مشاهدات بسيسو في معرض فلسطين الدولي للكتاب
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
مساحات صغيرة في معرض الكتاب عابرة للضباب كحزم ضوء مكثف، كأنها الخارطة.. يعد معرض فلسطين الدولي للكتاب من المناسبات الدورية والضرورية والهامة أيضاً للاحتفاء بالكتاب والإبداع المرتبط بصناعة الكتاب في فلسطين وذلك ضمن سياق وطني، يحفز على وضع الفعل الثقافي في سياقه الوطني العام كفعل مقاومة …
كثيرة هي المشاهدات التي يمكن تأملها في هذا الفضاء المعد للحوار والتفاعل والنقاش الممتد
يمكن رؤية بعض النماذج التي شكلت مدخلاً لقراءة فسيفساء المشهد …
١- عودة فاروق وادي إلى منازل القلب …
إصدار دار المتوسط لصاحبها الصديق الشاعر والفنان خالد الناصري آخر أعمال فاروق وادي الروائية،”سوداد: هاوية الغزالة” ومشاركة الكتاب ضمن إصدارات الدار، كان رسالة بالغة التأثير من فلسطين وصلت إلى فاروق وادي قبل رحيله منذ عدة أيام في البرتغال، وكأن المجاز أراد أن يتحقق في فعل عودة مكثفة لفاروق وادي بإصدار طبعة فلسطينية من روايته الأحدث والأخيرة لتشارك في معرض الكتاب.
أتأمل الغلاف قبل أن أشرع في قراءة العمل الذي يغوص في روح ودلالات التاريخ والمكان لأرى فاروق وادي ينهض من سرير الغياب ليعود إلى مهد ميلاده وهو يكتب عن رام الله – البيرة …
عودة متكاملة الأبعاد الرمزية، كان ينقصها عودة الجسد الذي رحل قبل أيام في البرتغال، وكأن فاروق وادي أراد أن يلخص عمق المأساة الفلسطينية بالكلمة والجسد والروح التي لم تغادر فلسطين طوال مسيرته الإبداعية.
تذكر شهد وادي ابنة فاروق وادي عن آخر رغباته قبل الرحيل في أن يكتب …
كان هذا فاروق وادي الذي لم يكف عن التفكير في الكتابة حتى اللحظة الأخيرة …
وأعترف أنني كنت من بين هؤلاء الذين كانوا ينتظرون أعماله الإبداعية بشغف كبير لما تحمله من قيم فنية ووطنية وانسانية تلامس الوجدان …
كتب فاروق وادي “منازل القلب” عن رام الله والبيرة قبل حوالي ٢٥ عاماً في كتاب من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر وها هو اليوم يعود كما نراه مشبعاً بالحياة إلى منازل القلب في صدورنا النابضة بالحب والتقدير …
٢- ماجدة حوراني أو زاوية رمان التي تتسع لثقافات العالم …
تقدم الصديقة ماجدة حوراني صيغة جديدة لتعليم الصغار من خلال إصدار معجم لغوي ملون بلغات عدة، يحمل ملامح فلسطين ويخاطب ثقافات العالم …
وجدتني جالساً في جناح هذه المبادرة التي تقدمها ماجدة باسم “رمان”، أعيد ترتيب المفردات في رأسي كمن يتعلم مجدداً كيف تصهر فلسطين الوجع لتصنع منه دليلاً آخر على وجود حر، رغم كل أشكال الحصار، يجعلنا أمام خيارات إبداعية رائدة وقابلة لأن تكون فعل تواصل فعال بين فلسطين وشعوب العالم التعريف بالمبادرة وجعلها متاحة على نطاق أوسع في فلسطين من خلال المدارس والمؤسسات الثقافية، يساهم في دعم هذه المبادرة التي أطلقتها ماجدة حوراني مع ريشة المبدع عبد الله قواريق.
٣- شيرين: الحاضرة في الشهادة …
الإصرار على الذاكرة فعل مقاومة، وبهذا فإن مؤسسة الدراسات الفلسطينية تؤكد حضورها ببعض من إرثها ونتاجها البحثي الهام في المشهد الفلسطيني التاريخي والمعاصر وفي كتاب جديد أيضاً بعنوان “استشهاد شيرين أبو عاقلة: سجل توثيقي” تقديم وتحرير الصديق خالد فراج.
يطل الكتاب على زوار وزائرات معرض الكتاب من على أرفف وطاولة العرض أمام جناح المؤسسة بكل ثقة وإصرار على تذكر ضد النسيان …
ودددت لو أن حضور شيرين أبو عاقلة تجاوز غلاف كتاب في جناح المؤسسة واتخذ مساحة أكثر اتساعاً في الفضاء الثقافي التفاعلي …
٤- الكتب العربية مرايا الهوية …
حضور دار خطوط وظلال من الأردن ساهم في خلق جو تفاعلي في معرض الكتاب حيث قدمت الدار اقتراحات فنية ومعرفية مهمة لجهة الاهتمام بالترجمة وفنون العمارة والسينما والمسرح، إضافة إلى فنون الأدب ضمن باقة من ثرية من أسماء المبدعين والمبدعات حول العالم.
كذلك وفر حضور منشورات الرافدين فضاء ثرياً من الكتب الأدبية والمترجمة …
وكذلك منشورات ممدوح عدوان وتكوين القيمة والتي برزت في جناح دار طباق الذي اتسم بأناقة ملحوظة خلال أيام المعرض …
وددت لو أن منشورات الجمل كانت حاضرة في المعرض ضمن أفقها الممتد عبر سنوات طويلة من الخبرة والنشر …
٥- محمود شقير: المشرق في كل وقت …
وجود الكاتب الكبير محمود شقير في معرض الكتاب لتوقيع كتبه الصادرة حديثاً عن كل من دار طباق في رام الله ومكتبة كل شيء في حيفا ومؤسسة تامر للتعليم المجتمعي …
يقدم أبلغ الدروس في معنى الإبداع والإرادة والوفاء حيث يوثق محمود شقير ضمن مزيج إبداعي مميز يعبر فيه مساحات الأجيال والأزمنة سيرة كل من القائد الوطني الكبير فؤاد نصار عن مكتبة كل شيء في حيفا والفنان القدير اسماعيل شموط وزوجته المبدعة تمام الأكحل في “بيت من ألوان” عن دار طباق وسيرة المبدع الكبير الشهيد غسان كنفاني للفتيات والفتيان عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
٦- نقاش مع رمزي الطويل حول “كابتن صامد” …
في جناح دار الرقمية يواصل رمزي الطويل الحفر الإبداعي في مجال الكوميكس وألعاب الأطفال الفنية بصورة مميزة وشغف فني لم يفتر منذ سنوات، بل على العكس يزداد توهجاً في الحديث عن إمكانيات تحفيز الاهتمام بفن الكوميكس فلسطينياً، شخصية البطل الخارق “كابتن صامد” التي ابتكرها رمزي الطويل ما زالت تواصل معركة إثبات الوجود في مواجهة “صبرا” شخصية البطلة الاسرائيلية الخارقة التي ابتكرتها ستوديوهات مارفيل في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعدها لفيلم جديد يؤهلها لدخول أسواق عالمية جديدة …
الاستماع إلى رمزي الطويل والحديث عن “كابتن صامد” يحيلنا إلى روح لا تعرف الهزيمة
رمزي الطويل كان أصدر قبل عام كتاباً مهماً بعنوان “الببلوماسية” وهو مصطلح منحوت من مصطلح العلاقات الشعبية الدبلوماسية Public Diplomacy في العلاقات الدولية
كتاب يستحق القراءة من إصدارات الرقمية.
٧- الأطفال واليافعين والكتابة الإبداعية …
حضور المؤسسات ودور النشر التي تهتم بأدب الطفل وأدب اليافعين سمة من سمات الاهتمام الثقافي بأهمية بناء الشخصية من أجل المستقبل، وقد يبدو هذا مدخلاً ملائماً للإشارة إلى دور مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي وأنشطتها الثقافية والمجتمعية للأطفال وكذلك دور ورشة فلسطين للكتابة في مزج التجارب الإبداعية ضمن مزيج من الفعل الخلاق والريادي في مجال الاهتمام بثقافة الطفل واليافعين في فلسطين ومنحهم منصة للتعبير عن ملامحهم المتشكلة من وقائع الثقافة والحياة اليومية …
٨- حيفا الحضور الدائم في الذاكرة وجغرافيا المكان …
ضمن المساحة المعدة لمنشورات الناشر في فلسطين تبرز إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ولعل أحدث إصدارات المركز “حيفا في الذاكرة أحياء وبيوت وناس” لروضة غنايم، الكتاب الذي
قبل عدة سنوات كان المؤرخ د.جوني منصور قد أصدر كتاباً شيقا عن حيفا بعنوان “حيفا الكلمة التي صارت مدينة” عن دار ناشرون وكنت قد قدمت الكتاب وحاورت المؤلف في أمسية ثقافية في متحف محمود درويش وكان الحوار مع الصديق جوني منصور مشبعاً بتفاصيل المكان الذي لم يغادر موقعه الأثير في الذاكرة والفعل الثقافي.
٩- غزة: نبض ألوان يستحق الاهتمام …
قبيل اختتام معرض الكتاب بيومين تم افتتاح معرض فني بعنوان “مائة لوحة من غزة” لعدد من الفنانين والفنانات المقيمين في غزة، كان من المهم رؤية أعمال للعديد من الأصدقاء الذين واصلوا فعل الإبداع رغم كل الظروف التي
وددت لو أن المعرض حظي باهتمام أكبر وشكّل مدخلاً لنقاش فني حول طبيعة الحركة الفنية في قطاع غزة في ظل كل الظروف التي يمر القطاع، غير أن عرض اللوحات المتواضع بدا وكأنه منح إطلالة اللون قوة إضافية وتحدياً أكبر في الإعلان عن حق الفن في غزة أن يكون حاضراً بشكل ينسجم مع عمق وثراء الحالة الإبداعية والفنية في هذا الجزء من الوطن …
١٠- صورة متخيلة لحيدر عبد الشافي يصافح إدوارد سعيد في اليوم الأخير من معرض الكتاب …
يصادف اليوم الأخير من معرض فلسطين الدولي للكتاب الذكرى ١٥ لرحيل القائد الوطني الكبير د. حيدر عبد الشافي الحاضر دوماً رغم مختلف أشكال الغياب …
وددت لو كان هناك مساحة في المعرض لتذكر قامة وطنية قدمت الكثير بإنجازاتها المجتمعية والسياسية وحافظت على حضور مشرق وخاص في وعي الأجيال الفلسطينية … خصوصاً أن مركز د. حيدر عبد الشافي للثقافة والتنمية في غزة بإدارة الصديق محسن أبو رمضان يواصل مسيرة العمل ضمن فسيفساء الفعل المجتمعي الوطني في فلسطين.
في ذات السياق كان الأستاذ نعمان فيصل قد أصدر في عام ٢٠١٨ كتاباً توثيقياً عن حياة الراحل الكبير بعنوان” د. حيدر عبد الشافي: الرجل والقضية”، ربما يكون الكتاب الأشمل منذ صدوره عن حياة ونضال د. حيدر عبد الشافي.
في ذكرى رحيل حيدر عبد الشافي وضمن استمرار العلاقة المتواصلة مع التاريخ والذاكرة تصنع المخيلة صورة متخيلة للقاء حيدر عبد الشافي بإدوارد سعيد في القدس ويبتسمان لمصور أراد توثيق لحظة مؤثرة تجمع بين روح المبادرة والفعل النقدي الوطني الثري بدلالاته بعيداً عن الثرثرة والإنشاء البلاغي المكرر …
أقول هذا لأن غداً ٢٥ أيلول الذكرى ١٩ لرحيل المفكر الكبير إدوارد سعيد.