لماذا الانحطام والفزع يلفان نصي فادي حسن و مروان عياش؟
سوران محمد | شاعر ومترجم وناقد
سيشارك الناقد الشاعر علمية الابداع بقراءاته النقدية حينما ينظر بعين الحياد الى کل النصوص دون الالتفات الی أسماء موءلفيها أو أي أعتبار آخر خارج النصوص، اضافة الى توفير عامل المعرفة النقدية و قوة الاستنباط لدى الناقد الذي يجعله متميزا بالدقة والصواب، فان كثرة النصوص الشعرية المتنوعة بحاجة الى عدد كاف من النقاد من هذا القبيل لغرض تشجيع النصوص الابتكارية والالتفاتة الى هذا العالم المليء بالجمال والتجدد والتنوع الابداعي.
قبل ان اخوض في لب العنوان أود أن أشير الى ملاحظة هامة حول طرق كتابة الشعر لدى الشعراء، اذ ان هنالك شعراء لايخططون لمقاطع نصوصهم مسبقا و لايتفكرون فيه قبل الشروع في الكتابة، خاصة مع ظهور حرکة المابعد الحداثوية غالبا ما يعتمد الشاعر على اللحظة الآنية لتدوين مشاعره و حالته النفسية دون تنسيق، لكن القول الفصل لتقيم نص ما و النظر في أبعاده الجمالية الشکلية و الابتكارية يأتي من منطلق بنية النصوص و أسلوبها، صحيح ان كثيرا من النصوص الشعرية المعاصرة تنبع من تجربة ذاتية و تغلبها نبرة وجدانية، وهذه السمة غالبا ما تجعل القاريء الحفيص يشعر من خلالها بمستوى النص و قيمته الشعرية و بناء عليه نتعرف على نوعية الرسالة الموجهة للنص ان کان له رسالة؛ هل هي موجهة الى الجماهير أم النخبة الشعرية؟ ثم ان الشاعر المتمكن يستطيع ان يجعل ذاتيته من خلال اسلوبه موضوعيا و اشراك القراء في تجربته و حالته التي تكمن في فکرة و تيمة النص.
ثم ان صور الشعر الابداعية تتشکل نفسها في عالم المجاز بواسطة الخيال لكن جزء منها مرتبطة بالواقع، ولو ان عنصرين من الخيال و عنصر من الواقع امتزجت فنيا ستتکون منها صورة مرکبة شعريا ستكون أقوى بنية و أعمق تصويرا – كما في صور نص ‘أنّات الليل’- والعكس صحيح؛ احيانا يجتمع عنصر واحد من کليهما (الواقع والخيال)، أو عنصران من احداهما، لكن كثرة الصور الشعرية في نص واحد دون تنسيق في الدلالة أو الفکرة والمضمون ستضعف و تقلل من قيمته الشعرية، لکنها في نفس الوقت تعتبر السلاح الفتاك للأطاحة بالسطحية و التقليد واللغة المباشرة للنصوص، خاصة اذا استعملت في مكانها المناسب. كما يشير الناقد تزيفتيان تودوروف في هذا الصدد الى إن اللغة المجازية قد تقع خارج منطقة الشعر، كما أن الشعر يمكن كتابته دون تعويل على الصور المجازية والفرق واضح بين الظاهرتين: “فاللغـة المجازية هي ضرب من المخزون الكامن داخل اللغة، في حين أن اللغة الشـعرية هي بنـاء، ويسـتخدم المجاز فيه كمـادة خـامة“.
ان نص ‘أنّات الليل’ للشاعر فادي حسن يعتبر هذا النوع من الشعر الذي يتسم بتعدد المعان والمرام، رصين البنيان و غني بالرموز والاشارات، وأنه يستعين بقوة الخيال و المجازو الاستعارات و فنون البلاغة الاخرى للتعبير عن ما يدور في ذهن الشاعر من صراعات و مسائل يسترعي انتباه القاريء النخبوي اليه، مواده و مکونات بنائه أصيلة و مأخودة من عالم الشاعر ذاته مباشرة دون النسخ أو تقليد الآخرين، فهو ينادي و يخاطب ضمائر مختلفة في شعره، ويتكلم بأسمه أو بأسم کل من يشارکه الهموم والمآسي المشترکة؛ احيانا يستعمل ضمير الفرد المخاطب و احيان اخرى ضمير جمع غائب. كما ان الزمن في هذه التحفة الشعرية منقسمة حسب المقاطع الى : (الآن، الماضي، المستقبل، ثم يرجع الى الحاضر ثم المستقبل البعيد)، فهو يستخدم ضمير المتكلم في البدء ثم يغيره الى ضمير الجمع، وکأنما ينقل لنا لحظات الانکسارات والانحطاطات في شکله الخارجي كحفلة لكنه في جوفه هو العزاء و التأوهات والمآسي، وكأن الواقع موجود بشکله المصغر داخل عروق الشاعر، وهكذا عندما يتيأس من المخلوقات والحلول الفاشلة على وجه الارض حينها يتضرع الی الخالق ميئوسا وخائبا ظنه لأول وهلة و كأنما حمل بوءسه و تشاوءمه معە أينما يذهب، فلا أمل و لا باب للخروج من هذا المشهد الكئيب الذي يأسر روحنا فيه الشاعر من أول کلمة الى آخرها كالـ ( رَّعشةَ الكفّ، انتهاء الحفلَة، يُضرمُ المساء، ساعات مُعطَّلة، بقايا سربٍ من الأصابع، خطوةِ كفيفٍ، وجع، زائرٍ سيء السُّمعة، صرخة، أنَّاتِ اللَّيلِ، حزن، دنسِ الحرمان، تعرَّق النِّداء، نادل أعمى، فمِ الغياب، شفاه جافة، بشاعة الحقيقة، بكاءَ التُّرابِ، جرح أبدي، جذوعَ دم، حطاب، سرير أنقاض، جثثَ النوم، ثمالةً، أرصفةِ التوديعِ المعتمة، ثدي الموت، قتل نصفُ المجيء، حافة الخاتمة، قبور تتمشى، نفير الأخير، عذر، تدلِي أعناق الشَّوارع، زمهرير الفراق ..الخ).
فلو جمعنا المصطلحات الرئيسية داخل هذا الشعر لنصل الى نقطة اللاعودة، فلا بصيص أمل و لا فرجة تنتقل بنا الى الحياة التي تليق بأنسانيتنا كي نتنفس فيها مع الشاعر صعداء، الوجع و (خف) القدم هو ما يستهل الشاعر به نصه وهذا تلميح لأسفل جسم الانسان، أي العالم السفلي، لكن الخف لمن؟ لزائر سيء السمعة! وهذه الاستعارة تتمثل في خصوصية تزيد من وجع الشاعر و أوجاعهم ألما، ثم تأتي بعدها الصورة الشعرية المركبة تباعا لـ(صرخة تدهن مفصل ركبتيها بزيت الأنتظار)، لكن الانتظار الى متى؟ فلو أمعننا النظر في الرکبة + الخف سنكتشف حلقة الوصل بينهما والتي تتبلور في المشي أو الهروب أو الرکض، وهكذا دواليك، يلعب الشاعر متفننا و ماهرا بالالفاظ كي يصنع منها أغلى الحلي من الكلمات لم يلبسها أحد من قبله:
ضع وجعي أمامكَ كخُفَّي زائرٍ سيء السُّمعة
واتبعني كصرخةٍ تدهنُ مفاصلَ رُكبتيها
بزيتِ الانتظارِ المُكرَّر
ثم ان أنين لَحَظاتِ الألَمِ والتَّوَجُّعِ تعلو في ظلام دامس حيث لا يرى أحد الحقيقة، و لا يتسنى لنا الجزم أو الاقرار بالحقيقة الا من باب الظنون، وهکذا سيعيدُ الشاعر ترتيبَ الأكيدِ بأيدٍ من شكٍّ، قبل ان يغادر (الضيوف-الغير مرحب بهم) عروقه وهل سيغادرون حقا؟ وهذا ضرب من المستحيل من منظور الشاعر و حسب تجاربه المتراكمة يصل الى هذا الطريق المسدود و هذه المحصلة الموءلمة. هنا يسيطر التشاءوم والسوداوية علی وجود الشاعر برمته و يحتله، فهو يری الحقيقة تخبِّئُ بشاعتها أيضًا كما يزين الكذب نفسه بأجمل شكل خداعا لأبصارنا كما يقوم به المشعوذين والسحرة، فلا يرى الشاعر أي فرق بينهما ولم لا؟ ان کان الاحياء بمثابة الموتی وفي صورة القبور تتمشى ليلًا خارج المدينة..
هكذا وبعد فك بعض شفرات هذا النص الرمزي البلاغي و بالاستعانة بالادوات السيميولوجيا Semiotics ستتضح الصورة العامة شيئا فشيئا ثم نستمع الی القصة بأكملها ماذا حدث و سيحدث لمدينة بأكملها دمرتها الآلات الفتاكة و الاطماع والتنكيل و البارود، وأين توجد طموح الفرد في هذا الواقع الرهيب للعيش بکرامة؟
في الختام يجب أن أقول بأن هذه ليست الا قراءة من القراءات و أنا علی يقين بأن هذا النص يستحق أكثر بكثير من هذه القراءة الخاطفة:
من يُمسك هذي الرَّعشةَ في كفّيَّ
ويخبرُ الطبَّالين في قلبي
بأنَّ الحفلَ قد أنتهى..
والكلُّ أشعل شمعة أمانيهِ في صدري وغادر
ثم نأتي الى نص ثان بعنوان ‘ممنوع’ لـلشاعر مروان عياش، و ما أعجبني في هذا النص هو تعدد وجهات المعاني فيه و ما يحتمله من تحاليل مختلفة: منها نظرة و تفسير فلسفي لمعنى الخطيئة والمحرمات مستمدا جذوره من وراءَ الحيلةِ القبيحةِ لأبليس مع آدم ومن ثم ذريته، بأكل السنبلة الممنوعة الى الوقوع في كل الاشكال الاخرى من المحرمات ومنها التي وضعتها الانسان أمام نفسه كذلك، لكنني أختار الوجه الثاني المحتمل للتأويل بحيث يكتمل هنا السرد الشعري الذي بدء بكتابته فادي حسن، كما يعتبر هذا النص تحفة شعرية أخرى يختزل في طياته هول المشهد الذي يعايشه الانسان في بيئتنا التي غلبت عليها الرهب و الخوف والمحرمات المتعددة بحيث أصبحت كحقول ألغام محفوفة بالمخاطر والفزع والحذر، وأينما نذهب هناك أسوار المحرمات السياسية والاجتماعية و القبلية و… غيرها محاطة بنا من كل جهات، وعندما تفقد الحياة نغماتها الهادئة تبدء الطبول بالقرع لمجيء السيء ثم الاسوء، وهذه التوصيفات الدقيقة للمخاطر والانزلاق نحو الهاوية تستمد قوة مضمونها و ندرة بلاغتها من واقع اليم يلبسه الشاعر لباس المجاز، فالذي يعيش خارج جنة الشياطين فهو ملعون و متهم بالخيانة و لقد وزعت طيور الليل هذه الاوهام على عقول و قناعات الناس وهي في الاساس ليست الا خرافة تبطل بمجرد الخروج من هذه الدائرة الكبيرة التي سميت بالرعب، وقد أجج و شحن أجوائها المنفذين المنفعيين.
ان هذه الصورة الموءلمة في نصي فادي و مروان تذكرنا بلوحة “غرنيكا” لبابلو بيکاسو ١٨٨١-١٩٧٣و “الأرض اليباب” لأيليوت Thomas Stearns Eliot ١٨٨٨-١٩٦٥، وكذلك في هذا النص وعلی شاكلة النص السابق ان (مَدارجُ الخوف و قشُ البؤساء و رداء الفزع و درب الجوع و جنة الشياطين و وساوسَ الحرام و نهش ملامح الألفة و وجه فزاعة و القطيعُ المرعوب…) ليست الا مصطلحات متواجدة في قواميس أفلام الرعب والذي أصبحنا للأسف من أبطاله الواقعيين، انظروا الى هول المنظر؛ حتى الطيور هنا على نقيض من طبيعتها الأليفة تطير في سواد و تنشر الوسواس و تبني و تغرد للانحراف عن الصواب والمنطق:
طيورُ ليلٍ تبني وساوسَ الحرام
تنهشُ كلَ ملامحِ الأُلفة
من وجهِ فزاعةٍ
زُرعتْ على بابِ الحياة
خيالاً مصلوباً
تُرعبُ كلَ المارينَ بها
عيونها الكهفية
مُحدِقةٌ بأحلامك
تَرميكَ بعتمةِ السراديب
مُعتقلاً
نسيَّ هيكلهُ العظمي
وَراءَ ظلامِ الممنوع
لكن کل هذه المعاني والمرادفات للحياة هل هي الأصل؟ اذن أين الجانب المضيء والمباحات؟ هل توجد معنى للحياة في الرعب والترهيب والمذلة؟ هل ما وصلنا اليه من تحريف معاني الحياة هي من أبجدياتنا ؟ أم ان الاستقامة والعدالة والالفة والتعاون هو الاصل في الكون، اذ يتحرك كل موجود على وجه الارض نحو هدف الازدهار والتطور والتواصل دون كلل و ملل أو انحراف، الا الانسان الذي يختار طريق الشر والظلم سبيلا للبقاء، ولا يدوم بقاوءه مادام انه يبحر بعکس الأمواج الكونية، فهذە الاشارات والاستعارات الموءثرة هنا ليست الا دليلا على ان الشاعر يحب ممارسة الحياة في أرقى درجاتها والتي تتبلور في الحرية الملتزمة و هكذا يتلذذ بکل مباحاتها، وهذا دليل على رغبته الملحة لتصحيح مسار الحياة المنحرفة في بيئة صار الحق فيها کابوسا على عاتق أصحابه، وكل ما فيها هي محرمات و قنص و عقاب، فلولا حبه للعيش والحياة المستقيمة لا يلعن الشاعر العالم السفلي لشياطين الانس، الذين لا يترددون في صلب الأحلام في قعر دارها بل و في داخل مخيلة الحالم نفسه. هنا يسلك الخوف سبيل الصمت من أجل البقاء وتواصل الحياة الى ان تتبدد عاصفة الترهيب الهوجاء والغيوم الجهل المظلمة في آفاق السماء والعقول. فان غريزة الخوف هي أقوی الغرائز والغرض منها البقاء و لا يمكن للجراثيم ان تنتشر الا في هذه الاجواء المظلمة. ولكن دون أدنى شك وعلى شاكلة طائر العنقاء سيقوم اصحاب العقول النيرة من رماد الخوف مرة أخرى کي يبذلوا مجهودا أكبر نحو الطمأنينة و ازالة اسباب الخطر من جذورها والتمتع بدفء الحياة الفانية و في النهاية سينتصرون على الخوف المسيطر في الاجواء بالعزم و الأرادة الايجابية.