سياحة في كتاب..الحلقة الثانية في كتاب “رشدونيوس”…

محمد خضير: فنان وشاعر-الأردن

الهُوية الشعرية “رشدونيوس” للشاعر الدكتور راشد عيسى، إصادرات المدن الثقافية/ وزارة الثقافة الأردنية.
في الهُويَّةِ الشِّعْريّةِ “رَشْدُونْيُوسْ” لـ راشد عيسى

كثيرونَ أخفقُوا في رَسْمِ ذاكِرَتِهِمْ، فَتَسَايَلَ إِرْثُهُمُ الإِبْداعِيُّ مِنْ مِدادِ مَنْ لا يَمْلِكُونَ الحقِيقَةَ كامِلَةً. كما أنَّهُمْ عِجِزُوا عَنْ تَقْدِيمِ أَنْفُسِهِمْ لِجُمْهُورِالغَاوِينَ، وأَتحدَّثُ هُنا عن بعضِ الشُّعراءِ الذين تَكاسَلُوا عِنْ فَهْمِ مَفْهُومِ الشَّهَادَةِ الإِبْدَاعِيَّةِ الّتي تَخْتَصِرُتَجْرِبةَ الشَّاعِرِ دُونَ مُوَارَبَةٍ أوْ مُجَامَلَةٍ، فكِتابتُها -أقِصدُ الشَّهادةِ الإبداعيّة- تحتاج إلى عَبقَريةٍ خاصَّةٍ، وموروثٍ إبداعيٍّ ضَخْمٍ يتعدَّى فكرَةَ الحَديثِ عَن بُطولاتِ الصُّفوفِ المدرَسيَّةِ الأولى،وعلى كاتبِها أنْ يَتَزَنَّرَبكثيرٍ مِنَ التأمُّلاتِ القادرةِ على رسمِ كلِّ مَرْحلَةٍ مِن مَراحلِ حياتهِ بعيدًا عن السَّلْقِ وسَطوَةِ الرَّقيبِ وبسردٍ تخييليٍّ قادرٍ على تخَطي المألوفِ بشيءٍ مِنَ التشْويقِ، ولا يمكنُ لِهذهِ الشَّهادَةِ أنْ ترتَدِيَ ثوْبَ القصَّةِ أو الرِّوايةِ، إنَّما هيَ بوْحُ الكاتِبِ للقارئِ برشاقَةِ فَخٍ قادرٍ على دمجِ الأدَبِ بسيرةِ كاتبِهِ. وثمَّةَ أسماءٌ برَزَت وأثَّثت لِهذا الجِنس مِنَ الكتابَةِ، كبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وغيرُهم.
ومَا نَحْنُ في حَضْرَتِهِ الآنَ، يُعَدُّ أُنْمُوذَجًا شُجَاعًا في الحَدِيثِ عَنِ النَّفْسِ الشِّعْرِيَّةِ ومَا تَمَخَّضَ عَنْها مِن أَخْيِلَةٍ أعْقَبتها الدَهْشَةُ، لأَنَّ القَصِيدَةَ بِطَبيعَتِها لا تَحْتَمِلُ سِيَرَ مَنْ نَظَمُوهَا خَوْفًا مِنَ الوُقُوعِ في الخَيْرِالمُخَالِفِ لِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ قُتَيْبةَ في الشِّعْرِ والشُّعَراءِ وعلى لِسَانِ الأَصْمَعِيِّ الذي أَكَّدَ بأنَّ الشِّعْرَ نَكِدٌ بَابُهُ الشَّرُّ، وبأنَّهُ إذا وَلَجَ إلى الخَيْرِ ضَعُفَ، وضَرَبَ لنَا مَثَلًا حسَّانَ بنَ ثابتٍ الذي كانَ يُعَدُّ شاعِرًا فَحْلًا قَبْلَ الإِسْلامِ.
ومِنْ أَجْلِ ارْتِقَاءِ مَا عَلا وارْتَفَعَ، عَليْنا أنْ نَصْعَدَ العَتَبَاتِ لاصْطِيادِ الجَمَالِ، فقَدْ أَثَّثَ راشد عيسى سَطْوَةَ عُلُوِّهِ بِكَثيرٍ مِنَ العَتَبَاتِ التي تَمْنَحُنَا فُرْصَةَ صُعُودِ سُلَّمِ رَشْدُونْيُوسْ، لِنَكْتَشِفَ أَنَّهذهِ العَتَبَاتِ تُشَابِهُ أَحْجَارَ هَرَمِ خُوفو الذي يَسْمَحُ لَكَ بِصعُودِها، ثمَّ الهُبُوطِ مِنَ الجَانِبِ الآخَرِ بَعْدَمَا تَحْسِبُ نَفْسكَ سَكَنْتَ قِمَّةً لم تَكُن تَتَّسِعُ لِغَيْرِهِ.
وما بيْنَ العَتَبَةِ الأُولَى، وعِبَارَةِ: “الشِّعْرُ الجَيِّدُ مِثْلُ سُمِّ النَّحْلِ، يَشْفِي الأَفْكَارَ مِنَ الرُّومَاتِيزْمِ”، والتي تَجْلِسُ بِزَهْوٍ فَائِضٍ على أَرْضِيَّةِ الغِلافِ الأَخِيرِ، ثَمَّةَ فِكْرَةٌ تَدْفَعُ القارئَ لِلانْقِلابِ على كَثِيرٍ مِمّا قُرِئَ خَارِجَ هذهِ الأُضْمَومَةِ التي جَاوَزَتِ الشِّعْرَ بِكَثِيرٍ مِنَ الفِتْنَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
وعلى الرُّغْمِ مِنْ أَنَّ الكِتَابَ ذَاهِبٌ إلى الهُوِيَّةِ الشِّعْرِيَّةِ التي هيَ بِالضَّرُورَةِ عَرَبِيَّةٌ خَالِصَةٌ، إلّا أَنَّ الشَّاعِرَ غَادَرَحِزَامَ المَنَاطِقِيَّةِ، فاتِحًاعُرْوَةَ قَمِيصِ الكَونِيَّةِ، لِيُحَلَّقَ بَعَيدًا بَعدَ أَن حَطَّمَ الأَزرَارَ، مُسْتَعْمِلًا إِزْمِيلَهُ كَمَا فَعَلَ مايكل آنْجِلُو، فَنَحَتَ العَتَبَةَ مِنْ رُخَامِ العَرَبِيَّةِ لِتَسْتَوِي عُنْوانًا كونيًا ضاربًا في العُمْقِ اليُونَانِيِّ… ثمَّ إذا وَلجْتَ الأُضْمُومَةَ؛ أَحَالَتْ يَدُ الفِنْجَانِ قِرَاءَتَكَ إلى مُتْعَةٍ تُشَابِهُ تلكَ المُتْعَةَ في احْتِسَاءِ القَهْوَةِ التي قَدْ تَكُونُ حُلْوَةً، أو بِلا سُكَّرٍ، وكِلاهُمَا يَعْدِلانِ المِزَاجَ. ويُنْهِي الشَّاعِرُ العَتَبَةَ الثَّانِيَةَ “يدُ الفِنْجانِ” بِتَوْقِيعَةِ “رَشْدُونْيُوسْ بِنْ عِيسَويِهْ” التي أَظُنُّها مُزَاوَجَةً خَبِيثَةً تُرْبِكُ القَصْدَ بِحَيْثُ أَمْسَتِ الهُوِيَّةُ الشِّعْرِيَّةُ خَلِيطًا مِنْ مَاضِيَيِّ أَثِينَا وفَارِسْ، لكِنْ بِجُذُورٍ عَرَبِيَّةٍ. وَيْكَأَنَّ حَفِيدَ الجِنِّ هَذا، يُريدُ القَوْلَ بأَنَّ الشَّاعِرَ كَوْنِيٌّ، ولا حُدودَ لِمَمَالِكِ خَيَالِهِ.
“ما أَنْتَ أيُّهَا الشِّعْرُ؟” عَتَبَةٌ أُخْرى، تَبْعَثُ فِينَا فِكْرَةَ السُّؤالِ الذي أَوْجَدَ الشَّاعِرَ حِينَ خَالَفَ أُولَئِكَ الّذينَ جَلسُوا إلى الصَّخْرَةِ دُونَ أن يُعمِلُوا فيها مَعَاوِلَهُم لِيَجِدُوا رَأْسَ الحِصَانِ والشَّجَرَةَ الهَارِبَةَ إلى بَياضِ المَرْمَرِ الذي يُعْجِزُ شَهْوَةَ نَقَّارِ الخَشَبِ.
لَمْ يَسْتَطِعْ بِنْ عِيسَوِيهْ، وعلى مِسَافَةِ سِتِّ أَوْرَاقٍ، ومَا يَفِيضُ عَنْ ألْفِ كَلِمَةٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْ سُؤالِ العَتَبَةِ الثَّالِثِةِ”مَا أَنْتَ أَيُّهَا الشِّعْرُ؟” المُمْتَدِّ مُنْذُ أوَّلِ شاعرٍ حَظِيَتْ أُذُناهُ بِوَقْعِ المُوسيقى -فانْفَلَتَ لِسانُهُ مِنْ عِقَالِ العَادِيَّةِ إلى غَيرِ المُتَوَقَّعِ- وحتّى آخرِ شاعرٍ سَيَشَهَدُ صَوْتَ البُوقِ قُبَيْلَ الخَاتِمَةِ! وسَيِبْقَى الشِّعْرُ هو الشِّعْرُ فقط، مَهْما حَاوْلْنَا لَيَّ عُنُقِ المَعْرِفَةِ، فَهُوَ مَسٌّ دائِرِيٌّ لا زَوايا تَجْمَعُ لهُ فِطْرَتَهُ القَائِمَةَ على اعْتِصَارِ الحَيَاةِ في كَأْسٍ مِنَ الدَّهْشَةِ… على الأَقَلِّ.
اتَّصَلَتْ بِهِ طِفْلَةٌ في العَاشِرَةِ، سَأَلَتْهُ: هَلْ أنتَ الشَّاعِرُ الرَّاحِلُ راشدْ عيسى؟ فأَجابَها: نَعَمْ. ولَمْ يُعَقِّبْ على رَحِيِلهِ الذي لَمْ يَكُنْ قدْ سَمِعَ بِهِ، لكنّها فِطْرَةُ الشَّاعرِ القادِرِ على الْحَيَواتِ أيْنَما حَلَّتْ بِهِ. وهذه في عَتَبَةٍ أُخْرى أَسْمَاها “الشِّعْرُ أَبي الحَقِيقِيُّ، والّلغَةُ أُمِّيَ العَظِيمَةُ”، وقدْ ذَكَرَ هَذَيْنِ الوالِديْنِ لأنَّهُما عَلَّماهُ أَخْلَاقَ الحَياةِ وأَخَذَاهُ إلى مُسَامَحَةِ شَاعِرٍ مْنَ السُرَّاقِ، حَمَلَتْهُ قَصيدةٌ ما كانتْ له؛ إلى تحقيقِ حُلْمِهِ، غيرَ مُكْتَفٍ بالقَصِيدةِ، فَسَطَا بِكُلِّ حُبٍّ على اسْمِ راشد “الأبِ الحقيقيِّ لقصيدتِهِ” لِيَحْمِلَ اسمَ ولَدِهِ البِكْرِ بَعْدَما شَافَ مِنْ صَرْفِ نَظَرٍ لِقاءَ تَوَقُعٍ بأنَّ السارقَ احتاجَها كَبِطاقَةِ دُخُولٍ إلى جائزةٍ تُعينُهُ على دِراسةٍ أَوْدَتْ إلى وَظيفةٍ.
ثم كانتِ العتَبَةُ النَّصِّيَّةُ المفقودَةُ، وفيها يَحْسِمُ راشد أَمْرَ جُودَةِ القَصيدةِ التي لا تَكْفِي في عَصْرِهَا ما دامَ الشاعرُ حيًّا. وهذا أَمْرٌ يَغْفَلُ عنْهُ جَمْعٌ من الشَّعراءِ الذينَ أَهْمَلوا دُرْبَةَ حَناجِرِهِمْ على دَوْزَنَةِ النَّصِّ موسيقيًا. رَشْدُونْيُوسْ،وفي هذه العَتَبَةِ جَاوَزَ الشِّعرَ بالحِكْمةِ وإِسقاطِ مَنْظُومَةِ الغِيرَةِ مِنَ الآخَرِ، فهُوَ يَفْضَحُ أَسرارَعُلُوِّ كَعْبِهِ الذي ما كانَ بالقصيدةِ وحْدَها، بعْدَمَا وظَّفَ صوتَهُ وقُدُرتِهِ على مَسْرَحَةِ الأَشْياءِ.
هناكَ شاعراتٌ وشعراءُ تأثَّرَ بهِمْ راشد عيسى، لكِنَّهُ على خِلافِ ما أَلِفْناهُ في مَفْهومِ الإِفادَةِ مِنَ الآخرِ، فَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْكانوا: الصحراءَ، ونارُ الحطَبِ، ودِيكُ البَلَدِ وزَيْتونَتُها، كما تأثَّرَ بفكرةِ الحِذاءِ، هامِسًا لأبيهِ: “ليتَني أَفْعَى يا أَبي حتى لا يكونَ لي أَرْجُلٌ تحتاجُ إلى أَحْذيةٍ”، وكذلكَ النهرُ، فأَوْرَدَهُ: “للنَّهرِ الحقُّ بأن يضحكَ جدًا / عند المنبعْ / هو يعلمُ أكثرَ منّا / إنْ وصَلَ البحرَ فلنْ يرجِعْ”، وكانَ للنَّايِ أثرُهُ الفادحُ في رَشْدُونْيُوسْ، فقد عاشَ مثلَهُ مُشَرَّدًا في المَراعي. أيضًا، الحصانُ والسِّراجُ وصباحاتُ القريةِ والمرأةُ التي اجْتاحَتْ ثُلُثَيّ شِعْرِهِ ويَزِيدُ… وهو القائِلُ: “الدُّنْجُوانُ ليس من يعيشُ كثْرةَ النساءِفي حياتِهِ، وإنّما الذي يعيشُ كَثْرَةَ الحياةِ في امرأةٍ”.
وفي رسالَةٍ إلى اللغةِ العربيةِ، جَلَسَتِ القصيدةُ وحيدةً في صَفحتينِ، وكأنَّ الشاعرَ يريدُ لَفْتَ النَّظرِ إلى مكانةِ العربيّةِ، أو كأنَّهُ يريدُها بعيدةً عن الشُّروحاتِ لِتَصِلَ كامِلَةً وهي تَحْمِلُ موسيقاها ومَعناها، وفيها اشْتَغَلَ رَشْدُونْيُوسْ على حَدَاثَوِيَّةِ الفِكْرةِ التي ما أَعْجَزَتِ اللغةَ:
“حُرِّيتي أنتِ مهْما العَصْرُ دَبْلَجَني // وحاولَ الصَّمْتُ تَدْجِيني وحَوْسَبَتي
فَما تَصَحَّرتُ إلّا كُنْتِ لي شَجَرًا // وما تَعوْلَمْتُ إلّا كُنْتِ خَصْخَصَتي”
عتباتٌ كثيرةٌ تُحيلُنا إلى شَهَادَةٍ إِبْداعِيَّةٍ أَنيقَةٍ، تَبادَلَ فيها الشعرُ والنَّثرُ أدوارَ الدَّهشةِ تَصديقًا لِأَبي حيانٍ التَّوحِيديّ في الإمتاعِ والمُؤانَسَةِ، وفي الليلةِ الخامسةِ والعشرين تحديدًا، عندما قال: “أحْسَنُ الكلامِما… قامتْ صورتُهُ بينَ نَظْمٍ كأنَّهُ نَثْرٌ، ونَثْرٍ كأنَّهُ نَظْمٌ”.
في شَهادتي هذه باعَدْتُ بين الخُطى، فلَمْ أُصِبْ كَامِلَ العَتَباتِ لعلكم تصعدون حدائق رَشْدُونْيُوسْ لتقطفوا الشعرَ، والحكمةَ… وما هوَ أبعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى