كورونا وإعادة بناء لغة العالم وتفكيره

فراس حج محمد | فلسطين

هل أفادتني جائحة كورونا بما يكفي لأكتب حول فائدتها العظيمة؟ أو هل أضرتني الجائحة لأكتب فيها أيضا؟

ربما كنت شخصا من كثيرين لم يتأثروا كثيرا بالظروف الطارئة لعدة أسباب، منها أنني بطبيعتي منعزل، فلم أشعر كثيرا إلى حد القلق أن لها أثرا سلبيا أم إيجابيا عليّ. أنا شخص بطبيعتي لا أشارك في شيء من أمور المجتمع، حتى الصلوات الجامعة؛ العيدين وصلاة الجمعة لا أذهب إليها، مع أنني أواظب على الصلاة منذ سن العاشرة.

لعل ما أفادتني به كورونا، وأنا هنا أحب أن أعاملها معاملة المؤنث، لا أدري لماذا، ولكنها تبدو أقرب للمؤنث، ليس بوصفها “مصيبة” طارئة، وأكلت كثيرا من أبجديات الحياة المعاصرة، ما أفادتني به هو هذا التفرس اللغوي بها وبظاهرتها، كوني دارس لغة ودرّست اللغة أكثر من عقد لمراحل مختلفة، وكوني أيضا مشرفا تربويا أتابع لغة المتحدثين، وأحاول تأطيرها أولا ثم إعادة تفكيكها لأصنع “تقريرا” حول ذلك الأداء اللغوي للمتحدثين بها داخل الغرف الصفية.

رحل معي هذا الاهتمام وأنا أتابع نشرات الأخبار، وقد قررت أن تكون محطة فضائية واحدة هي مصدري الوحيد من المعلومات حول تطورات الوباء، وتمدده. مع علمي المؤكد أن كل القنوات تبث الأخبار ذاتها بالمصطلحات نفسها.

لا شك في أن كورونا، بوصفها وباء عالميا، شكلت شيئا فشيئا معجما لغويا يشير إليها، ويرتبط بها، خاصة في الظرف الحالي وفي هذا السياق التاريخي. تعود إلى وعيي نظريات تشكل اللغة وولادة المفردات وبناء المصطلحات.

أتذكر شيئا من هذا مثلا أيام الانتفاضة الأولى عام 1987، وكنت حينها فتى لم أتجاوز الرابعة عشرة من عمري، كيف دخلت مجموعة من المفردات إلى القاموس اللغوي الإعلامي خاصة بالفعل الفلسطيني على الأرض، وقل الشيء نفسه مع كل أفعال حركات التحرر العالمية، أو ما أنتجته “ظاهرة الإرهاب” من مصطلحات تتردد في الإعلام وقت بروز الظاهرة، وهو عينه مثلا ما أنتجته حركة الإسلام من مصطلحات خاصة انتقلت إلى اللغات الأخرى كما هي.

وهذا من طبيعة اللغة المتجددة الحية، فثمة ألفاظ تولد كل عام، وتسمى المولدة، وأخرى تموت وتصبح “مهملة”، وأخرى تتطور في معناها، فتفارق دلالاتها الأولى إلى دلالات أخرى، وهذه قوانين لغوية شائعة في كل لغة، وليست اللغة العربية وحدها، فقد كنت ألاحظ مثلا زيادة مفردات جديدة في كل طبعة على قاموس “المورد”، وهو معجم لغوي (إنجليزي-عربي).

لقد فعلت كورونا الشيء نفسه. لقد فرضت على اللغة الإعلامية مجموعة من الألفاظ والمصطلحات، بعضها موجود أصلا ويستخدم في مع غير كورونا، كوباء وجائحة، ومصاب، ومتعافٍ، ومحجور، وحجر صحي، وعزلة ومنع تجول، وكمامة وقفازة وتعقيم وعينات وفحصات، وأخرى انتشلها الإعلام ليعيد استخدامها بكثرة مع إجراءات الوقاية، وأعراض المرض من ارتفاع درجة الحرارة والعطس والسعال، وضيق التنفس، وأخرى ربما فرضت كورونا استخدامها بشكل خاص في ظرفها الطارئ هذا، وذلك من مثل مخالطين، وحجر منزلي، وكوفيد 19، ومصطلح “التباعد الاجتماعي”. بل امتد الأمر إلى تعريب لفظ كورونا وإخضاعه إلى قوانين اللغة العربية، فخضع الاسم إلى الاشتقاق، فصار يطلق على المصاب بكورونا لفظ “مْكورن”.

لقد أصبحت اللغة معبأة بتلك الألفاظ، ليس في الإعلام فقط، بل في لغة الأدب شعرا ونثرا، وصارت الحساسية اللغوية عالية في التعبير عن ظاهرة كورونا التي تجاوزت حدودها الصحية لتصبح ظاهرة لغوية بامتياز، فمن الطبيعي أن تقرأ مقالات فكرية وسياسية ونصوصا محشوة بألفاظ المعجم الكوروني، وامتدت الظاهرة إلى اللغة الشعبية، فظهرت النكات الشعبية التي تنضح بألفاظ الكورونا، وتوليداتها اللغوية>

واتجهت المخيلة الشعبية إلى صناعة أمثال على هدي من الأمثال القديمة المتعارف عليها، وبالتالي فقد اكتسبت كورونا حضورا لغويا عاما وثقافيا، وجد المرء تجلياته في بعض الأغاني الشعبية الطريفة أيضا التي ركّبت للألحان القديمة المشهورة كلمات تناسب هذه الزائرة التي تزور كأنها بلا حياء، على عكس زائرة المتنبي عندما أصيب بالحمى يوما ما، وكتب فيها قصيدة استحضرها النقاد أيضا مع غيرها من الأعمال الأدبية التي تحدثت عن الأوبئة. بل وشملت الحياة الثقافية فصار لكورونا آثارها في الأعمال الفنية التشكيلية ورسوم الكاريكاتير في الصحف والمجلات، وتوجهت بعض الندوات لمناقشة حضور الأوبئة في المدونات الأدبية العالمية.

لقد كان لكورونا آثار سيئة أيضا على الحالة الثقافية، فثمة كتب توقفت عن الصدور في انتظار الخلاص، ومجلات ورقية أرجئت لحين الخروج من هذه الحالة، وثمة صحف تقلصت إلى ما دون النصف في عدد صفحاتها. لقد انتعشت بالمجمل الثقافة الإلكترونية والنشر الإلكتروني، والتعليم الإلكتروني والتسويق الإلكتروني والاجتماعات الإلكترونية والعبادات الإلكترونية بفعل السيدة كورونا.

لم تكن كورونا ظاهرة وباء عارض، بل وباء له ثقله المرعب في الحياة بأنشطتها الحيوية كافة، فربما وجد الدارس بعد حين أن هناك اقتصادا كورونيا، وأن لهذه الجائحة أيضا تمددات وآثارا بيئية واجتماعية، وتعليما في ظل حالة كورونا التي فرضت نمطا من التعليم الإلكتروني وغير الوجاهي، ودفعت الجميع إلى التفكير الجدي بوسائل وأساليب تتعايش مع هذا الوضع الذي لا يعرف له نهاية حتى الآن، ولا كيف سيكون مآله في نهاية المطاف. فصار لازما على الكل أن يفكر كيف يمكن له أن يعيش في ظل هذا كله.

لقد دفعت كورونا الجميع إلى أن يفكر بنهاية العالم، ومن طريف ذلك ما قالته صديقة لي في نهاية محادثة فيسبوكية أنني منتظر رؤيتك ولقائك بعد أن تمر هذه الأزمة، فأجابتني بلا تردد: “القيامة ستقوم بعد كورونا، أراك في الجحيم، فكل أصدقائي هناك سيكونون”.

هل أوصلت كورونا العالم إلى أن يفقد السيطرة على هذه الحياة وتتسرب منه بفعل هذا الفايروس الذي أربك كل الخطط الدولية والإقليمية والوطنية؟

إننا على ما يبدو نعبر البرزخ، ولكن إلى أين بعد هذه العولمة اللغوية الثقافية الجديدة؟ وهل فعلا ستكون كورنا حدثا فاصلا في التاريخ ليؤرّخ بها، وأن العالم بعد كورونا ليس كما قبلها، وأن هناك ولادات قسرية قيصرية سياسية، كما اقتصادية وثقافية كما تنبأ هنري كسنجر مثلا في مقاله المنشور في صحيفة وول ستريت جورنال؟

إننا مقدمون على مجهول على ما يبدو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى