ازْرعُوا الحُبَّ… (قصة قصيرة)

فاطمة محمود سعدالله | تونس

اِصطفَّ التلاميذُ أمامَ قسْمهم .. ووقف المعلّمُ خلفهم كما كانوا يفعلون كلّ صباح عند تحيّة العَلَم..وما إن انتهتْ فقراتُ الإذاعة المد رسيّة حتى تقاطر التلاميذُ مع مدرّسيهم إلى صفوفهم.

          كان السيّد سالم من المعلّمين الذين شَهِدوا افتتاحَ هذه المدرسة ..يعرف كل شيء

يرصد حركة :أخْفتِ نأمةٍ أو زمجرة صرير أي نافذة صفقتها الريح فجأة..ما زالت أذناه تخزنان قرع المطارق والجنازير في الطابق العلوي أثناء الأشغال.

وهاهو اليوم على وشك الإحالة على شرف المهنة ولكنه مازال ينضحُ عطاء وينبض شغفا بالأطفال  وتأطيرهم وتوجيههم ..هو  يؤمنُ بأنّ المعرفة  ممارسةٌ وسلوكٌ و ليْستْ  معلوماتٍ معلّبةً  في قوالبَ جاهزة وقرارات تُمْلأُ بها الأدمغة.

      دخل التلاميذُ إلى القسم واستقرّ كلّ واحد منهم في مكانه المعتاد والسيّد سالم يرافقهم بنظراته الحانية وابتسامته الأبوية… كان متعودا على الانطلاق في درسه من  حدث ما أو جملة نطقها أحد التلاميذ ولو سهوا أو خبر شدّ الاهتمام أو ظاهرة انتشرت في المجتمع إلى غير ذلك من المنطلقات التي يتكئ  عليها السيد سالم في دروسه ليضمن التشويق  والمشاركة الجماعيّة ،ثم يربطها بالهدف الذي يرمي إلى تحقيقه من ذلك الدرس في تلك الحصة.

ما إن استقر الأطفال في مقاعدهم ورفعوا أبصارهم إلى السبورة حتى رأوْا جملة رُسِمتْ بخطّ عربيٍّ بالغ الإتقان والتفنن في تشكيل زواياه وتوزيع تعرجاته بأسلوب لافتٍ..جملة واحدة تربّعت في قلب السبورة وصارت قنديلا سحريا يشد الأنظار  وأيقونة  نورانيّة تخطف الألبابَ..

ــــــ وِئامُ..اِقرئي الجُملةَ المكتوبةَ على السبورة يا بنيّتي، قال المعلمُ

ــــــ ازْرَعُوا الحُبَّ … سيّدي،ردّت في تلعثم وجلست وقد احمرت وجنتاها خجلا.

ابتسم المعلّم إشفاقا ولم يعلّقْ.واصل تحفيز التلاميذ ودفع عجلة الدرس  إلى الأمام.فقال:

ـــــ  من يكملُ هذه الجملةَ  الطلبية  بجواب ملائمٍ  يا أبنائي؟

رفع عاطفٌ  إصبعه مستأذنا في الإجابة،لكنه لم ينتظر السماحَ له بذلك فقال مزدردا ريقه:

ــــ عندما نزرعُ الحَبَّ سيّدي تشبعُ العصافيرُ ،ارتجّ الصفُّ ضحكًا فعاطف معروفٌ بالتّسرّعِ والشرود لكنْ هذه المرة كان في إجابته بعْضُ الطرافة..

       ردَّ المعلّمُ بعْد  أن هدّأ موْجةَ الضحك، ركّزْ عند القراءة يا عاطف الحُبُّ بالضمّ وليس الحبَّ بالفتح ..لا تتسرّع وفكر قبل الإجابة يا بنىَ..قال عاطف  في شبْه شرود : نسيتُ  نظاراتي هذا الصباحَ فلم أرَ جيّداً الكتابة..آسف..

لا بأسَ ..لا بأسَ طمأنه السيد سالم بكلّ رحابة صدر.

      هناكَ في آخر مقعدٍ من  القسمِ تتكدّسُ تهاني متكئة على النافذة ..نصف نائمة ..نصف يقظة كعادتها في الحصص الصباحية ..جسمها البدين يملأ المقعد ويكاد يفيض على جنباته..مما كان يزعجُ مَن يجالسها مِن التلاميذ فيتركون لها المقعد وحدها..إذّاك تجد راحتها وكثيرا ماتكون بين إغْفاءتيْن..

وقف المعلّمُ قربها  وخاطبها قائلا:

ـــ ابنتنا  تهاني اليوم ستنضُو عباءةَ الكسل الثقيلة وتقهره   بكل اقتدار..سنضفر منها بإجابةٍ شافيةٍ تثلج صدورنا ،وواصل ملاطفتها أو بالأحرى إيقاظها بنبرة الأب  الحنون: أليس كذلك بنيّتي؟

اعْتدلتْ تهاني في وقْفتها المائلة دائما وأدارت وجْهها المكتنز نحو أقرانها تستحثّهم بنظراتها الزائغة المستنجدة  لإنقاذها من هذا المأزق..

قرأت جملة الانطلاق..دققت النظر وأعادت القراءة..سحبت نفسا طويلا ..أعادت   القراءة مرة أخرى ،نظرت إلى معلمها  شبه باكية ..تأتأتْ سيّدى ..لم أفهم ،كيف نضع الحُبَّ في التربة؟ هل هو قمْحٌ؟ وظلت واقفة تترقّبُ..لم ينفجر التلاميذ ضحكا هذه المرة وإنما انتظروا ردة فعل معلمهم  هل سيستشيطُ  غضبا؟ هل سيشدّ تهاني من أذنها وينعتها بالغبيّة..الكلّ كان متحفّزا لسماع الردّ..وتهاني تقفُ كالمحكوم في القفص ،متهيّبة وجلة..

لا شيْء من ذلك حدث..مسح السيد سالم على رأسها وقال :سؤالك يعني أنك مستيْقظة ،واصلي الانتباه وستقتنصين الإجابة..اجلسي بوركتِ..

      بادر أحدُ التلاميذ برفع إصبعه ليشارك في هذه المحاورة التنشيطية لعقول هؤلاء الصغار فاقترح ما يلي:

ـــ نزرعُ الحُبَّ فيصبح كلّ التلاميذ أصدقاء سيدي..تقدّم السيد سالم من هذا التلميذ وقال:

ــــ المجتمع يا بنيّ ليس هؤلاء التلاميذ فقط .المجتمع بكلّ أفراده والتفت إلى بقية التلاميذ وقال : لقد أحسن صديقكم باختيار ” الصداقة” جوابا للطلب فعلا هي ثمرة لزراعة الحب بين الناس . واصل التجول بين المقاعد وهو يقول بدأنا نقترب ..من لديه اقتراحٌ آخرُ؟

       رائد، تلميذ مشاكس لكنه محبوب لخفة ظله وطيبته واستعداده الدائم لتقديم المساعدة لأقرانه، يكون القسم  بغيابه  راكدا..منقوصا فهو المحرّك الذي يضخُّ الحصص بهجة لذلك يسميه  بعضُ أصدقائه” قاهرَ الملل”..

توجّه إليه المعلّم عندما رآه رافعًا إصبعه وقال:

ــــ هيّا يا رائد، لم نسمعْ صوتك على غير العادة ،هذا الصباح،فردّ دون تردّدٍ:

ــــ  تجْنُوا  “السلامَ” سيدي، إذا كان الحُبُّ بذْرة زرعْناها  بيْننا فإنّ موْسمَ  الجنْيِ سيمْنحنا السلامَ والأمنَ قِطافًا يانعا .صفّق كلّ التلاميذ وسرى الاستبشارُ في وجوههم يمنحها تلألُؤًا وحيويّةً، انحنى يحيّى أقرانه كما لوكان خطيبا على الركحِ..ثم ساد الهدوء..

      عاد السيّد سالم من جولته بيْن المقاعد  إلى مكتبه ووقف أمام السبورة والتفت إلى التلاميذ  وقال لتكتملَ الجمْلةُ نضيفُ إليها  جواب رائد:

   ” ازْرعُوُا  الحُبَّ تجْنُوا السلامَ”.ثم أردف يقولُ :

السّلامُ يا أطفالي هو أنْ يسود  الوئامُ والتوادُدُ بيْن الأفراد و المجتمعاتِ فلا بغْضاء ولا عُنْف ولا عُدْوان ..فبالحبّ يا أبنائي نطفئُ سوْرةَ الحروبِ  والقتْل والدمار فتنمو بذْرةُ الإخاء وتسودُ حضارةُ البناء والتعمير ..السّلْمُ هي ألا يفكّر القويُّ في الاعتداء على الضعيف أو الإساءة إليه وألا يحسّ الضعيفُ بالحقد تجاه القويِّ أو الخوفِ منه ..السلامُ يا أطفالي هو حبّ وإخاء وعطاء ونبْذٌ للعنف والضغائن،ومتى زُرِعتْ هذه المشاعرُ  ستسودُ السلمُ المجتمعاتِ ويعمُّ الرخاءُ ..سيختفي الخوفُ والعدوانُ فلا قتْلَ ولا تهجيرَ ولا اغتصابَ للحقوق والحرياتِ ..مجتمعاتنا في حاجة إلى نكران الذاتِ وتعميم الأمان ..لا تنْسَوْا ذلك أحبّائي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى