أنا (أنكُز) إذن، أنتَ موجودٌ!

توفيق أبو شومر | فلسطين

هل نجحت تقنية الألفية الثالثة الرقمية في إعادة صياغتنا من جديد، كقطيع يُسمّن ليُؤكَل؟ أم أنها غيَّرتْ مساراتنا التقليدية، لغرض النهوض بنا، بإزالة الفوارق بين الأجناس، لنصبح قرية واحدة؟!!
الجواب ليس سهلا، لأن عمليات التغيير تجري اليوم في غرف عمليات الألفية الثالثة، حيث يقوم أطباءُ العولمة بأخطر الجراحات في تاريخ الجنس البشري كلِّه، فقد حوّلوا شرايين الولاء من الجينة القبلية إلى الشبكة العنكبوتية، فأصبح لكل فردٍ أسرةٌ خاصةٌ به، غير أسرتِه الجينية، وغيروا الزوجات إلى (تيوبات)، ورسائل نصية، وطرائف جنسية، ونِكات حسية،
نجحت الشبكات الرقمية كذلك في كشف أسرار جينات روادها، فتخصصتْ في كشف الشخصيات، بواسطة تحليل الكلمات والجمل، وبرعتْ في وضع ألبومات عائلية لكل فرد مُنتمٍ إلى العشيرة الرقمية، ومنحته مفتاحا خاصا به، وجعلته يعتقد بأنه المالك الوحيد للمفتاح!!
استغنتْ قُطعانُ الشبكات بجرعات أدوية مُسكِّنه، وأخرى منشطة، وثالثة مُهلوسِة، فقد أصبح تحليلُ الشخصيات ركنا رئيسا من مستحضرات الشبكة، كذلك برعت الشبكة في قراءة طوالع أفراد العشيرة الرقمية، وغدا مفسروها يقرأون الأحلام، وصارت قراءة مستقبل قطعان الشبكات هي الطبق الشعبي عند المقهورين نفسيا، تُخدرهم على وقع: “أنتَ ستملك سيارة فارهة، وستحصل على ثروة كبيرة، وأنت قائدٌ وزعيمٌ، تشبه الإسكندر المقدوني!! عددُ محبيك عشرات الآلاف، أما مبغِضوك فهم ثلاثة فقط!!”
استطاعتْ الشبكة العنكبوتية أن تنسج ملايين حفلات أعياد الميلاد، لكل أفراد القطيع، وأن تفاجئهم بالفيديوهات والورود، وأن تجعلهم ينتشون فرحا، ظنَّا منهم أن العالم كلَّه يحتفل بهم!! هكذا تحولتْ الشبكات الرقمية إلى منتجات إدمانية، فلم يعد المدمنون يرون المقربين منهم جسديا، وجينيا، بل صاروا يسيرون في شوارع المدن منوَّمين كقطيعٍ، تقودهم موسيقى الشاشات الرقمية، وبرقها الخُلَّب، تقودهم إلى حيث تشاء، يصطدمون ببعضهم، ولا يعتذرون، لأنهم في الأمر سواءٌ، يُثرثرون من عائلاتهم الرقمية، يبتسمون، يضحكون، يتوقفون، يصورون وجوههم، ينتشون!
وإذا شذَّ أحدُ أفراد القطيع، وانصرف عن شاشته الرقمية، نكزته الشبكة الرقمية وطالبته برد (النكز) أو النخس!!
أجاد مؤسسو الشبكة الرقمية في اختيار تعبير، النكز، أو النخس، لما له من مدلولٍ صحيح، فهو يؤكد على أن رعايا الشبكات قطيعٍ شاردٍ، تملكه الشبكات الرقمية، لا يستفيق إلا بالنكز!
النكز، أو النخس في قواميس اللغة العربية يُستخدم لما لا يعقل من الحيوانات، حيثُ تُنخس في مؤخرتها حتى تستيقظ، وتتنبَّه، وتسرع إلى أوامر مسيرها، ومجريها، وهو ناكزها، أو ناخسها.
ومن معاني النخس أيضا، ضرب المنافسين بأعواد مدببة، والنخس أيضا يعني لدغ الأفعى، أو العقرب! كما أن مصطلح (النَّخس) مصطلحٌ ذو مدلولٍ، يتوافق مع غرفة عمليات الشبكات الرقمية، فهو يعني بالضبط؛ أنَّ السادةَ، رُعاةَ القطيع، مالكي الشبكات الرقمية، ينخسون، أو ينكزون قطيعَ العبيد، مدمني الشبكات الرقمية، يُعيدون انتظامَهم، استعدادا لعَدِّهِم!!
فقد سُمِّي تُجارُ العبيد، في لغتنا العربية (النخَّاسون)، لأنهم كانوا يوقظون العبيد المأسورين في أسواق تجارة العبيد (بالمنخاس)، أو وفق تعبير الفيس بوك: (المنكاز)، فقد كان النخاسون ينبهون العبيدَ، ممن غالبهم نُعاس الذُّل، بعد عبودية العمل الشّاقِ، في حظائر العبودية، يوقظونهم بعصاً خشبيةٍ مُدببة، أي ينخسونهم، وهم نائمون، فينتفض العبدُ المنخوس، أو المنكوز فزعا، ليتمكن نخاسو العبيد من رؤية (البضاعة)، ليروهم في كل أوضاعهم، منكوزين، قائمين، جالسين، نائمين، مستيقظين، مقبلين، مُدبرين!!
أخيرا قال راعي القطيع، فيلسوف الفيس، مارك زوكربرغ: “أنا أنكزكم، إذن، أنتم موجودون”!! بدلا من قول الفيلسوف الفرنسي، ديكارت: “أنا أفكر، إذن، أنا موجود!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى