هذه العصبة الّتي شرعنت الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان والاحتلال الإنكليزي على العراق. وهذا ما أخضع كتاب الجعفري للتّوثيق الدّقيق الّذي ساعده إلمامه باللّغات إضافة إلى تخصصه الأكاديمي الّذي ألزم به نفسه فلم تصدر أبحاثه عن عاطفة إنشائيّة.
إن كان حبّه لوطنه الدّافع وراء الأبحاث وكذلك توافر هذه الوثائق وقدرته في البحث عنها وتوثيقها. إذ يتحدّث الكثيرون اليوم عن نظام عالمي جديد يتم العمل له، وذلك أن بعد الحرب الباردة تغير شكل الصّراع والعالم وكانت الخطوة العلميّة المتقدّمة للدّكتور الجعفري بالعودة إلى المراحل الّتي تم تشكيل النّظام العالمي الأولى وقيام عصبة الأمم، وفي كل مرحلة من المراحل هنالك نظريّات ومشرعون ودول تجتمع لنشر ما تراه مناسباً للنّظام العالمي الجديد أي ما يناسب القوى الفاعلة. فمن واقع الرّؤية الشّموليّة عند المؤلّف كانت قراءته تحليليّة استنتاجيّة.
فهنا يرى في كتابه أن منظّمة عصبة الأمم تنتمي إلى فكرة العلاقات الدّوليّة متعددة الأطراف، وهي تقوم على اجتماع دول فاعلة ومنتصرة لوضع أسس جديدة بما يناسب الأطراف حسب حجمها وتأثيرها، والمؤلّف هنا في هذا البحث غير القابل للاختصار والاجتزاء يعود إلى قرون أسبق من عصبة الأمم ليبيّن النّشوء الأوّل لمتعددة الأطراف، ويقدّم نماذج كانت في التّاريخ القريب والبعيد، وهذه النّظريّات هي احتمالات رآها مؤرّخون وأسسوا لها، وهي ضرورة للقارئ العربي وللسّياسي العربي الّذي غالباً ما ينظر إلى الرّاهن، ولا يعود للجذور والنّظريّات والاحتمالات بل أن عدد من الباحثين العرب لا يميّزون بين عصبة الأمم والأمم المتّحدة، وعدد من يفهم العصبة من العصابة وينتهي الأمر هنا بالرّفض وعدم العودة إلى التّأليف والتّحليل لدراسة جوهر القضيّة وفي هذا البحث المعمّق يعود المؤلّف إلى المحاولات السّابقة لمتعددة الأطراف في العلاقات الدّوليّة بشكل موثّق ليحدد كل مرحلة، ويحدد مواصفاتها عن وثائقها وليس حكمه هو أو عاطفته. ولننظر في هذا المقطع المأخوذ بتصرّف من الكتاب من أحد فصوله لندرك عمق القضيّة ومقدار ما ينقصنا من معارف.
ويميل معظم الباحثين أن مصطلح العلاقات الدّوليّة متعددة الأطراف ظهر نهاية الحرب النّابلونيّة باجتماع فرنسا وروسيا والمملكة المتّحدة وامبراطوريّة النّمسا-المجر في فيينا عام 1814م، كل الخلافات النّاشبة بينها بشكل سلمي، غير أن مجموعة أخرى من الباحثين أعادوا الحديث إلى مرحلة أكثر تقدّماً، وهي معاهدة وستفاليا عام 1618-1648م، والّتي أنهت الحرب الأكثر دمويّة في التّاريخ الأوروبّي، وهي حرب دينيّة، ومن المفيد ذكره في هذا السّياق أن معاهدة وستفاليا لم يكن لها فعليّاً أي تأثير عميق في منظومة العلاقات الدّوليّة لأن هدفها هو إعادة تنظيم البناء الدّولي للامبراطوريّة الرّومانيّة المقدسّة.
وفي تصريح د. صابر فلحوط، الرّئيس الفخري لاتّحاد الصّحفيين في سورية، ورئيس اللّجنة الشّعبيّة العربيّة السّوريّة لدعم الشّعب الفلسطيني ومقاومة المشروع الصّهيوني.قال: اعتقد أنّه لم يسبق أن عرف منبر الأمم المتّحدة بجناحيه (الجّمعيّة العامّة ومجلس الأمن)، فارس كلمة شجاعة وسيّد ثقافة غزيرة وأدب جم ودبلوماسيّة تذبح ولا تجرح مثل الدّكتور بشّار الجعفري. فلقد دفعت الأقدار بالرّجل إلى ركوب الهول واقتحام الموج في فترة كان فيها العالم كلّه يتقلّب ويتلوّى على جمرات الأحداث الجسام، بدء من القطبيّة الأمريكيّة المتغطرسة وانتهاء الرّبيع العربي المشؤوم.
فقد شهد الدّكتور الجعفري مأساة الأمّة العربيّة المتمثّلة باتّفاقات كامب ديفيد بُعيد حرب تشرين التّحريريّة الّتي عدّت أمجد أيام العرب في القرن العشرين، حيث كادت الحرب المشرّفة أن تعيد كتابة تاريخ المنطقة وبداية الصّحوة الوحدويّة القوميّة العربيّة لولا الجريمة القوميّة الّتي ارتكبها الحليف والشّقيق قائد الجبهة الجنوبيّة، حيث قام بتسليم مصر بنيلها وأهرامها وتراث ناصرها للعدو الصّهيوني كرمى لعزيزه الصّهيوني (هنري كيسنجر). الأمر الّذي دمّر جسور الحلم القومي الّذي عاشت أجيالنا تغنّيه، ويتصاعد شهداؤنا إلى فوق مرددين (بلاد العرب أوطاني). كما شهد الدّكتور الجعفري حربَي الخليج، الأولى والثّانية، وأخطر مبادراتهما الدّامية والحامية الّتي كانت تجري على ساحة الأمم المتّحدة ومجلس الأمم حيث ميدان الدّبلوماسيّة وفرسانها. فقد حاولت حرب الخليج الأولى، الّتي مُوّلت من نفط الأشقّاء الألداء ارباك الدّولية الإيرانيّة الشّقيقة الوليدة عام 1979م الّتي رهنت مل جهودها ودبلوماسيّتها وطاقتها من أجل القضيّة الفلسطينيّة ومقدّسات الأمّة. كما جاءت حرب الخليج الثّانية بعد كامب ديفيد للتّضامن العربي الّذي كان يشكو أصلاً من الجفاف في عروقه، والانهاك في قلبه وأعصابه، حتّى أصبح من شبه المستحيل أن يجرؤ عربي أن ينام مع عربي في خيمة واحدة في صحراء سيناء أو بادية الشّام أو الرّبع الخالي، كما شهد الدّكتور الجّعفري مؤامرة أمريكا على العراق واحتلال الضّلع الثّالث في الجغرافية القومية دمشق-القاهرة-بغداد. واستطاع الجعفري أن يقود الدّبلوماسيّة العربيّة السّوريّة بحنكة وحكمة واقتدار قل مثيله، وأن يسهم في ترسيخ مكانة سوريّة في الذّهن والوجدان العالميين. وذلك عبر الخطابات والمداخلات الّتي أبهر بها ممثّلي المجتمع الدّولي، إضافة إلى مشاهديه على الفضائيّات، باعتباره المحامي الأبرع الّذي يدافع عن القضايا العادلة والحق الصّراح. ولا بد أن يذكر جيلنا للأجيال القادمة وقفات العز للدّكتور الجعفري خلال توضيحه الموقف العربي السّوري خلال الرّبيع العربي الّذي ضرب بإرهابه الوطن من خلال حشده اللّصوص والغزاة والجناة والقتلة من أكثر من مئة دولة، وفي طليعتها (أميركا، الغرب الاستعماري، والرّجعيّة النّفطيّة الحاقدة) ليكونوا وقود لمعركة ضد شعبنا العربي السّوري حيث كان (السّخاء الحاتمي) لانتصار هذه الحرب من جانب الأشقّاء الألدّاء! ولا يمكن أن ينسى شعبنا الشّكوى المريرة الّتي أطلقها الدّكتور الجعفري من العروبة الّتي جعلتنا في مركب واحد مع المطبّعين والمتآمرين بائعي تاريخ الأمّة وترابها وقضيّتها المركزيّة فلسطين، وكل ذلك تحت خيمة عربيّة اسمها (الجامعة)، وكأنّي بهذا الدّبلوماسي الاستثنائي يقول: لكل أخ عربي يمتلك عشرات الإذاعات والشّاشات ووسائل التّواصل الإعلامي الصّبيغة بالحقد والهجاء، لكل جميل وعظيم ونبيل في حياتنا، ما قاله ابن الرّومي ردّاً على هجاء أخيه العاق: (لا تهجِني فأنا أخوك لآدم حسبي الهجاءُ أن أكونَ أخاكا). أرجو أن يكون هذا الكتاب للدّكتور الجعفري درس ثري لكل من يمثّل الوطن في المحافل الدّوليّة، ويؤمن بدور الكلمة المناضلة، مؤكّدين قول القائد الخالد حافظ الأسد: (نحن أقوياء بمقدار ما نمتلك من الحرّية، وأحرار بمقدار ما نمتلك من القوّة). مع التّأكيد الدّائم على أهمّية التّآخي التّاريخي المُطلق بين قلم الصّحفي الوطني ولسان الدّبلوماسي المُحنّك وبندقيّة الجندي الباسل في بناء الوطن شامخاً والقضيّة المركزيّة حصينة.
وفي رأي الدّكتور محمد الحوراني رئيس اتّحاد الكتّاب العرب، قال وبكثير من الثّقة:
أن كتاب سورية وعصبة الأمم المتّحدة للدّكتور بشّار الجعفري (نائب وزير الخارجيّة السّوري)، هو واحد من أهم الكتب الصّادرة في العقد الأخير، لك أن هذا الكتاب يُعد بمثابة وثيقة تاريخيّة تكشف الكثير من الغموض والالتباس في واحدة من أعقد المراحل التّاريخيّة الّتي عاشتها الأمّة العربيّة، ولا سيّما الدّول الّتي ينبغي أن تكون فاعلة في هذه الأمّة، وعندما يتحدّث شخص، بعلم وخبرة وثقافة، الدّكتور الجعفري في هذا المجال، فإن هذا يعطينا معلومات هي أقرب ما تكون إلى الصّواب والدّقة، ذلك أنّه السّياسي والدّبلوماسي المخضرم الّذي خبر المؤسسات الدّوليّة وعرفها من داخلها، وعرف عن قرب آليّة عملها، وبالتّالي فإن الباحث الرّصين قدّم دراسة توثيقيّة معمّقة، تهدف أوّل ما تهدف إلى نشر الوعي السّياسي والتّاريخي والثّقافي لدى الباحثين والكتّاب والمؤرّخين والسّياسيين، دراسة بحث فيها الكاتب في أهم المحطّات التّاريخيّة والاتّفاقيّات والمؤتمرات الدّوليّة الّتي رافقت تأسيس عصبة الأمم المتّحدة، هذه المنظّمة الّتي تأسست عقب مؤتمر باريس للسّلام عام 1919م، وكان الهدف الأساسي منها الحفاظ على الأمن والسّلام العالميين، ووضع حد للاعتداءات على الشّعوب، حسب أقوال الرّئيس الأمريكي ويلسون في كلمة التّأسيس، إلا أن ما حدث، وهو ما يتوقّف عنده الكاتب بكثير من الدّراسة والتّحميص والتّدقيق، أن هذه المنظّمة كانت بمثابة وسيلة جديدة لتكريس الاحتلال الانتداب على سورية وغيرها من دول المنطقة، لابد أن ثمّة محاولات كانت من قبل بعض الدّول لإحراج الأمير فيصل لتوقيعه على معاهدة فرساي 1919م، وهي معاهدة حفر الباحث طويلاً فيها وسبر أغوارها من خلال صفحات كتابه، وذلك لما لها من أثر سيء وتغييرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة انعكست آثارها على العالم وعلى منطقة الشّرق الأوسط، فقد وضعت هذه المعاهدة سوريّة ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، كما وضعت فلسطين وشرق الأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني، أمّا فلسطين فقد غدت بموجب هذه الاتّفاقيّة محميّة بريطانيّة، قبل أن يستولي عليها الصّهاينة.
إن ما يقدّمه الدّكتور بشّار الجعفري في كتابه سوريّة وعصبة الأمم المتّحدة، ما هو إلا محاولة جادّة من قِبل باحث رصين لوضع الأمور في نصابها، والوقوف على أهم المنظّمات والاتّفاقيّات والمعاهدات الّتي كان لها أثرها السّيء في واقعنا العربي الّذي نعيشه، لا بل إن بعض هذه المنظّمات وتلك الاتفاقيّات والمؤتمرات قد كانت بمثابة بدايات تأسيس أوّلي لكثير من الكوارث والحروب الّتي لحقت بأمّتنا، وعلى رأسها نكبة فلسطين وسقوطها بين براثن المحتل الصّهيوني.
وفي دراسة د. ثائر زين الدّينالمدير العام لهيئة الكتاب السّوريّة، قال: بعد كتاب الدّكتور الجعفري المهم الّذي حمل اسم (أولياء الشّرق البعيد/أساطير مجهولة في أقاصي المعمورة) الّذي صدر عن الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب في طبعته الثّانية، يضع الدّكتور الجعفري بين أيدي القرّاء كتابه الّذي يسد ثغرة كبيرة في تاريخ سوريّة السّياسي والدّبلوماسي، إنّه كتاب (سوريّة وعصبة الأمم)، وتأتي أهمّية العمل من جانبين اثنين، أوّلهما أنه يتناول موضوعاً لم يُخصص له من قبل عمل بهذه الضّخامة والخصوصيّة، وإن كنّا قد قرأنا مقالات متفرّقة وبحوثاً متناثرة عن الموضوع هنا وهناك. والجانب الثّاني يتعلّق بشخصيّة الباحث نفسه، وهو الدّبلوماسي السّوري ذو التّجربة الغنيّة العميقة، في مجاله، وفي مرحلة لعلّها الأصعب في تاريخ سوريّة الحديث.
في هذا الكتاب الّذي صدر منه الجزء الأوّل، ووعد الباحث أن يرفده بجزء ثانٍ-يتناول التّجربة السّوريّة في مضمار العلاقات متعددة الأطراف خلال مئة عام خلت مع عصبة الأمم ثم مع منظّمة الأمم المتّحدة، ويأتي الكتاب كما يقول الدّكتور الجعفري في مقدّمته: (بمناسبة مرور مئة عام على إصدار المؤتمر السّوري العام برئاسة هاشم الأتاسي في 8 آذار 1920م قراره بإعلان استقلال سوريّة بحدودها الطّبيعيّة بما فيها فلسطين ولبنان.
ومعركة ميسلون في 24 تمّوز 1920م واستشهاد وزير الحربيّة في أوّل حكومة استقلال سوريّة: يوسف العظمة، بعر رفض المؤتمر السّوري لإنذار غورو ولوعد بلفور، وكذلك بمناسبة مرور مئة عام على إنشاء عصبة الأمم في باريس عام 1920م كأحد أهم مخرجات مؤتمر فرساي للسّلام 18 كانون الثّاني 1919م-28 حزيران 1919م.
ويؤكّد الباحث الفرق الشّاسع بين تجربتي سورية مع عصبة الأمم يوم كانت مسلوبة الإرادة والسّيادة ومع منظّمة الأمم المتّحدة، عندما شاركت في تأسيسها رغم اعتراض فرنسا، وانتخبت عضواً غير دائم العضويّة لمجلس الأمن في العام الثّاني لتأسيس المنظّمة الدّوليّة خلفاً لمصر خلال عامي 1947-1948م.
عرّى الباحث مستنداً إلى الوقائع التّاريخيّة والوثائق ما اعترى عمل عصبة الأمم من وهن وضمور في مجال مكافحة الاستعمار، في فترة بلغت فيها النّزعة الاستعماريّة الأوروبّية ذروتها، ما بين الحربين العالميّتين، وطُبّق نظام الانتداب على الدّول وفي مقدّمتها الدّول العربيّة.
درس الباحث في فصول كتابه بإفاضة اتّفاقيّة سايكس بيكو ومخرجاتها ونتائجها على الوطن العربي، وأفرد فصلاً للحديث عن مؤتمر فرساي للصّلح وتأسيس عصبة الأمم، وركّز-وهو موضوع الكتاب-على دور سوريّة في عصبة الأمم، ثم تناول في الفصل الأخير فشل هذه العصبة وارتدادها عن الأهداف الّتي يُفترض أنّها أُنشِئت من أجلها. ليختم الباحث كتابه الّذي استغرق نحو 900 صفحة بخاتمة موجزة مكثّفة حملت عنوان (بين يدي سوريّة وتاريخها)، رأى فيها أن سوريّة الّتي كانت ضحيّة الجشع الأوروبي ومؤامرات سايكس بيكو ومؤتمر فرساي وسان ريمو، كانت في كل وقت فاعلة متعاونة ومطبّقة لقرارات منظّمة الأمم المتّحدة الّتي ولدت من ركام فشل العصبة، ولم تخرج عن هذه القرارات. هذا كتاب مهم جدّاً في بابه، وهو جدير بالقراءة المتأنّية.
وفي رأي آخر قال د. خلف المفتاح مدير مؤسسة القدس الدّوليّة: تنبع أهمّية كتاب سوريّة وعصبة الأمم للدّكتور بشّار الجعفري من أن المؤلّف يجمع بين سمتي السّياسي والمثقّف إضافة إلى العمل المهني والدّبلوماسي الّذي اضطلع به لعدّة عقود، ولا سيّما في السّنوات العشرة من عمر الأزمة السّوريّة، حيث شغل منصب مندوب سوريّة في الأمم المتّحدة، واستطاع أن يخوض أهم المعارك الدّبلوماسيّة في تاريخ سوريّة منذ الانتداب الفرنسي وحتّى الآن حيث استطاع أن يوظّف خبرته وثقافته وحنكته السّياسيّة في خدمة بلاده سوريّة، ويقارع دبلوماسي أقوى دول العالم في منبر مجلس الأمن الدّولي ما جعله يكتسب احتراماً كبيراً واسعاً عند الأصدقاء والأعداء، واستطاع أن يترك بصمته في سفر الدّبلوماسيّة السّوريّة.
وكما كان الجعفري بارعاً في حقل الدّبلوماسيّة كان كذلك في كتاباته ومنشوراته العديدة، ومنها كتابه سوريّة وعصبة الأمم الصّادر عن دار بستان هشام في دمشق في طبعة أنيقة عام 2021م والّذي يقع في 863 صفحة، ففي كتابه هذا يطلق الجعفري العنان لقلم الباحث الحصيف والموضوعي والقارئ الجيّد للتّاريخ في زيارة غير نمطيّة، تُذكّرنا بكتاب الصّحفي المصري الرّاحل محمد حسنين هيكل-زيارة جديدة للتّاريخ-حيث يقلب الجعفري صفحاته ليس كما كُتبت أو صدرت إلينا، ولكن بقراءة خاصّة وواعية تدرك أبعاد المخططات الاستعماريّة لأكبر قوّتين استعماريّتين آنذاك، وهما بريطانيا وفرنسا، وسعيها المستمر للسّيطرة على بلداننا عبر المؤامرات السّرّية تارة وعبر التّضليل والخداع تارة أخرى، وما يقابله من جهل سياسي لدى النّخب السّياسيّة العربيّة آنذاك، وهي الّتي قيض لها أن تكون في واجهة العمل السّياسي في مرحلة مفصليّة من تاريخ الأمّة العربيّة، وهي تسعى للخلاص من حكم السّلطة العثمانيّة.
وإنجاز الحلم العربي بإقامة الدّولة العربيّة الواحدة ونواتها بلاد الشّام والحجاز، وكيف تم التّفريط بذلك من خلال مخرجات مؤتمري الصّلح وفرساي، الّذي خرج فيه العرب من العرس من دون حمّص، والأكثر من ذلك الإشارة إلى كيف تحوّلت عصبة الأمم إلى مظلّة لاستعمار جديد تحت مسمّى وصاية وانتداب وتمعّن سكاكين سايكس بيكو في تقطيع أوصال الأمة، لتدخل شعوب المنطقة ولا سيّما الدّول العربيّة في مواجهة تاريخيّة مع قوى استعماريّة، وينتقل نضالها من نضال من أجل بناء الدّولة القوميّة إلى نضال من أجل الاستقلال في دولة أو كيان وطني، هو في حقيقته مسبق الصّنع، ولم يتشكّل تاريخيّاً في كيفيّة معيّنة.
كتاب الدّكتور الجعفري كتاب يكرّس حقيقة أن التّاريخ هو المعلّم الأوّل، وأنّه ليس فعلاً ماضياً وإنّما هو حاضر ومستقبل.
وفي دراسة للأستاذ إياد مرشد مدير مكتبة الأسد الوطنيّة قال فيها: (من أجل سوريّة وإنسانها وتاريخها ومستقبلها كان هذا البحث) هذا ما جاء في مطلع كتاب الباحث د. بشّار الجعفري، واعتقد أن ذلك يختصر علينا الكثير. فالباحث في كتابه (سوريّة وعصبة الأمم) يقلّب أوراق التّاريخ مشبّعاً بالانتماء وقارئاً متمرّساً للسّياسة الدّوليّة وموثّقاً رصيناً للأحداث. كيف لا وهو الدّبلوماسي الواقف على الخط الأوّل للمواجهة الدّبلوماسيّة في أروقة الأمم المتّحدة، وفيها خَبِرَ عن قرب أشكال الصّراعات الدّوليّة، وعاش لعبة الأمم وصراع المصالح والنّفوذ. كان مقاتلاً شرساً في مواجهة حرب هوجاء شُنّت على سوريّة، وعاصفة دبلوماسيّة أُثيرت ضدّها في أروقة الأمم المتّحدة، فحمل راية بلاده عالياً مدافعاً عن مجد سوريّة واستقلال قرارها الوطني، وحقّها في صياغة مستقبلها بإرادة شعبها وقيادتها. أهمّية هذا الكتاب تأتي من خلال: أنّه يغوص في مرحلة تاريخيّة صعبة ومعقّدة، والباحث يأخذ المعلومات من مصادرها الأم ومما حَفِلَ به أرشيف المنظّمة الدّوليّة. اعتماده الوثيقة كحجّة دامغة، والتّقصّي العلمي الدّقيق سبيلاً لتكوين الرّأي، بعيداً عن لغة الإنشاء الّتي عادة ما تحفل بها مثل هذه الكتب.
الكاتب يصوّر الصّراع الدّائر على سوريّة منذ استقلالها بحدودها الطّبيعيّة في 8 آذار 1920م دون استبعاد فترة الاحتلال العثماني والحرب العالميّة الأولى واتّفاقيّة سايكس بيكو عام 1960م وسواها من أحداث مفصليّة، بحيث شكّلت كلّها المقدّمات لما آلت إليه أوضاع سوريّة والمنطقة والعالم لاحقاً، وهي مرحلة تاريخيّة حاسمة تم فيها رسم ملامح العالم الجديد آنذاك وقيام دول واندثار أخرى، وهي مرحلة اتّسمت بإعادة رسم حدود العالم والمصالح الاستعماريّة للدّول الكبرى. إن الكاتب رجل دبلوماسي من جهة وباحث ومثقّف مشهود له من جهة ثانية، وبالتّالي فإن معايشته الحقيقيّة للوقائع في أروقة الأمم المتّحدة تعطي أحكامه المصداقيّة، فهو خبير بالشّأن الدّولي وقراءة خريطة المصالح الدّوليّة وطبيعة المتغيّرات في العلاقات الدّوليّة الّتي تتّسم بعدم الثّبات وبالحركيّة بناء على تغير المصالح وموازين القوى الإقليميّة والدّوليّة. يحمل الكتاب قيمة علميّة كبيرة، إذ يغدو مرجعاً تاريخيّاً وسياسيّاً يُعتد به في قراءة تاريخ سوريّة الحديث، وذلك لم يحفل به من وثائق ومعلومات ذات قيمة كبيرة استحصل عليها الباحث بجهد ودأب منقطع النّظير، حتّى كوّن الأساس المعرفي لما ورد في كتابه. الصّياغة الموضوعيّة والتّسلسل التّاريخي الزّمني المنسّق الّذي يجعل القارئ ممسكاً بالأحداث وفق تواريخ حدوثها. إن هذا الكتاب يسد نقصاً كبيراً في المكتبة العربيّة والسّوريّة حول مرحلةٍ تاريخيّة، كانت دول المنطقة خاضعة فيها للاستعمار والقوى الدّوليّة المسيطرة، وبالتّالي فإن جلَّ ما وُثِّق حولها كان يأتي على لسان باحثين غربيين. وبالتّالي فإن تصدّي الدّكتور الجعفري لإجراء هذا البحث المتميّز يُعبّر أن الانتماء الوطني ليس فعلاً وظيفيّاً أو موقعاً في سلّم المسؤوليّات، بل أنّه مثابرة في العمل وقراءة التّاريخ وتحليله وإعادة تقويمه ليكون لنا عبرة نستفيد من دروسه، ونأخذ منه الموعظة.
إن قراءة الكتاب ليست ترفاً، بل هي ضرورة لكل باحث في التّاريخ، ولكل دبلوماسي ومهتم بشؤون المنطقة، لما يتضمّنه من وقائع، ولما يذكره من أحداث تستلزم إعادة قراءة مرحلة هامّة من تاريخ سوريّو والمنطقة.