شاهد واقرأ.. ورقة نقديّة في مجموعة غرفة “201” لـ “د. مصطفى الضبع”

بقلم د. دورين نصر | لبنان

مئةٌ وخمسةٌ وسبعون نصًّا، شاءها الكاتب قصصًا كثيرةً… فله الحريّة بأن يدرجَها تحت أيّ فنّ أدبيّ، ولنا – كنقّادٍ – أن نوافقَه الرأي، فتنضوي إلى الفنّ القصصي الصّرف، أو نستدخِل فنًّا آخر، يمنح هذه النّصوص قيمة فكريّة مُضاعفة.

أوّل ما استوقفني قبل أن أبدأ بقراءة القِصص، ما اندرج تحت عبارة القسم الأوّل: “قصصٌ لمن يفهمها”، ما يخلق نوعًا من التحدّي بين المرسِل والمتلقّي. لمَ قصصٌ لمن يفهمُها، أفي ذلك انتفاصٌ من قيمة القارئ؟ أو حافزٌ لقراءة مختلفة تفتح باب التأويل؟

في الواقع، أسئلة عديدة تستدعي البحث عن أدوات جديدة للوصول إلى البنية العميقة لهذه القصص. فننظر إليها بمنزلة مسائل حياتيّة عميقة، تلامس حدود الفلسفة، وبذلك تتعدّى الدائرة الإنسانيّة، من خلال نظرة شاملة تتخطّى حدود الأمكنة والأزمنة. وكأنّ نزلاء هذه القِصص يكسرون طُغيان الجغرافيا، فيعالجون الهمّ الإنساني أينما كان، مهما تشابهت أو اختلفت الظروف.

في هذا الإطار، نلاحظ أنّ انزياح هذه النّصوص، عن سكّة الفنّ القصصي النمطي لا يَضيرها، ولا ينتقص من قيمتِها الأدبيّة. فالكاتب، أقاصًّا كان أم روائيًّا، يمارس حريّة الكتابة كشرطٍ من شروط الإبداع. ألم يقُل الفيلسوف والروائي الفرنسي ديدارو: “الجمل البليغة، مثلها مثل المسامير الحادّة، تفرض الحقيقة على ذاكرتنا”؟

ألم يقُل مصطفى الضبع في قصّة “حبر على حبر” النصوص ثلاثة: نصّ يدفعُك للكتابة، ونصّ يُحبّك وتحبّه، ونصّ تحبّه فلا تغادرُه، نصّ يصادقُك، ونصّ تصادقه، وبينهما نصّ لا يقول سوى ما تصدّقه؟

لعلّ هذا ما انتهجه د. مصطفى الضبع عَبْرَ هذا المُؤلّف، إذ خرج عن الخطّ النمطي للفنّ القصصي، ليأتينا بنصوص تنمّ عن فكر إنساني عميق، تُؤشّر على ثقافة واسعة وفكر راقٍ.

مئةٌ وخمسةٌ وسبعون قصّة، تترجّح بين نوعي النّصوص الواقعي والخيالي، تُوقع القارئ أحيانًا في حيرة، وتختبر ذكاءه وقدراته التحليليّة في أحيان أخرى، لا سيّما أنّ كلمة “الحلم” هي الكلمة الموضوع المهيمنة على القسم الأوّل من المجموعة القصصّية، ما يُبقي التأويل مفتوحًا. فنتساءل هل النزعة السورياليّة المسيطرة على هذه النّصوص تمنحُنا حريّة التجوّل في متونها على هوانا؟ وهل بإمكاننا أن نستخرج من النّصوص المتتاليات السرديّة بيُسرٍ؟ كيف سيتعامل النّاقد مع قصص كُتبت باحترافيّة عالية؟

لعلّ عبارة الافتتاح في القصّة الأولى “أحلام” كافيةً، لإزالة همّ كونيّ ملقى على عاتق البشريّة، وكأنّ أنا الكاتب تصير “أنا جماعيّة”، إذ يقول: “وكأنّني جئتُ إلى العالم لإنتاج أحلام تكفي البشرَ جميعَهم”. وقد أعدتُ قراءة الجملة الأولى مستبدلة كلمة أحلام بأفلام فصارت الجملة كالتالي:

وكأنّني جئت إلى العالم لإنتاج أفلام تكفي البشر جميعَهم، ما يجعل المتلقّي يشعر بأنّ حياتَه أشبه بفيلم أو بحلم، ولولا هذه الفسحة لشعر ربّما بأنّه مهمّش لا قيمة له. وربّما شاء الكاتب أن يجعل من عبارتِه الاستهلاليّة هذه مفتاحًا لكلّ القصص.

في الواقع، ينطلق الضبع في قصصه من الرؤية الوجوديّة القائمة على السأم والاغتراب الذاتي والمكاني. فالقصّة عنده لا تعتمد على البداية والذروة والنهاية، بل تتمرّد على جماليّات الترابط والتسلسل وتنهل من جماليّات التقاطع والتجاور، فكأنّ القصّة تبدأ من “النهاية” أو أنّ النهاية يجب أن تفسّر البداية.

ها هي القصّة الأولى “أحلام” تنتهي بعبارة تفتح النّصّ على الفلسفة الهيرقلطسيّة، إذ يقول “الحياة ليست سوى حلم واحد متجدّد باستمرار في رحلته بين القلب والنجوم”.

فالإنسان مأزوم في قصصه وهو في عمليّة بحث دائم وسعي لاختبار الفرضيّات التي يضعُها. ففي قصّة “الطريق” الرجل الخمسيني والمرأة الثلاثينيّة حاولا أن يلتقيا عبر النظرات للحظة وسط زحمة الحياة.

يقول الكاتب: “لم يغادر مكانَه، ولم تترك مِقعَدها، تبادلا التفاصيل، والتقت النظرات ومعاني العتاب…” “البقعة التي لم تَرَ الظلّ من قبل استعذبت ما تجرّبه للمرّة الأولى”.

“كادت تغادر السيارة حين دقّ جرس المدرسة القريب، أعلنتها ساعتُها البيولوجيّة، بموعد طفلها الصّغير”، “وكاد يرفع سقف السيارة ليجرّب طيرانًا لم يجرّبه من قبل حين دقّ هاتفُه ليذكّرَه بتأخّره عن مواعيده المحدّدة سلفًا”.

هكذا، تتبعثر الأحداث حينًا، وتتوازى وتتقاطع حينًا آخر لتدلّ على بحث الإنسان الدائب عن الحريّة ومحاولته لاقتناص لحظة سعادة. ولأنّ العلاقة بين القراءة والكتابة علاقة حواريّة، نلاحظ بأنّ استنطاقَنا للنّصّ أثناء التحليل قد يُنتج فائضًا من الإمكانات التي تبقى احتماليّة، باعتبارها تُقابل ما هو حقيقيّ.

بالتالي، فإنّ هذه القصص في بنائها لا تصف الواقع ولا تحاكيه، لكنّها في الوقت عينه لا تتعالى عليه لا سيّما أنّ مرجعيّتها الأولى والأخيرة هي الإنسان الغريب والمقهور والباحث عن الحريّة والعدل.

ولأنّ الأحداث في قصص الضبع تصير في غفلة من الزمن، يتفاجأ القارئ في قصّة “جدّتي” التي قضت عشرين عامًا في شبه غيبوبة ، بمكالمة أجراها ابنُها الأكبر مع زوجته، أنّه قد اتّفق مع أحد تجّار الأعضاء على شراء الأعضاء المعمّرة. ويختم القصّة بما يلي: “فيما جلسنا نبكي متمنّين أن يعيدوا لنا عضوًا واحدًا نواريه التراب؛ ليكون شاهدًا على امرأة سكنت قلوب الجميع ولم تمرّ على قبر أولادها”.

هذه الطريقة الفجائيّة التي ينهي بها الكاتب قصصه تعطي للقارئ مجالاً واسعًا ليعانق آفاقًا مفتوحة على تعدّديّة المعاني المحتملة واللانهائيّة. وهذا ما دعت إليه مدرسة Constance من خلال رائديها آيزر وياوس. إذ يشعر القارئ بأنّ هناك فراغ عليه أن يملأه، لكي يربط بين الأجزاء غير المترابطة. وقد تجلّى ذلك في نصّ رجل وامرأة على قمّة جبل. وفي الواقع إنّ هذا النّصّ خلق عندي نوعًا من التداعي مع قصيدة واليس ستيفنس “ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى طائر أسود”. وكأنّ الكاتب يعتمد على جماليّات التّشظّي، وعلى المزج بين الصور الوصفيّة والسرديّة واللّوحات التأمليّة، فيركّز على حركة الذهن ومخزون اللاّشعور وانعكاس الظواهر على الّلوحة النفسيّة الداخليّة.

فنشعر بأنّنا أمام تجربة جديدة ببنائها ومادّتها وفلسفتها وأسلوبها وهدفها. ولهذا، فهي لون خاص، أو هي كتابة تثير العقل أكثر ممّا تثير العواطف. ويبدو للمرء أنّ مصدر الإثارة يكمن في نجاحها في الاستحواذ على اهتمام القارئ وجعله يقظًا أكثر من حرصها على تسليته. لكن هذه اليقظة غير مطلوبة حين يحصل الخطأ في الغرفة (201) ويصير اللقاء في منتصف الحلم، وفي المسافة بين الحلم والواقع، حيث يصبح المكان خارجًا من أسطورة قديمة لم تكتمل بعد وحيث يصبح الزمن في قصّة “ضمير” مفتوحًا على كلّ الأزمنة، لكنّ فعل الصيرورة لا يلبث أن يتوقّف.

وتجدر الإشارة بأنّ “أنا المتكلّم” هي التي سيطرت على معظم هذه القصص؛ إلاّ أنّ صورة الكاتب تظهر متخفّية ولا تلبث أن تكشف عن نفسها في قصّة طيران، إذ يقول: بعد سنوات سيكبُر الطفل ويكون عليه أن يفتح عيونه، ينفض عنها صورة عاشها، وحلمًا لم يتحقّق، ومعنى لم يستقِم بعد للحياة.

في الواقع، بين عبثيّة ألبير كامو وسمويل باكيت،  وفلسفة رامبو ووجوديّة سارتر، تتجلّى عبثيّة مصطفى الضبع ورؤيته للحياة. فهو يثير من خلال هذه المجموعة القصصيّة إشكاليّات أدبيّة ونقديّة مهمّة، كما يحاول الإجابة عن أسئلة تتّصل بماهية القصّة العربيّة، وخصائصها وأنساقها وفلسفتها الجماليّة، وعلاقتها بنظام الواقع. فهذه القصص في بنيتها القائمة على الانحرافات السرديّة وتكسير الزمن تتمرّد على المنظومات الفكريّة والإيديولوجيّة المألوفة، وكأنّ الكاتب يكابد في سبيل صياغة أبنية سرديّة جديدة، فيميل إلى استخدام لغة مكثّفة موحية تجسّد المعاني المتنوّعة فيخلق أسلوبًا لغويًا جديدًا يدهش القارئ ويصدمه، ويستخدم تراكيب وصورًا شعريّة، تحلّ حركتُها الإيقاعيّة محلّ حركة السرد والأحداث.

يحلو لي في نهاية هذه الورقة أن أختمَ بكلمة للكاتب “ستفنسون” يثمّن فيها دور الفنّ القصصي، على الصعيد الحياتي إذ يقول: “إنّ أغلب الكتب المؤثّرة والأصدق أثرًا، هي الروايات والقصص. فهي لا تلزم القارئ بقصيدة، سيكتشف عدم دقّتها لاحقًا، ولا تلقّنه درسًا، سينساه حتمًا فيما بعد، بل هي تحرّرنا من نفوسنا وترغمنا على معرفة الآخرين.

غرفة 201، هي غرفة الحقيقة المرّة والعارية، خلقت فينا أثرًا بيّنًا، وأبرزت كاتبًا قصصيًّا من طراز رفيع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى