البائلون في ماء زمزم.. بين الأمس واليوم
رضا راشد | الأزهر الشريف
ذكروا قديما أنه بينما كان الحجاج يطوفون بالكعبة ويشربون من ماء، زمزم إذا بأعرابي يبول في بئر زمزم أمام الناس، فسأله أمير مكة: قبحك الله، لم فعلت هذا؟! فقال: حتى يعرفني الناس. وفي رواية أخرى قال:” أردت أن أذكر ولو باللعنات”. ومنذ ذلك الحين صار يضرب المثل بالبول في ماء زمزم لكل من أراد أن يَصّعَّد من مدارك الخمول إلى معارج الشهرة، بمصادمة المسلمين في عقيدتهم حيث يقال له: بال فلان في ماء زمزم. والمراد بزمزم هنا كل عقيدة إسلامية أو شريعة محمدية يراد هدمها. والمراد بالبول في زمزم محاولات العلمانيين وأعداء الإسلام تشكيك المسلمين فيها.
ولكن شتان شتان بين ما كان عليه البول في ماء زمزم بالأمس وما صار إليه البول في ماء زمزم اليوم.
بالأمس كان البائل في ماء زمزم واحدا واليوم صاروا كثرا.
بالأمس كان البول في ماء زمزم حقيقة يطهر بكثرة الماء، فإذا بلغ الماء قلتين لم يبلغ الخبث، واليوم صار التبول في زمزم مجازا بهذه المحاولات الدؤوبة للتشكيك في عقائد المسلمين وثوابتهم
بالأمس كان الدافع للبول في ماء زمزم مجرد نيل الشهرة (أردت أن أذكر ولو باللعنات) واليوم لم تعد الشهرة لهم غاية فقد تماموها وأصبحوا يملكون من وسائل الإعلام يجعلهم في غنى عن البول في ماء زمزم نيلا لشهرة أو كسبا لصيت، بل صار الدافع إفساد ماء زمزم نفسه على المسلمين وانتهاكا حرمته وامتهان قدسيته وحرمان المسلمين منه على الدوام.
ومن هؤلاء البائلين في زمزم هذا الزنبيل (إبراهيم عيسى) الذي يئط منه كرسيه الذي يجلس عليه تبرما به، ويضيق منه قميصه الذي يلبسه تغيظا من سمنته ، هذا الشخص الذي يصر دائما على أن يصادم المسلمين في أفكارهم وعقائدهم وأخلاقهم، بل وعاداتهم، على الرغم مما يلقى دائما من إهانات، لعل آخرها ما كان في لقائه بجامعة الاسكندرية منذ شهر تقريبا، حين أمطره الطلاب بوابل من الأسئلة والاعتراضات التي وقف أمامها حائرا متلددا، وخائفا مترددا، وألجم الجهل لسانه فما كان منه إلا التلجلج والتصبب عرقا والعجز الفاضح عن مواجهة أسئلتهم
إن هذا الشخص يتركنا بشذوذاته الفكرية في متاهات الحيرة وسراديب الشك المظلمة من هو؟ وما قبلته؟ وما غايته؟ ولحساب من يعمل؟ فلقد كنا نتوهم فيما مضى أنه ينطلق من معسكر عداوة الدين حتى فجأنا بالأمس بتوجه جديد غريب وخطير في الوقت نفسه، وهو أنه ينسلخ من الجامعة الوطنية كما انسلخ من قبل من الجماعة المسلمة.
ذلك أن أي مجتمع إنما يهفو لتحقيق الأمن غاية له، فإذا كان ما يهدد استتباب الأمن وجب على أعضاء الجماعة الوطنية ورموزها من أي تخصص وفي أي اتجاه أن يهبوا سراعا لمواجهة هذه الأزمة ومحاصرة هذا السرطان من قبل أن يتوغل في جسد الأمة المصرية كلها.
ولقد لوحظ في الآونة الأخيرة تفشي الجرائم في المجتمع المصري، وأنه لم تعد تلك الجرائم من النوع العادي الذي يرتكب في لحظة غضب عارضة وغيبة من الوعي، فإذا أفاق من غفوته عض على أصابع الندم، ولكنه من النوع غير العادي الذي، يرتكب مع سبق الإصرار والتخطيط والترصد. وهذا خطر- لو تعلمون- عظيم يقض مضجع أي مجتمع، ويوجب على أعضائه أن يهبوا سراعا لمواجهته، كل في تخصصه، وأن تتكاتف الجهود لمواجهته،؛ حماية للمجتمع والأمة من سوء عواقبه.
وانطلاقا من كون الأزهر الشريف مؤسسة دينية نيط بها الدفاع عن الإسلام والصدور عننه في حل الأزمات، ثم من كونه مؤسسة وطنية يزعجها ما يتعرض له المجتمع من مخاطر.. انطلاقا من ذلك كانت خطبة الجمعة الماضية في الجامع الأزهر الشريف التي ألقاها فضيلة الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر السابق، والتي تمحورت حول جرائم قتل النفس والغير التي ترتكب مع سبق الإصرار والترصد من أناس يفترض فيهم ان يكونوا منبع الرحمة لمن يقتلونهم: كالزوج يقتل زوجته، والزوجة تقتل زوجها، والأب يقتل أولاده، والأم تقتل أولادها.
وقد قام فضيلة الدكتور في هذه الخطبة مقام النذير العريان يصرخ في فئات المجتمع أن أفيقوا، لأن الأمر أهون من كل هذا؛ فالمشكلات التي تؤدي إلى ارتكاب هذه الجرائم إنما هي مشكلات تكفَّل الإسلام بحلها، وإذن فعلينا أن نعود إلى ديننا وأن نستنطق كتاب ربنا وسنة الصادق المصدوق نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.فكانت خطبة بارعة شائقة وجيزة المبنى غزيرة المعنى قد آتت أكلها في تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين للوقوف أمام هذه المشكلة.
وقد نقل التلفزيون المصري على الهواء مباشرة؛ مما يدل على أن الإجماع الوطني منعقد على الإحساس بخطورة هذا الأمر، ثم على ضرورة التكاتف لمواجهته كل من موقعه الأمر، فما بال البائل في زمزم (إبراهيم عيسى) يروم خرق الإجماع الديني والاتفاق الوطني على مواجهة هذه المشكلة حماية للمجتمع من وخيم عواقبها، وحرصا على استتباب الأمن في أرجائه كلها.فقد خرج ينكر على الأزهر ما قام به من عمله؛ مما يجعلنا نهبا للتساؤل: ما الذي يغيظه في ما قام به الأزهر؟ أليس الواجب الوطني يحتم على المصريين (مؤسسات وأفرادا) العمل على إرساء الأمن في المجتمع؟ أيريد من إنكار هذا الأمر ألا يتم مواجهة هذه الظاهرة المفزعة المفجعة حتى تزداد تفشيا؟! أمره عجيب غريب ، والأعجب من ذلك تفاهة اعتراضاته وسذاجتها وبعدها عن الواقع والمنطق معا.
فقد تمثلت اعتراضاته على مضمون الخطبة في أربعة اعتراضات:
أولاً: أن الخطبة مخالفة في موضوعها لخطبة وزارة الأوقاف التي كانت مخصصة في هذا اليوم للحديث عن صلة الرحم
ثانيا: أنها ركزت على نموذج واحد من القتل وهو قتل الزوجات للأزواج فقط ولم تتعرض لنماذج القتل الأخرى: كقتل الأزواج للزوجات أو كقتل البنات، مما يعني في زعمه أن ذلك يعكس توجها عند المرأة.
ثالثا: ينكر أن يصف الدكتور عباس هذه الجرائم بأنها فساد وإفساد في الأرض.
رابعا: ينكر على الشيخ أن يعود بحل الجريمة الى الأمر الديني أو الى الشرع الإسلامي، لا إلى القانون المصري.
لينتهي في كلامه إلى ان هذه الخطبة إنما تمثل صورة للوعظ الديني التقليدي وكيف تنظر الثقافة الدينية التقليدية السائدة للعلاقة بين الرجل والمرأة.
فهل تصح اعتراضاته؟!
تعالوا نقف معها واحدا واحدا
أولاً: مخالفة موضوع الخطبة لخطبة الوزاره في موضوعها
وهذا اعتراض عجيب جدا ينم على جهل شديد أو خبث كبير، حيث يحاكم الأصل إلى الفرع، والأب إلى الابن؛ إذ من المعروف أن الأزهر هو الهيئة المسئولة أصالة عن الشؤون الدينية بنص الدستور المصري، وأن شيخ الأزهر أعلى رتبة بحسب الدستور والقانون من وزير الأوقاف، وهذا أمر لا تنتطح فيه عنزتان ولا يتنازع عليه اثنان، ولكنه التجاهل والاستهبال، بل والاستعباط.
فإذا اتفقنا على ذلك- ولا بد من أن نتفق- فهل من المعقول أن يسري ما يقوله وزير الأوقاف على شيخ الأزهر؟! ذلك أمر عجاب.
ثم ألم يصل إلى إبراهيم عيسى- وهو الصحفي الذي يفترض فيه أن يكون متابعا جيدا لما ينشر في الصحافة – أن الجامع الأزهر قد انتقلت تبعيته من وزارة الأوقاف إلى مشيخة الأزهر، وأن ذلك قد تم بموافقة وزير الأوقاف نفسه، بتاريخ 1/16/ 2014 بعد 22 سنة من تبعية الجامع الأزهر لوزارة الأوقاف إثر قرار جمهوري صدر في سنه 1992 بسبب حوادث الإرهاب التي حدثت في ذلك الحين؟!
وهذا عود بالمياه إلى مجاريها، فقد كان الأصل ان يتبع الجامع الأزهر مشيخة الأزهر، ثم استُثنِي هذا الأصل بهذا القرار الجمهوري الصادر سنة، 1992 ثم عاد الأمر إلى طبيعته سنة 2014، وإذن فلا ينطبق على الجامع الأزهر ما ينطبق على مساجد وزارة الأوقاف من موضوع الخطبة . فمن ثم تصبح الدعوة إلى التزام الجامع الأزهر بخطبة الوزارة أمرا يثير الريبة في من حمل لواءها!! [وفي هذا الرابط تجدون الخبر منشورا في جريدة الأهرام
https://gate.ahram.org.eg/daily/News/1066/41/253601/
ثم إن مخالفة الجامع الأزهر في موضوع خطبة الجمعة لخطبة وزارة الأوقاف أمر تكرر كثيرا في الأسابيع والأشهر الماضية، وكانت الخطبة تنقل على التلفزيون المصري على الهواء مباشرة، وما اعترض أحد على اختلاف موضوع الخطبة، بل لم يعترض إبراهبم نفسه، ولكن ربما لأن الموضوع لم يكن يشغل بال إبراهيم عيسى، فلهذا لم ينتبه إلا الآن.
فإذا سلمنا جدلا خضوع الجامع الأزهر في خطبته لخطبة الوزارة، فهل يصح زعم إبراهيم عيسى من اختلاف خطبة الأزهر لخطبة الوزارة؟! إنك حين تنعم النظر وتكر البصرفي الخطبتين تجد أن العلاقة بينهما وثقى؛ ذلك أن الحديث عن صلة الرحم إنما يكون من جانبين: جانب التخلية، وجانب التحلية. فلئن كان الحديث عن فضل صلة الأرحام يمثل جانب التحلية، فإن الحديث عما يكدر صفو الرحم والعلاقة الزوجية من المشكلات التي تفضي إلى هذه الجرائم يمثل جانب التخلية، وإذن فخطبة الأزهر يمكن اعتبارها موافقة لخطبة الوزارة أو الوجه الثاني لها. هذا على الرغم مما أؤكد عليه دائما من أن الجامع الأزهر ليس مفروضا عليه أن توافق خطبته خطبة وزارة الأوقاف في مساجدها لأنه تابع لمشيخة الأزهر وليس تابعا لوزارة الأوقاف.
ثانيا: اتهم ابراهيم عيسى الدكتور عباس شومان بأنه ركز في خطبته على جرائم قتل الزوجات للأزواج فقط، ولم يذكر نماذج من جرائم القتل الأخرى، على الرغم من أنها شائعة أيضا، واعتبر ذلك نوعا من تربص المجتمع الديني بالمرأة، أثرا لما يزعمه العلمانيون من أن المجتمعات الدينية مجتمعات ذكورية تهتم بالرجل على حساب المرأة.. إلى آخر هذه الهرطقات
ومثل إبراهيم عيسى في هذا الاتهام كمثل من اتهم الورد بأنه أحمر، ثم ما زال يلح على ذلك ويقرره، حتى وقع في أوهام الناس أن حمرة الورد عيب!! إذ ما العيب في أن يعالج الداعية في خطبته قضية ما، ثم يسلط الضوء على مظهر من مظاهر هذه القضية أو على نموذج من نماذجها باعتباره الأبرز في المجتمع حينئذ؟!.
ومع ذلك،، فإنك حين تسمع الخطبة متفكرا متأملا متدبرا مترويا تجد أن هذا الاتهام عار من الصحة، ففي الخطبة قال الشيخ:
تقتل الزوجة زوجها ويقتل الزوج زوجته ويقتل الأب أولاده، وتقتل الأم أولادها، ثم استطرد في بيان جرم هذه الجريمة الأخيرة؛ من كونها وقعت من نبع الحنان الرحمة؛ وهي الأم، وأن هذه الجرائم لا نظير لها بين الحيوانات، حيث تضحي الأم بحياتها من أجل أولادها.. فهل في هذا تركيز على نوع معين من الجرائم كما يزعم إبراهيم عيسى؟!
ثالثا: أنكر أن يصف الدكتور هذه الجرائم بأنها فساد وإفساد في الأرض..
وأنا لا أدري من أي أديم الأرض سوي وجهه: أمن الطين أم من لحم الخنزير؟ فمن هنا تبلد إحساسه وماتت مشاعره؟! فإن لم يكن القتل بين أفراد الأسرة الواحدة فسادا و إفسادا فأي شيء يمكن تسميته فسادا أو إفسادا بعد ذلك في نظره؟! لا أدري!!
رابعا: يستنكر أن يعود الدكتور عباس شومان بالمشكله إلى الحل الشرعي من خلال تطبيق حكم القصاص على من يرتكب القتل عمدا ثم خشيته من أن ينطبق على مرتكبي هذه الجرائم قوله تعالى:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخره عذاب عظيم}[المائدة]
وهذا كلام لم يرق لإبراهيم عيسى وحقه ألا يروق له.. وكيف يروق له وفيه الاحتكام إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! حيث قال بالحرف الواحد:(احنا عندنا حد الحرابة؟ أنت- يقصد الدكتور عباس شومان- بتتكلم في القانون ولا بتتكلم في الشريعة اللي انت عايز تعملها) وهذا كلام خطير؛ لأن ابراهيم يريد من خلال هذا الكلام أن يعلمن من المجتمع المسلم الذي يتفق بكل طوائفه (علماء وعامة) على أنهم مسلمون يحتكمون إلى كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونرد عليه فنقول نعم عندنا احد حرابه يقف في وجه المعتدين والطاغين والمفترين؛ حماية للمجتمع من شرورهم وكفا لعدوانهم ونعم عندنا الشريعة التي تعمدت أن تصفها بالإسلامية .فنحن نتكلم في الشريعة الإسلامية التي انجبت حد القصاص حياة للناس فقال تعالى:{ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} وهذه الشريعة من وضع أحكم الحاكمين ورب الأرباب تبارك وتعالى فهل يمكن أن يعتريها نقص أو يشوبها خلل، كبرت كلمة تخرج من أفواههم . وهذه الشريعة التي أراد رب العالمين تحكيمها وتطبيقها وليس فلان أو علان
أما القوانين الوضعية التي وضعها أناس راعوا فيها حق المجرم قبل أن يراعوا حق المعتدى عليه فهي لم تنجح على مدى عشرات السنين في أن تقلل من الجريمة، فضلا عن أن تقضي عليها.. ومع ذلك نصر على التمسك بها ومحادة الله تعالى بها على ما فيها من قصور.
والله المستعان على ما تصفون.