التشكيلية لينا الناصري تروي ذاكرة الرافدين
بقلم وعدسة: زياد جيوسي
لينا الناصري فنانة تشكيلية مبدعة من العراق الشقيق، عرفتها منذ أعوام حين كنت التقيها في معارض الفن التشكيلي أثناء تواجدي في عمَّان عاصمة أردننا الجميل، لفت نظري اهتمامها الدائم بريشتها بتراث العراق وتوثيق تاريخه باللوحة واللون، وحين وجهت لي الفنانة الدعوة لزيارة محترفها وافقت فورا، ولكن هذه الزيارة تعطلت عدة سنوات بسبب سفري المستمر وفترة الكوفيد التي أبعدتني عن عمَّان قرابة عام كامل، وحين عدت لم يكن بالامكان زيارة أحد إلا ما ندر، حتى كانت زيارتي لمحترف الفنانة في بدايات شهر ت 2 للعام الفائت والتي غادرت الأردن بعدها لحوالي ستة شهور متواصلة، وفي زيارتي فوجئت من لحظة دخولي المحترف حتى لحظة مغادرتي أنني في متحف ضم اللوحات والأزياء والقطع التراثية أكثر من وجودي في محترف للوحات التشكيلية.
الفنانة لينا الناصري تستحق بجدارة صفة أنها ابنة المدرسة التشكيلية العراقية، فهذه المدرسة تعود بجذورها للتاريخ القديم وإن تفاوت نهوضها وانتكاسها حسب الفترات التي حكمت العراق، حتى بدأت النهضة الحقيقية مع بدايات القرن الماضي بظهور فنانين مبدعين وابتعاث بعضهم للغرب لدراسة الفنون في بداية ثلاثينات القرن الماضي، ومن ثم تأسيس المعهد العراقي عام 1936م لتعليم الفنون كمؤسسة حكومية أخذت على عاتقها نشر وتطوير هذه الرسالة الحضارية، وهذه كانت الأسس بعد عودة دارسي الفن مع وجود المعهد للنهضة التشكيلية العراقية، فظهر الجماعات الفنية وبرز مجموعة من عظماء الفنانين الذين أسسوا المدرسة التشكيلة العراقية الحديثة، فتركوا بصماتهم على أجيال عديدة، فكانت الفنانة لينا الناصري حفيدة اولئك المبدعين وابنة المدرسة التشكيلية العراقية المعاصرة.
اللوحات الفنية التشكيلية تشد روحي أكثر من الابداعات الأخرى، فلفت نظري أن الفنانة تألقت في ثلاثة ابداعات من آفاق الفن التشكيلي: التراث والتاريخ والأسطورة، الواقعية الرمزية، الأمكنة، وفي كل مجموعة من هذه الآفاق شاهدت عدد من اللوحات تراوحت بعددها من بين سبع وخمسين لوحة شاهدتها في محترف الفنانة لينا، وكون العدد كبير فقد آثرت أن اختار بعض اللوحات لتعبر عن شقيقاتها في كل أفق من هذه الآفاق:
الأفق الأول/ التراث والتاريخ والأسطورة: وقد شاهدت اربعا وعشرين لوحة تروي بعض من ذاكرة العراق وحضارته وتاريخه، وقد اخترت منها ثلاث لوحات تعبر عن فكرة التراث والتاريخ في لوحات الفنانة، فالمجال لا يتسع لقراءة كل اللوحات..
أول هذه اللوحات لوحة تحمل إسم “حزن بغداد” وهي تربط الماضي منذ عهد سومر وأكد وبابل بالواقع الحالي، فاللوحة مثلت امرأة في وسط اللوحة تعبر عن بغداد حزينة متألمة على ضفاف النهر، رغم أن الفنانة رسمت الوجه بلا ملامح إلا العينين المغمضتين بحزن، وهذه رمزية في اللوحة فبغداد بعد الاحتلال أصبحت لا تتكلم ولا تتنفس، وعيناها مغمضة على الألم، لكنها تقف بشموخ وترتدي الثوب المرسوم عليه الرموز التراثية من قلب حضارات العراق منذ فجر التاريخ، والرسم على أربع طبقات متتالية وكل طبقة من الرموز لها مدلولات من الماضي وإسقاطه على الحاضر.
ولعل الرمزية تتجلى بشكل كبير بالطبقة العليا بالشخصية الأسطورية التي تحمل سلة مليئة بالجماجم، فالعراق فقد عشرات الألوف من البشر الذين فقدوا حياتهم منذ بدأت الحرب ضد العراق، إضافة للرمزية المستمدة من تاريخ العراق والأساطير في الطبقات الأخرى، ونلاحظ باللوحة أن قيام الفنانة بوضع أربعة طبقات فقط فوق بعضها على الثوب كانت مسألة رمزية لأربع مراحل مر بها العراق بشكل متتالي وهي: الحرب العراقية الايرانية، وحرب الخليج الأولى، والحصار على العراق، وحرب الخليج الثانية وما تلاها والتي جرى احتلال العراق خلالها وتدمير كل مقدراته وتشريد ملايين العراقيين في العالم اضافة لمن فقدوا حياتهم، وكل طبقة رمزية إن دققنا بها كانت تمثل اسقاط الاسطورة على واقع مرحلة من المراحل الأربعة التي مر بها العراق.
على الجهة اليسرى من جسد المرأة الذي مثل بغداد خاصة والعراق عامة نجد رمزية المرأة العراقية على طول الجسد، والرأس يقع بدقة وكأنه النهد الأيسر والذي يقع فوق القلب مباشرة، في رمزية واضحة أن المرأة العراقية ليست بعاقر وستنجب الأجيال التي تعيد للعراق مجده، فهي معطاء كما النهد وتنبض كما القلب، وعلى يمين اللوحة نجد البومة تقف على حامل تمتد منه رؤوس رمزية للأفاعي وهذا الرمز مرتبط بأسطورة سومرية تدور حول الشيطانة ليليت كما اسماها البابليون وإرش عند السومريين، والتي ارتبطت بالأسطورة بالدمار والخراب والتي كانت تضع البومة على كتفها وترافقها معها باستمرار، ومن هنا كان التشاؤم من طائر البوم عند الكثير من الشعوب، وليليت تضع أفعى ضخمة على عنقها، وكما ورد بالأسطورة فقد تمكن جلجامش من قلع شجرتها وطردها من أرض اورك بالعراق، وهنا في اللوحة لمن يقرأها جيدا يفهم فكرة الفنانة أن بغداد ستنهض من جديد وينهض العراق ويطرد كل المحتلين ويقتلعوهم كما اقتلع جلجامش الشيطانة ليليت، وعندها يشرق فجر الحرية الذي رمزت الفنانة له بالشمس الدائرية التي بدأت تشرق بالزاوية الأخرى من اللوحة.
ويلاحظ في اللوحة أيضا لجوء الفنانة الى الرمزية اللونية في التكوين اللوني، حيث نلاحظ الألوان شبه القاتمة في خلفية اللوحة حيث يتمازج اللون الأرجواني بالأسود برمزية للظلام والدم ومعبرا عن الواقع الذي يعيشه العراق، وهذا ما يلاحظ أيضا بلون النهر وكأن الفنانة تريد أن تعيد للذاكرة غزو المغول لبغداد وإلقاء الكتب والمكتبات في النهر حتى تغير لونه، بينما المرأة التي مثلت بغداد كانت باللون شبه الصحرواي وهو المعبر عن الأرض النقية التي تنتظر من يرويها لتعود خضراء من جديد.
ثاني لوحة تحمل إسم “حكايا التاريخ”: ومن اسمها نستدل على الفكرة التي هدفت لها الفنانة وتحليق روحها باللوحة، وفي هذه اللوحة نجد الفنانة لجأت لأسلوب التناظر بالشكل واللون في الرمزية المستخدمة، فنجد النهر بلون فاتح في الأسفل والأمواج تعلوه بقوة وهو يحمل قارب الفجر الجديد على شكل مصباح علاء الدين في التراث، وفي الأعلى أطراف السماء الزرقاء رمز الفجر القادم وإشراقة الشمس بدأت تظهر من خلف الأشجار والعتمة، وعلى يسار اللوحة بالنسبة للمشاهد وعلى يمينها تظهر أبنية تراثية، والملاحظ أن المبنى على اعلى اليمين يعتبر حديث نسبيا مقارنة بالآخر المرتبط بالتراث القديم، وهذا التناظر المكاني يشير لمراحل من تاريخ العراق وتراثه، بينما قلب اللوحة عبارة عن لوحة كبيرة على شكل بوابة ضخمة تحمل رموزا من التراث القديم في عهد سومر وبابل، وأعلاها رمزية الشمس والقمر والنجوم، إضافة لرمزية الأسد المجنح والآلهة في فكر العراق القديم ورموزها في الأساطير.
ويلاحظ أن ما يخرج من فوهة المصباح هو شبح أو روح امرأة وليس جني، وهذه رمزية لأرواح الجدات اللواتي رحلن ترفع يديها للخالق بالدعاء، وكما أسلوب الفنانة نجدها لا تظهر بالوجه أية ملامح سوى العينين لتعطي الفكرة العامة وليس الخاصة، وهنا نلاحظ أيضا أن الفنانة في التكوين اللوني العام لجأت للون الداكن في خلفية اللوحة وهي أشجار كثيفة فقدت لونها بحكم الاحتلال، بينما بدأت الأشجار تستعيد لونها مع ضياء الشمس وقرب الفجر، وقد استخدمت الفنانة التكوين اللوني بشكل جيد للتعبير عن فكرة اللوحة ورسالتها.
اللوحة الثالثة كانت تحمل عنوان “بساطا من كلمات” وهو من نص: “بساطاً من كلمات تكون الارض .. إليكِ أعني” للأستاذ الشاعر نصير الشيخ، ونحن سنجد أنفسنا أمام لوحة جميلة ومتميزة برمزيتها والرموز التي رسمتها ريشة الفنانة، واللوحة تقوم على ثلاثة رموز أساسية، بساط يحمل الرموز التاريخية والأسطورية منذ بداية الحضارة في العراق وهو أخذ مساحة ثلثي اللوحة، والعراق ممثل ببغداد التي رمزت لها الفنانة بشابة جميلة متطايرة الشعر المسدول، ووجه حزين لا تظهر به الا العينين بينما تختفي كما اسلوب الفنانة باقي الملامح مثل الفم والأنف برمزية اشرت لها سابقا، أن بغداد تحت الاحتلال فقدت الكلام والتنفس ولم يبقى الا الحزن والالم والعيون المغلقة الحالمة بالغد، وتنظر بألم الى البساط الذي مثل التاريخ والأرض وهو يداس بهمجية المحتل، والرمز الثالث هو الشمس تلتف حول الرأس بإشارة لفجر قادم، وقد اهتمت الفنانة بالتكوين اللوني ورمزيته فنرى البساط الذي مثل الأرض والتاريخ بلون الدم، بينما لباس الفتاة بلون الأرض ومتموج مثلها والسماء فقدت لونها الأزرق وغطاها الغبار.
وهذه اللوحات الثلاثة ليست أكثر من نماذج اخترتها من بين المجموعة، حيث نلاحظ في اللوحات الأخرى وهي واحد وعشرون لوحة مدى التزام الفنانة ببصمتها التي ميزتها وميزت ريشتها، فكل لوحة منها بشكل أو آخر استخدمت التراث والتاريخ والأسطورة، فكانت رمزيات الحضارات السومرية والبابلية والأكادية والأشورية والعربية الاسلامية حاضرة بأعمالها الفنية، وهو استخدام لم يأت عبثا بل نتج عن دراسة متعمقة لذلك التاريخ وتلك الأساطير وفهم للرمزيات.
الأفق الثاني/ الرمزية الواقعية: وقد حلقت روحي مع سبع وعشرون لوحة ومن ضمن هذه اللوحات كانت المرأة برمزيتها تتكرر في ثلاث وعشرين لوحة بينما اربعة لوحات رموز أخرى، وقد اخترت منها ثلاث لوحات رأيتها تمثل الفكرة التي تريدها الفنانة، وإن كانت كل لوحة من لوحات الفنانة تستحق قراءة منفردة وتفكيكية..
اللوحة الأولى تحت مسمى “نذر لعراقنا الغالي”: وهذه اللوحة مثلت العراق الحزين بما ألم به من خراب من بعد ازدهار وتقدم، وقد استخدمت الفنانة رمز المرأة العراقية التي ترتدي ثوبها الزاهي رغم حزنها وترتدي العباءة العراقية وتربط جديلتيها خلف ظهرها، وتحمل على رأسها وعاء منبسط تحمل عليه سبعة شموع مشتعلة ووردة حمراء وغصنها الأخضر، ويلاحظ لجوء الفنانة إلى رمزية التكوين اللوني في اللوحة بشكل خاص، فوجه ورقبة المرأة منقطة حتى قاربت شكل الأرض، وجديلتيها باللون البني وهو لون الأرض الزراعية، وخلفية اللوحة باللون الأزرق اللازوردي وهو يرتبط بالتراث العراقي للقباب والزخرفة من “السيراميك” وألوان الثوب تثير الفرح.
كما نجدها لجأت للرمز في اللوحة كما الأزهار على ألوان الثوب حيث “بغداد ترتدي حلة جميلة.. أغطية الشباب الجميلة”، والعصفور على كتف المرأة ينظر إلى وجهها ينتظر لحظة الاشراقة، وعدد الشموع السبعة بما يرمز له الرقم سبعة من رمزيات دينية وأسطورية وتفائل، والوردة حمراء بلون الدم برمزية أن الأخضر بالغصن والأوراق للوردة هو الخصب الذي ستتولد منه الثورة للحرية، والوجه عينان مغمضتان بسبب الألم؛ بدون الفم والأنف وقد اشرت سابقا لتكرار واعتماد هذا الرمز في لوحات الفنانة، فالنذر للعراق مرتبط بفجر الحرية القادم وغسل الأرض من الدنس وإعادة الطهر لها.
اللوحة الثانية وتحمل إسم “جفاف”: وكما اللوحة السابقة كانت المرأة العراقية هي قلب اللوحة وبؤرتها والرمز الأساسي لها بالعباءة التقليدية التي ترتديها، حيث نراها ترتدي ثوبا أزرق يمثل النهر والماء في الأسفل قبل جريمة التجفيف، والأفق الموشح بالأحمر والأصفر الذي يرمز للشمس المختفية خلف الغيوم في الأعلى، ونلاحظ أن أكمام الرداء من اللون الأزرق الغامق كما لون الخليج، وفي أسفل الرداء ثلاث نبتات تتجه للجفاف ومقدمات ثلاثة قوارب تجديف كما التي كانت تستخدم بنهري دجلة والفرات ومنطقة الأهوار، ونلاحظ هنا أن وجه المرأة مكتمل الملامح وليس كما الوجوه السابقة مع وشم تراثي على الذقن.
ونلاحظ نظرة الحزن والألم تغلب على الملامح مع شعر أشقر مموج باللون البني وكأنه مجرى النهرين دجلة والفرات، وفي الأسفل تشققات الأرض بسبب الجفاف بعد تقليل ضخ المياه بسبب السدود التي أقيمت في تركيا وقللت نسبة جريان الماء في النهرين الى درجة الجفاف، فأصبح العراق بين ظلام الليل والاحتلال وبين الجفاف، وقد تمكنت الفنانة من استخدام التكوين اللوني بمهارة، فقد كان اللون للثوب يرمز للوطن والماء والعطاء، والوشم يرمز للتراث، والشعر يرمز للجفاف في الرافدين، بينما خلفية اللوحة اعتمدت اللون الأحمر بالنصف السفلي برمزية للدم الذي انساب وروى الأرض ورمز للثورة القادمة، والنصف العلوي مازج بين الأحمر والأصفر برمزية للفجر القادم.
اللوحة الثالثة تحت عنوان “بغداد”: وهذه اللوحة مثلت بغداد برمزية واضحة وبسيطة، فالجزء الأسفل مازج بين المباني والنهر بحرفية كبيرة، فالسواد يعم بغداد والعتمة تظللها الا من بعض توشيحات بالأحمر ترمز للثورة التي تعتمل بداخلها، بينما الجزء العلوي مثل الأفق المعتم والذي بدأ الفجر يتداخل فيه، وفي السماء فتاة وكأنها ملاك تغمض عينيها وتنام على كفيها وتنثر شعرها وتهمس: “هل لي بليل سلام فأغفو على ثراك”، ووجهها أبيض ناصع وجميل وملامحها دقيقة فهي بغداد الحلم لبغداد التي تعاني.
الأفق الثالث/ الأمكنة: وقد شاهدت في محترف الفنانة اثنتي عشرة لوحة تناولت المكان بأشكال وأساليب مختلفة، فكانت هناك لوحات اعتمدت رمزية المكان، وهناك لوحات رسمت الأحياء بالمكان كالخيل في لوحة والماعز في لوحات أخرى، والأمكنة الحضرية في المدن والأمكنة البدوية في الصحراء وأطرافها، إضافة للوحات للأشخاص فهناك الشيخ الهرم وهناك الطفل الصغير، ومن هذه اللوحات اخترت ثلاث منها لايصال فكرة الأمكنة عند الفنانة..
اللوحة الأولى وعنوانها نواعير هيت: وهيت مدينة غرب مدينة الرمادي عاصمة الأنبار وتقع شمال نهر الفرات، وقد تم تصميم النواعير الناقلة للماء فيها قبل مئات السنين لتنقل الماء من الفرات إلى مجرى يمر في الأراضي الزراعية، ومن هنا وكون هذه النواعير بعض من تراث العراق وتاريخه التي أضيفت لقائمة التراث العالمي كان اهتمام الفنانة بها، فنجد اللوحة قد ظهر بها الفرات بشكل خلاب تنعكس عليه ظلال الأشجار، والناعورة الضخمة على يسار المشاهد حيث كانت تنقل الماء من النهر وتسكبه بالمجرى المائي خلفها، وفي أفق اللوحة ظهرت أشجار النخيل الشامخة وسماء صافية، في لوحة طبييعية جميلة لعل الفنانة رمزت بها أن العراق سيعود من جديد رمزاً للخصب والعطاء كما كان في الماضي قبل الحصار الإجرامي والغزوة الهمجية.
اللوحة الثانية وعنوانها أنام على وسادة الحلم: وقد أخذت العنوان من نص الشاعر نصير الشيخ والذي قال فيه: “أنام على وسادة الحلم.. وأصحو.. على وشايات المدن”، وقد كانت هذه اللوحة من ضمن عدة لوحات من مشروع مشترك تحت عنوان: ايقونات الشعر واللون، واللوحة من ثلاثة أقسام وهي المكان في النصف الأول حيث الأبنية الشامخة والأفق خلفها بلون الأرض ويقف على أعلى مبنى في وسط اللوحة غراب ينظر للأعلى وهو يفتح منقاريه وينعق، والغراب مرتبط بالذاكرة الشعبية بالخراب والموت، وقد ورد ذكره في الحضارات السومرية والبابلية أيضا فكان استخدامه باللوحة ربطا بالرمز بتلك الحضارات القديمة في تاريخ العراق، بينما نصف اللوحة العلوي هو السماء بزرقتها الجميلة، وعلى خط التقاء القسمين توجد فتاة جميلة ترتدي الأبيض وملامح وجهها ترمز لحلم آت، وشعرها ينقسم لونيا مع القسمين، فالقسم الأسفل من شعرها يتماوج بين البني والأصفر وكأنها شعلات من لهب، والأعلى بين الأبيض والأزق والأسود.
اللوحة الثالثة وعنوانها جسدي، رداءٌ من كلمات.. ثقبه الحنين: وهذه اللوحة تمثل الفتاة العراقية تحلق في الفضاء مع قوس قزح وترتدي ردائها بلون أحمر بالكامل، ولكن مع نقوش على حافة أسفل الثوب تزينه بحروف وكتابة مسمارية، وفي الأسفل منها بيوت عراقية تراثية تزينها الشناشيل، ومن استخدام رمزية قوس قزح نجد الرابط لدى الفنانة بين مباني العراق التراثية في اللوحة وبين الحضارة السومرية في تاريخ العراق، فقوس قزح ارتبط بقصة الفيضان المروية في الألواح السومرية ولاحقا البابلية مع اختلافات بينها، وأن قوس قزح كان وعد الآلهة التي تخصهم بعدم تكرار الفيضان، ومن هنا نجد أن رمز الفتاة المحلقة هو ربط العراق الحالي بما يعانيه من فيضان الدم ممثلا بلون الرداء الأحمر كلون الدم، مع تاريخ العراق مع أول حضارة مكتوبة تركت ألواح دونت الأحداث بالخط المسماري على الواح الطين المجفف قبل عدة الآف من الأعوام.
وهكذا نجد من خلال هذه الجولة فيما روته ريشة الفنانة لينا الناصري من ذاكرة الرافدين رمزيّ العراق الخصب، أن الفنانة في لوحاتها كانت ابنة العراق الزمان والمكان والتاريخ والحضارة، فهي مواليد بغداد 1971م ودرست الفن وحصلت على دبلوم تعليم فنون بدرجة امتياز، كون الموهبة رافقتها منذ الطفولة وعملت على صقلها بالدراسة والممارسة، كما حصلت على دبلوم تصميم أزياء من لندن، والفنانة عضو في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، ورابطة التشكليين الأردنيين، وجمعية ألوان للابداع الفني في الأردن وعدة هيئات أخرى، ولها حتى الآن خمسة معارض شخصية إضافة لعشرات المشاركات في معارض مشتركة في العديد من الدول، إضافة لاهتمامها الكبير بإحياء آثار ما بين النهرين.
وهذه التجربة الخصبة كانت من عوامل تألق الفنانة في لوحاتها وتجربتها وهذا ما نلاحظه في الجانب الوصفي العام والتحليلي والتفكيكي للوحات التي تحدثت عنها في هذه الدراسة الفنية، فهي خضعت لعوامل نفسية كثيرة عكستها بدلالات نفسية في لوحاتها متأثرة بما جرى للعراق الأشم من احتلال ومجازر وتدمير وتخريب وتشريد لشعبه، فهي ابنة بيئتها وجغرافية الوطن وتاريخه، ولذا نجد في لوحاتها العراق والألم والتاريخ والأسطورة والتراث والجغرافيا، ولذا استغلت فضاءات أعمالها الفنية بقدرة وتميز واحترافية فلم تترك فراغ بلا معنى، وكذلك من حيث تموضع الأشكال والرموز والتوازن بينها، فأبدعت بالتكوين اللوني وفهم الرمزية اللونية واستخدامها إضافة لمساقط الضوء على اللوحات، مستخدمة الألوان الزيتية “أكليرك” بشكل عام في لوحاتها على القماش المخصص “الكانفس”، فروت لنا حكاية العراق والرافدين بالريشة واللون من العصور المغرقة بالقدم حتى الواقع الحالي من خلال مجموعة من الأفكار والصور سواء البسيطة أو المركبة، والتي تصل بيسر إلى قلب وعقل القارئ والمتأمل للوحة.