مقطع من رواية: قلوب مهاجرة.. أمي والصدمة والقرار والحب (2)
منى مصطفى | أديبة وروائية تربوية مصرية
أمي…!
ذلك المخلوق الذي لا يُشبهه شيء من المخلوقات، كانت امرأة حكيمة عاقلة، تَرضى بزوجها وتحاول إصلاحه، لا تَكترث كثيرًا لأفعال أبي معنا؛ إذ إنها تربَّت عند أب يُشبهه، فلم يكن الأمر عظيمًا عندها….، كل أَولوياتها ألا يَمَسَّ كرامتها المتمثلة في ألا يَقترب من امرأة أخرى، فقد كانت لا تحب أن تُكرر مأساة أمها (جدتي) التي عاشت تعاني من نيران الغيرة من تلميح جدي طيلة حياته بالرغبة في الزوجة الثانية، عاشت مُرهَقةً تُراقبه، تَسترضيه، بل تَمقُته أحيانًا إن أكثر من التهديد بهذه الفكرة، وتوفِّيت جدتي حبيسة هذا الوهم الذي لم يجعلها تَهنأ لحظة بحياتها، يُخيل إليّ أنه لو كان تزوج، لهدَأَتْ واستراحتْ من هذا الكابوس، فلا أشد حزنًا لقلب المرء من أن يعيش حبيس فكرة يكتشف خطأها بعد فوات العُمر…
ولكن جدي تزوج سريعًا بعد وفاة جدتي، وكانت أمي تحكي لنا مواقفَ من حياتها مع زوجة أبيها بعد موت جدتي، وكأنها من خوارق ألف ليلة وليلة…، لذلك كان إخلاص أبي لها يَكفيها، وتواجه شخصيته المزاجية بذكاء ودُرْبة نادرة، وكنت أسمعها دومًا تنصح أختي أمل التي تتوسطني أنا وأخي محمد الأكبر، عندما تتحدث إحدى الجارات خاطبةً أختي، أو مُعرِّضة بذلك، كانت تنصحها قائلةً:
إن رأيت زوجك جمرًا تحوَّلي إلى ماء بارد، وإن صار شوكًا كوني له وردة فوَّاحة، تَحنو عليه وتُذهِلُه بعبيرها عن شوكه…..
تبادرها أمل قائلة: لا ماما، لا بد أن يُحسن معاملتي وإن كان لي جمرًا سأكون إعصارًا….،تضحك أمي وتحتضنها وتقول:هذا التلفاز، ما أفسده علينا! وتَمزَحان وتَمرَحان بما يملأ البيت بهجةً تزيل الجفاء والخوف الذي يغرسه أبي في البيت؛ ليثمر التزامًا وطاعة في غيابه كحضوره؛ إذ كان قليل الجلوس في البيت…
مرَّت حياتنا على هذه الحال، حتى تجاوزتُ الخامسة عشرة من عمري، نعيش في بيتٍ متماسكٍ يُغذِّي فيه أبي الجسد، ويُحكِم القبضة، وتُغذي فيه أمي الرُّوح، وتَرسِم الضحكة…
كان محمد أخي قدوتي، غير أني كنت أجرأ منه نوعًا ما، وكانت أمل أُمًّا لي بعد أمي، وكانت مرِحة، مثقفة، قوية الشخصية، تفوقني أنا وأخي في ذلك؛ حيث كان والدي رغم قسوته يَلين معها حينًا؛ مما يبعث في نفسها ثقةً تُعينها على المواجهة….
كانت حياتي هادئة، أَرسِم خُطواتي كرِفاقي؛ نُريد الدراسة، اللعب، المرح، القوة، الظهور، نريد الحب، نريد أن نَصيح في الفضاء، قائلين: إننا كَبِرنا، انظُروا إلينا…، وإذا نصحنا أحد وقعت كلماته على التراب قبل أن تتلقفها آذاننا، فلا نخضع لتوجيه أحد، ونُصِرُّ على أن نكون القادة، وأهل الرأي، نسخر من أنفسنا أحيانًا، ونضحك كل الأحايين، وخاصة على ردود أفعال الآباء تِجاه حماقاتنا، وكنت أترقَّب رَدَّ فِعل كل أبٍ، ولا أترقَّب ردَّ فِعل أبي، لم يكن أحدٌيستطيع أن يتوقعه، فلم أكن أستطيع إظهار هذه الحماقات التي يعتبرها الجميع – حتى أمي – من طبيعة العمر والمرحلة، وأنها دليل النمو الطبيعي…، إلا أبي لا يجب أن يرى إلا ما يحب، ولا يسمع عنا إلا ما يجعله فخورًا مَزهوًّا أمام رِفاقه الذين يجتمعون ويمارسون الصداقة على طريقتهم….
حيث كانوا كل أسبوع يقضون ليلة في بيت أحدهم، ولكثرة عددهم الذي يصل إلى عشرة أشخاص أحيانًا، كان يأتي دورنا كل شهرين تقريبًا، وكنا نستعد له قبلها بأسبوعين أو أكثر؛ حيث تبدأ أمي في تحديد نوعية العشاء، وما تحتاجه من ميزانية ومأكولات، وكان أبي أكرمهم في تصوُّري، عرَفت ذلك من كثرة الثناء الذي يَحظى به منهم، واعتذارهم عن تقصيرهم، في تصوري أنهم ككل أرباب العوائل، يُقدمون بيتهم وأولادهم على كل شيء، إلا أبي فنفسُه وسيرتُه بين الناس أولًا، ثم الآخرون، وقد يكون مَرَدُّ ذلك أنه كان وحيد أبويه، ربما، فلم يعرف إلا أن يكون محور اهتمام كل مَن حوله، كما كان دائمًا محور حياة والديه..، كانوا يتبادلون السمر في مجالات شتَّى: (سياسة وأدب، ونساء، ومخدرات أحيانًا)، وكان منهم الحكيم، المثقف، المستمع، الخطيب، الرويبضة، المتدين….
دامت صداقتهم سنوات، فقد كان اجتماعهم أشبه بجلسة على مقهى أدبي أو سياسي، تختلط فيه الآراء والأحلام والذكريات، وأنفاس التبغ والسيجار والقهوة…، ودامت حياتنا على هذه الحال، حتى عَلِمت أمي أن ابنة أحد هؤلاء الأصدقاء طُلِّقت، فحزِنت كثيرًا وتعاطفت معها، وظلت تتَّخذ من تجربتها مِدادًا لنُصح أمل أختي وتوعيتها؛ حيث إنها كادت تنهي المرحلة الثانوية، وهذا في عُرف أبي إيذانٌ بخِطْبَتِها…، ثم لاحظت أمي أن موعد السهرة في بيتنا بدأ يتباعد ويَكثُر لدى عايش (أبو رانيا ) تلك المطلقة، فكانت تَمزَح مع أبي: ما هذا الكرم الذي نزل فجأة على عايش أبي رانيا؟! أيَستضيفكم على نفقة ابنته؟ أم يريد تزويجها لأحدكم؟
يرد أبي: لا تظلمي الرجل، تعرفين معاناته مع زوجته الكسولة، فكان يتحرج من تَكرار سهرنا عنده، أما الآن فابنتُه رانيا موجودة، ويريد أن يشغلها عن أزمة طلاقها، ويشغلها عن أحزانها، فقد كادت تموت كما تعلمين…
فترد أمي: أَنْبِهْ محسنًا وغانمًا بصفتهما عَزَبين في مجموعتكم، وحتمًا سيُخطط لتزويجها من أحدهم، فيرفض أبي تصديق هذا، ويرفض التعليق كذلك، ويكتفي بنظرات مُعاتِبة، وكنت أُتابع حديثهما أحيانًا وأنا أذاكر، أو أكون نائمًا في غرفة أمي لتَأْنَس بي؛ حيث يعود أبي في تلك الليلة بعد صلاة الفجر بالمسجد مع رفاقه، ثم ينصرف كل واحد منهم إلى بيته…
أنهيت الشهادة الإعدادية بمجموع كبير يسمح لي بالالتحاق بالمدرسة الثانوية ثم الجامعة، وكانت فرحة كبيرة لأبي، وكم أظهر لي تودُّدًا وسعادة في هذا اليوم، فاقت سعادته بنجاح أمل في الثانوية قبل ذلك، حتى تمنَّيت لو أني الأول على المنطقة كلها، لأحصل منه على مزيد من الحب والاهتمام، وقد قرر إكرامي بأن يُقيم عشاءً كبيرًا في بيتنا، واشترى لي هَدية طالَما حَلَمْتُ بها، وهي بندقية صيد كنت أَحببتها من خلال الأفلام الأجنبية التي يحبها أخي محمد، ويضطرني لمشاهدتها معه؛ حيث كنت أكرهها في البداية، ثم أحببتها لجمال المناظر الطبيعة والمغامرة فيها، ولأن الكبار فقط هم الذين يشاهدونها…!
وأَهدى لأمي هدية وقدَّمها لها أمامنا جميعًا، مع كلمات شكر لم تَعهَدْها ولم يَعهَدْها أحدٌ قائلًا: أحسنتِ التربية يا صفية، دخل محمد الحقوق، وأمل كلية الآداب، وها هو باسل ثلاث سنوات فقط، ويَلحَق بهم، لكني أريده طبيبًا أو مهندسًا، ثم يقول لي: لا مجال لأن تدخل القسم الأدبي كإخوتك، فلتجتهد من الآن،أنت فرصتي الأخيرة لتحقيق هذا الحلم، والتفت لأمي قائلًا لها مازحًا: وإلاَّ فَلْتُنْجِبي لي طفلًا آخَرَ يُحقق لي هذا الحلم…!
تَضحَك أمي، ونضحك جميعًا كأننا نشاهد فيلمًا سنيمائيًّا، يريد كل منا أن يَصفَعَه مَنْ بجانبه؛ ليستيقن هل هو في حُلمٍ أو حقيقة؟ هل هذا أبي أو رجل يُشبهه دخل علينا خطأً…، بدأت أُراقب أمي وهي تتحسَّس هَديتها؛ إذ كانت عباءة من المخمل الفخم، وخاتَمًا من الذهب الملوَّن، وعطرًا تحبه، تتلمسها وتَحتضنها وتقول:كم أُحبك يا مرزوق! كم أُحبك! ليتك هادئ هكذا دومًا، ليتك تقترب منا، وتقلل من دائرتك الاجتماعية الزائدة هذه التي تشاركنا فيك، ثم ترفع يدها إلى السماء وتدعو لي: (يا رب، يسعدك يا باسل كما أسعدتنا، وتُحقق لأبيك حُلمه يا رب …)، وأصبح هذا حُلمها… أُحقق حلم أبي بالطب أو الهندسة…، ثم جاء الأهل والجيران للعشاء على شرف نجاحي، وامتلأ البيت سعادةً وفرحةً، خالتي تساعد أمي في المطبخ، جارتنا تُعد المشروبات، أمل تُنسق الفواكه، محمد يَجمع المقاعد، ويُعد الجلسات الأرضية، وكلما ناداه أحد نظر إليّ مرددًا بغيظٍ:
مبارك يا دكتور، تذكَّر أني نجحت في الثانوية وليست الإعدادية، ولم يقل لي أبي حتى كلمة (مبارك)؛ لأني دخلت القسم الأدبي، أما حضرتك فالمطيع المجتهد،كلنا في الخدمة يا دكتور، ثم يهمس في أُذني: (سأَذبحك بعد انتهاء هذه السهرة)، فأضحك وأرفع صوت الكاسيت على أغنية عبد الحليم: الناجح يرفع إيده…!
فيبتسم مرات ويلكمني أخرى… ويقول: ـ سنرى مَن سيصبح دكتورًا فينا، فأرد عليه بهدوء: طبعًا أنت! ،فالحقوق أصبحت تُخرِّج أطباءَ على عهدك لا محامين.
يرد علي: سآخذ دكتوراه يا جاهل في القانون، أضحك وأعتبرهمجنونًا؛ لأني لم أكن أَفهَم ما معنى أن يسمى دكتورًا وهو لم يتخرَّج في الطب!
نُفيق من هذا الحوار على صوت زغاريد تُطلقها إحدىالضيوف عند دخولها وهي قادمة محملة بالسكر والعصائر والمعجنات…! وكأنها بالزغرودة تقول: احملوا عني ما أتيتُ لكم به…
انتهت الحفلة على أفضل وجه ممكن، وكانت أمي متألقة كأنها عروس، وتذيع بين الحاضرات قصة العباءة المخملية، وخاتم الذهب الملون، والعطر، وكيف أنني سأصبح دكتورًا أو مهندسًا! وتَرمُق أبي شوقًا في غَدوته ورَوْحته، وكأنهما متحابان لم يَجمعهما بيتٌ حتى الآن…
كان الجميع في حالة من إشراقة الروح، ورغبة في استطعام السعادة في غفلة من الزمن، إلا سيدة واحدة كانت تجلس مهمومة، تواري وجهها من أمي؛ كي لا تَلمَح دمعها…
فسَّرتُذلك أن ابنها لم يحصل على مجموع جيد مثلي، وأنه سيدخل دراسة فنية غالبًا، لا تؤدي به للجامعة ـ إن لم يجتهد ـ فأُشفِق عليها مرة، وأغتاظ منها أخرى!، وفي الصباح قصصتُ لأمي قصة جارتنا التي لم تكن سعيدة بنجاحي، وأنه يجب على أمي ألا تجعلها من المقربات إليها، فكيف أن أمي تحبها كثيرًا وهي تغار مني بهذه الطريقة؟!
قالت:لا يا حبيبي، إن خالتك أم يزيد من أخلص الناس وأحبهم لي، وتعتبر أولادي أولادها، أكيد هناك شيء آخر يُحزنها، حسنًا أنك أخبرتني؛ لأذهب إليها، وأطمئن عليها…!
مضى النهار وخالتي وابنتها عندنا تساعدان أمي في إعادة البيت إلى روائه، ثم انصرفتا ومعهما أمي؛ لتطمئن على جارتنا أم يزيد، وأنا وأمل نجلس في الشرفة نتبادل أخبار الأمس، وموقف أبي الذي لا أحد يستطيع تصديقه من البيت كله، ما عدا خالتي فكانت مبهورة به، وكثيرًا ما أسمعُها تُوبِّخ أمي كلما خلت بها، وتقول لها: أنت دومًا ظالمة لمرزوق، فهو رجل كريم، اجتماعي، يحب أولاده، وأنت تَتشكين من قسوته، أنت تجحدين النعم، صَنعتِ منه فرعونًا في عين أبنائه، لتُحْكمي قَبضتك عليهم، ستندمين يومًا على ما فعلتِ، سيطرت عليهم بِعَصا أَسميتِها الأب، فأصبحوا يخافونه أكثر مما يَهابونه، ويُطيعونه ولا يحبونه، تعالي وعيشي مع زوجي يومين فقط، ستكرهين الدنيا…!
تضحك أمي وتقول لها: ربما…!
ولكني أرى زوجك من أفضل الناس عقلًا واعتدالًا، غير أنه بخيل نوعًا ما، لكنه لا يَعيبه شيء آخر.
تغضب خالتي وتقول: الرجل البخيل رجلٌ ميت في عين المرأة، فهو عند النساء يساوي المرأة الدميمة في عين الرجال…!
تنظر لها أمي بعطف وتقول: العوض من ربِّ العالمين، غدًا أولادك يُعوِّضون لك ما تَأمُلينه…
أما محمد فكان نائمًا؛ لأنه لم يَنَمْ أمس حتى الصباح، وحرَصتُ أن أنام قبل أن يَستيقظ هو، ويستمر في توبيخي على فعل أبي؛ حيث ضغط عليه في تنظيم المكان والإشراف على كل ما يلزم حفل العشاء على أكمل وجه…
الصدمة:
استيقظتُ في صباح اليوم الثاني وذهبتُ لأَتحسَّس أمي في المطبخ أو في غرفتها، فلم أجدها، نظرت في الساعة فقد تعدَّت موعد خروج أبي من البيت لعمله، فكرت أين هي، أتكون ذهبت للسوق؟
لا أظن…!
بحثت عنها فوجدتها تجلس في الشرفة في زاوية لا يراها أحد، والدموع تملأ وجهها، عيناها حمراوان كأنهما الدم، تبدو كأنها ترجف وتلف قدميها بالعباءة المخملية! تعجبت كيف هذا؟! إنها كانت تحتضن هذه العباءة بكل شوق وكأنها تُفرغ فيها شوقًا ملأ قلبها، لماذا تدوسها بقدميها الآن؟!
نظرتُ إلى يدها فلم أرَ الخاتم، قلت ببراءة الأطفال: أكيد أبي أخذه منها، فأزماته المادية لا تنتهي، ولكن أيأخذه بهذه السرعة؟!
قررت بيني وبين نفسي قبل أن أُشعرها بوجودي أن أشتري لها خاتمًا أفضل وأجمل منه، ثم ذهبت إليها متجاهلًا منظرها، وطلبت منها فطورًا؛ حيث إني نمت مبكرًا وأشعر بالجوع…! لم تَرُدَّ عليّ، كأنها في عالم آخر لا تسمع ولا ترى ولا تتحرك…!
انتقلت أمي لغرفتها ولم تُعِد لي طعامًا، فكأنها لم تسمعني، ولا يهمني ذلك، فما يهمني الآن هو ماذا بها؟! ماذا يغضبها؟!
جلست حائرًا حزينًا، أترقَّب استيقاظ محمد أو أمل؛ لأقص عليهما ما حدث، دون فائدة، بكيت لحال أمي، ثم جلست أدعو لها بقلب بليغ ولسان عيّ: يا رب، لا تُحزن أمي؛ فهي تحبنا، وتخاف علينا، يا رب فرِّح قلبها، وحقِّق لها أُمنياتها، يا رب قدِّر لي أن أشتري لها خاتمًا أفضل مما أخذه أبي…
كم كانت أحلامي صغيرة نقية تدور كلها حول إسعاد أمي، وكأنها كانت وحدها مدار الكوكب الذي كانت هي شمسه، فإن أشرقت أشرق في قلبي الكون كله…!
وبعد ذلك تسللت لحجرتها؛ لأنظر لها، فوجدت الخاتم بجوار المرآة، ففرِحت وكدت أُوقظها؛ كي تفرح، لكني تراجعت حزينًا.
يا إلهي! إنه هنا، إذًا هناك شيء آخر يُحزن أمي…، لا بد أن أُوقظ أمل…!
أحطنا جميعًا بأمي؛ حيث أتت خالتي سعاد أخت أمي، وخالتي أم يزيد جارتنا، وكأنهما يعرفان ما بأمي.
جلستُ أبكي فأمي لم تستيقظ، أمي لم تأكل، لا تتكلم، هل ستموت؟، وإذا بي أصرخ صرخة حسبتها هزَّت السماء مرددًا: لا، إلا أنت يا أمي، لا تموتي!
يا ربِ، خُذ من عمري وأعطِها، ثم قفزت من حضن أمل إلى صدر أمي، ولا أعلم إن كانت تراني أو تشعر بي أم لا؟
وظللت أنتحب، والجميع في محاولة لإبعادي دون جدوى، لم أقم إلا على صوت الطبيب الذي أتى به محمد؛ ليُجري فحصًا لأمي، ويعرف ما سبب الغيبوبة التي أصابتها فجأة!
قال الدكتور: مجرد صدمة عصبية أثَّرت على نشاط القلب، سنعمل اللازم، والزموا المكوث جوارها يومًا، إن لم تتحسن فسننقلها إلى المشفى.
لا تقلقوا، امنعوا الزيارة ولا تُعرضوها لأي ضغط نفسي، وانتهى من كتابة الوصفة، قفزت لأنادي أبي يدفع حساب الطبيب، فانتبهت أنه غير موجود…!
أمل تُظهر التماسك، كأنها تريد أن تستغني عن وجود خالتي، ومحمد مرتبك لا يعلم كيف يتصرف، يحبس دموعه عنّا ولكنه يَئِنُّ، فجأة اختفى أبي، وأُقعدت أمي، يا ألله!
في اليوم التالي لهذه الأحداث، استيقظتُ مبكرًا؛ لأستطيع الجلوس مع إخوتي دون حضور خالتي، فتوجهتُ إلى غرفة أمل، فإذا بها تدعو وتبكي وتسب أحيانًا، ثم انتهت وأخذتني في حضنها، وذهبنا لنوقظ محمدًا، فوجدناه انتهى من الصلاة، كلنا يجهل أسباب ما يحدث إلا محمد، وجدناه فجأة يصيح قائلًا:أمس أخبرتني الخالة أم زياد أن أبيكم تزوَّج من رانيا، ابنة صديقه العم عايش، وأنه ترك أمي شهرًا؛ لتستوعب الصدمة، وهو لا يريد الطلاق، بل متمسك بأمي، ولكن هذا الزواج حقه، وأمي عليها القبول…!، قبل أن ينتهي من حديثه، وجدنا أمل تتساقط أمامنا، حاولنا بث الصبر في نفسها، ولكن دون فائدة، تَولَّتْها خالتي سعاد بعد ذلك!
أما أنا فمذهولٌ، لا أكاد أُدرك تلك المعاني، أبي تزوَّج؟!
متمسك بأمي!
لا يريد الطلاق!
ذهب شهرًا مع عروسه! عروسه!
هل أبي صغير؟!، هل أقام عرسًا وارتدى بِذْلة جديدة…؟!
وبقيت أتخيل أبي وهو ببِذْلة عُرسه، ورابطة عُنقه الحمراء، ثم أنظر لأمي وهي ملقاة بين الحياة والموت، فتسيل أَدمُعي وأَذهَل عن واقعي، أترقَّب خلوَ عليها الغرفة، وأتسلل وأضع رأسي على صدرها، فأسمع نبضها؛ ليَنبِضَ قلبي بنبضها، ثم أُقبلها، أشْتَمُّ رائحة يدها، وأنصرف قبل أن يراني محمد أو خالتي، أما أمل فكانت تُشفق علي، وتتركني أَرقُد بجوارها، وما زال عقلي يتساءل:هل لأبي بيت ثانٍ؟، فلم أكن أعرف هذه المعاني، ولا كيف تُطَبق على أرض الواقع، كل ما استوعبته لاحقًا أن الحفل الذي أقامه لم يكن لنجاحي، بل لاسترضاء أمي قبل أن يصدمها بخبر زواجه، وأن الخاتم والعباءة المخملية كانتا تعويذة لأمي لم تنفعا أبدًا، والعطر الذي تمنَّت أن تَعبَق به خَلوتهما، صار زكامًا يصدها عن أريج الحياة!
القرار:
تعافت أمي بعد عدة أسابيع، وقررت هجر البيت، بل البلد قاطبةً قبل عودة أبي؛ حيث قارب غيابُه شهرين ….
لا أعرف أين تريد الذهاب، ولا أين نسكن، كل ما أعرفه أنني لن أترك أمي أبدًا.
حاول محمد إقناعها بالبقاء، لكن دون جدوى، كانت حازمة جدًّا، وأمَرت أمرين، ولا مجال للإخلال بواحد منهما، وهما:
ألاَّ يعرف أحدٌ أبدًا قرارها.
وألا يسألها أحد: أين سنذهب؟
والتزمنا بما أرادت، وظلت ثلاثة أيام كانت تخرج صباحًا وتعود عصرًا، والرحيل كان في فجر اليوم الرابع.
خلال تلك الأيام حجزت تذاكر قطار، وباعت شيئًا من حُليِّها..،خرجنا قُبيل الفجر نحمل الضروري من ملابسنا فقط، وركبنا القطار المتوجه إلى الإسماعيلية، وأنا منبهر بالمغامرة أحيانًا، متفائل، خائف، لا أعلم…، مشاعر مضطربة، لكني فرِحٌ أنني ملتصق بأمي، أما محمد فغير راغب في هذا كله.
أمل فقط خائفة على صحة أمي وحياتها…، نتابع ضجيج القطار، وجوه الناس، قصصهم، صوت الباعة، التدافع على الأبواب، طلاب الجامعات الذين بدؤوايدخلون القطار مع الصباح، أحاديثهم، حواراتهم وتعليقاتهم، ألوانهم الزاهية، كأننا في عيدٍ، كل شيء حولنا مبهر بالنسبة لي، قاتم وصادم لمحمد ولأمي.
أمي صامتة، تأمر بعينيها، بل تضرب بهما أحيانًا، أو تَصعَق بهما كذلك إن أغضبها أحد!، توقف القطار، ونزلنا المحطة الأخيرة، فوجدنا أمي حائرة، تتركنا قليلًا، وتذهب تسأل موظفي المحطة، ولا أعرف عن ماذا، يتبعها محمد صامتًا رافضًا، وينتظر أوامرها.
بعد ذلك وصلنا إلى قرية صغيرة تَبعُد عن محطة القطار قرابة نصف الساعة، فسألتْ أمي عن أحد سكانها وزوجه، وهو العم سيد وزوجه الخالة هانم، وصلنا لهم فرحَّبوا بنا، وإذا بهما من بائعي المانجو الذين كانوا يأتون لبيع المانجو بالمصايف في الإسكندرية عندنا، وكانت أمي تُكرمهم وتَسمح لهم بالبقاء في الدور الأرضي في بيتنا أيامًا، حتى تَنفَدَ بضاعتهم، ولم تكن ترضى أن تأخذ مقابلًا لذلك، فهو مكان مهجور، وقليلًا ما نستخدمه مخزنًا، فكانوا دومًا يقولون لها: لا بد أن تزورينا يا أم محمد لنكرمك، فنحن نمتلك بستان مانجو من بضعة أفدنة، وبيت كبير، ومن أهل الكرم مثلك، ولكن نسعى لرزقنا ونبيع المانجو بأنفسنا؛ حتى لا يَبخَسنا التُّجار، فاللذَّة في الزراعة أن ترعاها بنفسك كابنك، وتحصدها، وتُسلمها لمن يَطعَمُها، متباهيًا أن هذا نتاج يديك بتوفيق الله..!
رحَّبوا بنا وخَلَتْ أمي بالخالة هانم والعم سيد، وأوضحت لهما شيئًا من أمرنا، بعدها خصَّصوا غرفة لأمي وأمل، وذهبت أنا ومحمد مع علي في غرفته الذي كان يَكبُرني بأشهر قلائل.
أتَمَّ محمد في سرية تامة عن أهلنا – حسب تعليمات الوالدة – إجراءات نقله ونقل أمل من جامعة الإسكندرية إلى جامعة الإسماعيلية، وقدمت أمي لي مع عليّ في المدرسة الثانوية، فقد أصبح رفيقي وصديقي، وكان محبًّا للكرة، وحبَّبها إليّ، حتى أصبحنا نجوم القرية فيها، ومرت الحياة على هذه الحال، غير أن أمي خلال شهر قد استأجرت لنا دارًا صغيرة كان أصحابها يستخدمونها مخزنًا للحبوب بجوار دار العم سيد، وانتقلنا إليها، وأتت لنا بأثاث بسيط بعضه تبرع به سكان القرية، وبعضه اشترته…
مرَّ عامان ووصلت إلى الثانوية العامة، وتخرج أخي في الحقوق، وأمل تبقَّى لها عام على التخرج في كلية التربية، وأمي تنفق علينا من كسبها؛ حيث بدأت تبيع لأهل القرية الصابون والمنظفات التي تخلطها بنفسها؛ لتوفر لنفسها كسبًا، وكذلك المواد التموينية وما أشْبَه، فكل ما يطلبه الناس تأتي به وتبيعه بربح قليل، وضع الله فيه البركة، وكان رأس مالها مما تبقَّى معها من حُلِيٍّ…
تعرَّفت إلى كل بيوت القرية، وكانوا يشهدون لنا بالأدب، وحسن الخلق، أصبحتُ ظلاًّ لعليّ، ندرس معًا، ونلعب معًا، وكثيرًا ما ننام معًا؛ حيث أترك بيتنا وأذاكر معه حتى ننام، تغضب أمي أحيانًا، وتسكت أحيانًا، كان العم سيد والخالة هانم هم أهلنا في القرية، فلو جاء خاطب لأمل، يذهب لهم أولًا…
لم يكن يُنغص عليّ حياتي غير دمعات أمي التي تَذْرِفها خُفْيَةً عنا، وقلبها المكلوم، ونفسها الضيقة، وكلما ضاق عليها الحال وشعرت باليأس، ردَّدت:لم يكن هناك حل آخر، أأذهب إلى زوجة أبي الكهل الكارهة لي؟ أم أعيش مع ضَرَّتي مقهورة، ثم تَزفِر زَفَرَات يحترق لها القلب…
عشنا راضين قانعين، لم نُعانِ كثيرًا من انخفاض مستوى المعيشة؛ لأن غالب أهل القرية كانوا على حالنا أو أقل إلا بعض الأثرياء من ملاك الأراضي، أقامت أمي علاقات ناجحة مع الجميع، فهذه تأتي لنا بجَرَّة من حليب كلما ولَدت بقرتُها، وتلك تُجاملنا بعسل من نحل حديقتها، وثالثة تقول: الحقل وما فيه حلالك يا أم محمد، أقسمت عليك أن يكون طَهْوك مما يجود الله به علينا من مزروعات الحقل، في المقابل كانت أمي تَصْدُقُهم النُّصحَ، وتُصلح ذات بينهم، وتبيع لهم ما يحتاجون بدفع مؤجَّل…، اعتدنا الحياة أنا وأمل، إلا أمي لم تعتد شعورها بغدر زوجها، وغيظها من أبيها الذي سبق زوجها إلى هذا الفعل…، ظلت الغيرة تَنهَشها، والألم يَجثِم على صدرها ليلًا أو في وَحْدتها، كنا نرى عندما نعود من مدارسنا دموعها، وحيرة قلبها، ومع ذلك لم تشكُ أبدًا، وما علم أحد عن أمرنا شيئًا إلا العم سيد، ورغم حكمتها الشديدة وخبرتها بالحياة، فإنه لا حكمة لدى المرأة إن تعلَّق الأمر بامرأة أخرى تدخل حياة زوجها، فهنا تصبح السيادة للرعونة فقط!
أما محمد فلم يعتد الوضع أبدًا، بل يرى أن أمي تسرعت، وأنه لولا أنه الرجل الوحيد معنا، ما استجاب لرغبة أمي، بل الأدهى من ذلك أن دراسته للحقوق جعلته ينجذب للشريعة وكتبها، ويبرِّر لأمي التعدد، وأنه لا بأس منه، وكان على أمي أن تنتظر وتترقب حال أبي، فإن التزم العدل لا بأس من استمرار الحياة، وهذا بالطبع كان يزيد أمي غيظًا منه، إلا أن فطرتها الدينية كانت تُسلِّم بالأمر، وكأنه كان يتدرب عليها، فيبدأ مرافعته لإقناع مكثرًا لها من الاستشهاد بأقوال العلماء وسيّر الصالحين، ولا يهدأ إلا إذا سلَّمت له، فلا تجد حجة إلا عاطفتها وكراهيتها لزوجة أبيها، وإن استطرد كثيرًا بما يلوِّح لها برغبته في العودة، تلجأ ( للفيتو)، وهو تهديده بغضبها عليه، وتخويفه من العقوق وغيره، فيبتعد عن مجرد التلويح لرغبته، ويؤجل الأمر حتى أنتهي من الثانوية.
كانت أمي مهتمة بتعليمي، وتَحرِص على أن أكون أفضل من محمد وأمل؛ حتى لا تكون فشِلت في تربيتها، ومحمد وأمل كانا يدعمان ذلك الاهتمام حبًّا لي، وحرصًا على مستقبلي، فكان محمد يمارس بعض الأعمال في مكتب محام، ويحصل على مكافآت متفاوتة خصَّصها لدروسي الخصوصية في المواد التي أَستصعبها، كنت أحاول الاجتهاد وأرفض كثرة الدروس؛ إشفاقًا عليهم، ومرت الأيام وأنا كما أنا أعيش سعيدًا راضيًا مَشدوهًا بكل جديد يصادفني في الحياة، غير عابئ أين أعيش، كل ما يهمني (مع مَن أعيش)، أَحببت الكرة حبًّا كبيرًا ملَك عليَّ أيَّ فراغ يعيشه أترابي – ماديًّا كان أم معنويًّا – شُهرتي في اللعب منحتني ثقة في نفسي، وجعلتني أكتسب نوعًا من الذكاء الاجتماعي، مبتعدًا عن الارتباك الذي كنت أشعره في قرب أبي…
وكنت كلما أحرزت هدفًا، وحملني رفاقي على أعناقهم – لا أرى إلا صورة أبي أمام عيني، أَوَدُّ أن يراني، أريده أن يعيش شعوري، أسأل نفسي: تُرى أكان يشجعني ويفرح بي، أم كان سيمنعني خوفًا على دراستي؟ أتخيَّله مرات راضيًا يُصفق لي مع الناس، ومرات غاضبًا يُربكني ويجعلني أتوارى من أمام عينيه، ويبقى السؤال الْمُلِحُّ على ذهني يتردَّد صداه: هل أبي كان قاسيًا فعلًا، أو أن أمي جعلته سوطًا تُربينا به، كما كانت تتهمها خالتي سعاد؟ ينتهي حديث نفسي هذا في كل مرة بأن يحل محله صورة علياء (حمراء الوجنتين)، وأردِّد في نفسي:( حتمًاستصلها أحداث المباراة، وكيف كنت مميزًا).
الحُب:
في إحدى حصص الدروس الخصوصية، رأيت تلك العلياء…، فتاة تغار الشمس من إشراقة وجهها، ويَطرَب النسيم إن مرَّ على خديها، ذات ذهن مُتَّقد، ورجاحة عقل نادرة، تتفوق علينا جميعًا في نقاشها وحوارها مع المعلم…، قد كان المعلم لديه ظروف خاصة، فدمج المجموعات التي يدرسها لفترة مؤقتة، كانت هذه الفترة هي بداية معرفتي بها…، بدأت أشعر بمشاعر غريبة تجاهها.
لم أكن جرَّبت بعدُ ما يُسميه الشباب بالحب، بل كنت أعد هذا من قلة التربية، واللهو والعبث، وما توقَّعت أنَّ ما أشعر به هو ذلك الحب المزعوم الذي لا حديثَ للشباب إلا عنه، هل يمكن أن أُسمي تلك اللذة القلبية والقُشَعْرِيرة التي تسري في بدني عند قربها حبًّا، لم أهتم للمسمى كثيرًا، لكني بِتُّ أترقَّبها، أسعَد برؤيتها، يضيق صدري إن تأخرتْ، أحب المواد التي تحبها، عرَفت بيتها، وقد كان مختلفًا عن بيوت القرية كلها، كان يبدو قصرًا شامخًا إلى جوار بيوت القرية، تُحيطه الأشجار وتكعيبة العنب والياسمين، له ثلاثة طوابق، به حديقة أمامية وأخرى خلفية …
أصبح بيتها وشارعها أحبَّ إليّ من رياض عامرة وقصر مَشيد، كلمامررت من أمام بيتها، تَمنَّيت لو بقِيت في ظله؛ كي لا أفارق أصداء جمالهارأيتها مرة شاحبة حزينة، لم يَغمَض لي جَفنٌ، حتى علِمتُ لاحقًا من أُمِّ علي أنها كانت مريضة، أصبحت أجلس مع خالتي أم علي أكثر من أمي؛ لأَستدرجها في الحديث،فسيرة المحبوب نضارة للقلب!، أما علياء فلا تنظر لأحد، ولا تعرف أحدًا، وقد رميتُها في نفسي بالغرور والتكبر أحيانًا، أو عِزة النفس أحايينَ كثيرة، وبدأت أَرْقُبها وأتتبَّعها، فطيفها أصبح يسكنني، فيرسم ابتسامة وادعة على وجهي، ويملأ عيني ببريق الحب! وصدى صوتها يَجول في أنحاء نفسي فيرمم ما تشقق منها، تعلَّقتُ بها حدَّ الجنون، أصبحتْ رفيقة صمتي ولَهْوي، فلو ارتكبتُ شيئًا من حماقات الشباب، تراجعت سريعًا مستشعرًا أنها تراني، وكيف لا تراني ومسكنها قلبي، وإن دخلت مباراة أتقنتُ كل حركة غريبة تُمتع أهل القرية؛ ليَصِلَها الخبر…، عند هذا الحد أيقنت أن قُطيرات الحب مسَّت قلبي، وأينعت وُريقاته في زوايا نفسي، فقد ملَكَت عليائي عليّ كلَّ تفكيري، نظرةٌ إليها تُسعدني، وإعراض منها يَقتلني، قربها يصيبني بقُشَعْريرة خاصة، قُشَعْريرة لست أدري من شأن كُنهها شيئًا أهي لفرحٍ أم لجزعٍ!
كتمت أمري فترة من الزمن، ثم ضاق صدري عن سري، ،فصارحت عليًّا بمشاعري وندِمت بعدها؛ إذ حمل الأمر محمل السخرية، وأخذه مادة للتندُّر، فلم يقدِّر مشاعري؛ لأنه كل يوم يُعجَب بواحدة ويَهيم بها، حتى تُفاجئه أخرى أجمل…، كانوا يُسمونني الحكيم الذي لا يفعل أفعال الصِّبيان كما كنت أُسميها، لم يكف عليّ عن كلامه وسُخْفه، حتى غضِبت وخرَجت من عنده مقاطعًا له…!
لاحظتْ أمي وأخي محمد تغيرًا في حالي مع علي، وأن هناك شيئًا ما وقع بيننا، لم تعطِ أمي الأمر حيزًا من تفكيرها، مجرد صبيان يختلفون ويعودون، هذا انطباعها، أما محمد فذهب لعليّ وأخذ يستدرجه عن سبب الفجوة التي وقعت بيني وبينه، فقال له عليٌّ ما دار بيننا من حديث، واستحلفه ألا يُخبرني، وأنه يجب أن يعرف لينصحني، خاصة أن اهتمامي بالدراسة قد قلَّ…!
تقبَّل محمد الخبر بابتسامة وهدوء غير متوقع، كما أخبرني عليٌّ بعد ذلك، ولم يُعلق إلا بهذه الابتسامة وترك عليًّا وذهب، ظل محمد صامتًا يتحيَّن الفرصة ليختلي بي، وأنا غير مهتم؛ لأن غالب وقته كان مشغولًا، ولم نكن نتقابل كثيرًا، فيومه من المحكمة إلى مكتب المحاماة، وأنا من المدرسة إلى الدروس الخصوصية، حتى جاء يوم عطلة في ذكرى وطنية، وحاول محمد إسعادنا، فذهب واشترى فواكه وأشياء للتسلِيَة، وبخورًا كانت أمي تحبه … أعاد لنا ذكرى أبي، وبقينا بين واقع قصير يشبه الماضي الطويل الجميل، حتى جاء المساء، وكانت ليلةً ليلاءَ، كانت ليلة مست فيها هموم الحياة شَغاف قلبي، علِمت بعدها سرَّ صمت أمي، ودافع التحجر الذي يعلو ملامح محمد، والسكون الذي أصاب ماء الحياة في وجه أمل، بعد أن كان دافقًا بالسعادة دومًا، فقد تحوَّل من نهر دافق إلى غدير راكد.
علِمت ما في قلوبهم، وأصبحت مثلهم … تجمَّد ماء الحياة في وجهي، سَرتْ في جسدي قُشَعريرة الموت والهمِّ، وشتَّانَ شتَّانَ بينها وبين قُشعريرة الحب تلك…، بعد صلاة العشاء طلب محمد من أمل إعداد شاي لنا جميعًا، وأن تحضر التسالي الذي اشتراها اليوم، قائلًا: منذ زمن لم نجلس معًا، وكذلك سأغيب عنكم يومين في مهمة لمكتب المحاماة الذي أعمل به، أخذنا بعض الوقت في مرح وتبادل أحاديث الودِّ والآمال، ولكن شعرت بأن كلاًّ منا يمهِّد لشيء حزين بداخله يريد أن يَبوح به…
قطع محمد هذا الخاطر لدي بقوله: يا أمي، بقيت أسابيع قليلة وتتخرج أمل، وباسل كذلك سيتخرج من الثانوية، أنا قررت عدم البقاء هنا، إنما جئت معك حرصًا على إرضائك، وحفاظًا على عِرضي، وتقديرًا لمشاعرك، ولكن هذه ليست قريتنا، وهؤلاء ليسوا أهلنا، ولسنا منهم وليسوا منا، لا مجال للبقاء أكثر من ذلك، سنعود للإسكندرية، ليس هناك خيار آخر أمامي، ولن أترككم مهما كانت الظروف، صمتت أمي ولم تعلِّق، بل نظرت إلى أمل التي لَمَعت عيناها قائلة:أبي حبيبي، كم أشتاق إليه، لقد ذهب أُنسي بفِراقه، كنت لا أره إلا عصبيًّا عنيدًا، ولكن بعدما فقدته، وعشت بعيدًا عنه، علِمت أنه كان الأمان والحنان، علمت أن وضع الفتاة رأسها على كتف أبيها – ولو للحظة – هو السعادة الوحيدة، وأن هذه اللحظة هي العمر كله، وإن قلَّ تَكرارها ..!
بفراق أبي أحسست أنني غير مجتمعة الإنسانيةولا الأنوثة، عليَّ أن أكون رجلًا في بُعد أبي؛ لأنه لا ساعد أقف خلفه، ولا زَندًا أستريح عليه، ثلاث سنوات مرت وأنا أعيش ولا أعيش، بلا أب أعيش بنصف قلب، بنصف أمان، بنصف بطن ونصف أمل، نعم فقدت اكتمالي بفِقدانك يا أبي، ثم صرخَتْ وانكفأتْ على قدم أمي تُقبلها معتذرة عما قالت، ولكنها مشاعرها، فكيف يعتذر الإنسان عن لحظة بوح تصدر عن قلب صادق مكلوم، يُحاصره الحنين وتضرب الغربة أسوارها العالية حوله؟!كيف يعتذر عن مشاعر اختلطت بدمائه وكِيانه؟!، رفعت أمي رأس أمل واحتضنتها، ولم تجد ما تغسل به وجه أمل لتهدأ إلا دموعها…، تماسك محمد وظل في مكانه ينظر إلي، وأنا أحاول إخفاء دموعي، ولكني لم أستطع إخفاء اختناقي الذي أعجَزني عن أي ردّ، فالتفت إلي قائلًا:ألست معي يا باسل أننا في هذه القرية نُعد غرباء؟، ألا تؤيدني في فكرة أننا مواطنون من الدرجة الثانية، بل العاشرة، مقارنةً ببعض سكان القرية؟ أتدري ماذا يسموننا؟ يقولون علينا: (بيت بائعة الصابون)، وإن تأدبوا قالوا: (بيت المستأجرين)، فكل إنسان هنا يسكن بيته، ومعروف أصله، ومتواصل مع أقاربه، وله وزنه الاجتماعي من جهة أصله وعائلته، أو من جهة ثرائه وأطيانه…، حسبُنا أنه لا يوجد أحد يستأجر بيتًا في القرية كلها غيرنا، فأطلقوا علينا اسم: (المستأجرين)!، فليس لنا الحق هنا في أن نُحب أو نقيم علاقات اجتماعية متكافئة، ثم أعرض عن النظر في عيني وقال: أنت لست كفئًا لها، لا تتعلق بالمستحيل، فمعايير القلوب غير معايير الأطيان…، ضع همَّك في دراستك، فلا خيار أمامك، لا بد من الحصول على مجموع يؤهلك للجامعة، وكليات القمة، فإن لم يكن وفاءً لأبيك، فحرصًا على ألا نُتَّهمَ أنا وأمي بالتقصير معك، هل قصَّرنا يا باسل؟، عجَزت عن الرد، قمتُ، فعانقته، وأكملت قلوبنا الحوار …!
في هذه اللحظة فقط علِمت كم هو حجم اشتياقي لأبي، وزال عني شعور المغامرة بالحياة الجديدة، وكأنني في فيلم أجنبي مما كنت أشاهده مع أخي، ولست في واقع ملموس يقيِّمني الناس فيه، علِمت في هذه اللحظة فقط لماذا تحجر وجه محمد، ولماذا جف ماء الحياة في وجه أمل، بل تحوَّلتُ مثلهم، انحصرت حياتي في غرفتي مع الكتاب فقط، حتى الدروس الخصوصية تركتها، وغبت عن المدرسة إلا في القليل النادر؛ حتى لا يتم فصلي، وكأن الحياة كلها غابت عن أَوْرِدتي إلا في لحظات قليلة، كان يمر عليّ فيها طيف علياء…، علياء التي أصبحت جنتي وناري، أوقاتًا أجتهد في دراستي لأكون مثلها، بل متفوقًا عليها، ومرات أزهد في الدنيا وما فيها، وأجد صوتًا يردد في أعماقي كلمة محمد: (معايير القلوب غير معايير الأطيان) ( كلمة الأطيان يقصد بها كثرة الأراضي = الثراء )