العم سليم و الكمام

منى مصطفى | تربوية وكاتبة مصريّة

كان رفيق جدي و مدّ الله في عمره بعد جدي، فاعتدت السؤال عنه كلما عدت لمصر؛ أستنشي منه رائحة جدي رحمه الله …

لم يصادفني أحد من أحفاده وكادت العطلة تنقضي فقررت السير إلى حقله حيث مجلسه الذي اعتدنا أن نراه فيه صغارا

وكأني سمعته كما أسمعه الآن يرد السلام بطريقته المميزة فكنت أقول له : السلام عليكم

(يقول: ألف عافية تلبس بدنك وعليكم السلام ورحمة الله )

أتعجب وأنا صغيرة لماذا يرد هذا الرجل بطريقة مختلفة عن الناس ؟

ثم عندما أدركت ربط الألفاظ بالمعاني علمت كم كان حكيما العم سليم

لقد أدرك أن العافية هي المطلب الأول و ما دونها مجرد كماليات… فغدا يقرن الدعاء بها بكل سلام يرده لمن يعرف أو لا يعرف

وأتخيله عندما كنت أكتب على التراب يرقبني ويشجعني و لكنه ينهرني إن كتبت اسمي، فأسأله لماذا الاسم تنهرني لأجله؟

يقول: لا تكتبيه على الأرض حتى لا يُداس من أحد، لا تجعلي أحدا يدوس عليه بعمد أو بدون عمد، و كان هذا أول درس في الكرامة وأنا لازلت أتعلم كيف أخط أحرفي …!

وصلت حقله فلم أجده كما كان، كل الملامح تغيرت ، هدموا غرفته ، اقتلعوا شجرته التي كان يستظل بها ويصلي تحتها ، أذهبوا طيب الروح التي كنا نجده، و كأن ذلك العمر اقتلعوه كذلك،

حملت غصتي معي و قلت فَلْأكمل السير حتى حقل جدي …!

يالله … أين النخيل أين الجوافة أين الساقية …! أين الملعب الذي كنا نرتع تحت ظلاله و نكتب على ترابه الناعم و نستنشق رائحة الزهور من آفاقه …!!

الاستثمار غلب كل شيء

كل هذا أزيل وانضمت أرضه للأرض و زرعت ….

لا جدي و لا ساقيته و لا نخيلاته …

جلست حانقة على كل شيء ، و إذا بخالي يأتي لأسأله عن العم سليم فأخبرني أنه ذهب إلى جوار ربه و جلس يقص علي شيئا من ذكره، و أنا أتخيله بلحيته البيضاء و طقم أسنانه الأبيض المتساوي و تعليقاته العميقة النافذة

خالي يكمل حديثه ، و أنا أجول ببصري علّي أجد شيئا لم يتغير فلم أجد سوى السماء بزرقتها وسحبها البيضاء الناصعة ، أما الأرض فلم تعد هي الأرض حتى الترعة جفت و الماء أصبح بمواعيد ثابتة ….!

ويد المادة الطاغية تمسك بعنق الزراعة فترى مزارع دواجن هنا و مخازن هناك …

جذب خالي انتباهي بسؤال :

هل تتذكرين الكمام الذي كان يضعه العم سليم على فم الماعز و صغاره …!

شحذت الذاكرة نعم صحيح كان يضع كماما أبيض من قماش على فم الماعز و صغاره

– لماذا ؟ لم أفكر ، تصورت أن هذه نظافة هو يشتهر بها في ذاته فامتدت لممتلكاته

-لا ليس هذا السبب

-إذن ما السبب ؟

قال : سألته عن السر فأجاب :

-اللحم الحرام طعمه خبيث

-كيف يا عم سليم ؟

قال : أثناء اصطحابي للماعز من بيتي للحقل تقفز و تأكل من حقول الناس أو تفسد عليهم زرعتهم و ترهقني في جرها فكيف سأرد كل هذه المظالم لأصحابها…؟

حبستهم في البيت و كنت أنقل لهم الطعام فشعرت بحزنهم من الحبس

فكرت في الكمام هذا وكان فكرة صائبة، تسير معي الماعز في هدوء ، و لا تأكل حراما ، و لا تفسد على أحد زرعته

و يطيب لحمها عند أكله و ولدها عند بيعه ..!!!

هذا العم سليم الذي كان يصلي تحت شجرته و ليس لديه راديو و لم يشاهد تلفاز

استجاب للفطرة و تجنب الملوثات …! و أقام الدين بالقلب و الجوارح كما لم أر من أصحاب المجلدات الضخام …!

رحمه الله، ورحم أجدادي و موتى المسلمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى