سؤال القيمة في الظاهرة الأدبية

د. صالح زيّاد | المملكة العربية السعودية
كلية الآداب _ جامعة الملك سعود
القيمة في الظاهرة الأدبية، إجمالاً، موضوع سؤال؛ لأنها لا تستسلم للتحديد والضبط، وتستعصي على الثبات والقياس. ولو كان ممكناً أن نخضعها لعيار محدَّد لكان أول نتيجة لذلك هي القضاء على المعنى الإبداعي، معنى الصفة الأدبية نفسها، الذي لا يكون إلا خارج المعتاد والمألوف، وضد التقليد والشيوع. وهي موضوع سؤال لأن كل منظومة نظرية من النظريات النقدية، على اختلافها، في القديم والحديث، تعيد تصوَّر الأدب وتصنع قيمته، من وجهتها. وكل جنس أو غرض أدبي، يحتل رتبته وحضوره وأهميته، وتنتظم مقاييس جودته، في ضوء مقتضيات الثقافة المهيمنة، والوضع الاجتماعي التاريخي، أو الرؤية المذهبية للمدرسة الأدبية.
وللإيديولوجيات والأنساق الثقافية الحاكمة والأبنية المؤسسية انحيازاتها وبناءاتها التي تستحوذ بها على الأدب، وتصنع قيمته وفق منظورها وعلى مقاسها. والجمهور سلطةٌ مؤثِّرة في ما يَلقَى الرواج والإقبال من الأعمال الأدبية؛ إذْ يُخيِّل دلالة قِيْمة في ما يروج، تتبادل مع الأدباء المنتجين الفاعلية والتأثير، كما تتبادل الفاعلية والتأثير مع الأدب وجمهوره النظرياتُ والمعارف والإيديولوجيات والثقافة المسيطرة.
وتُلحُّ الظاهرة الأدبية علينا من حيث هي “قيمة”؛ فامتياز لغة الأدب عن اللغة العملية، وتمايز الأدباء المنشئين ومؤلفاتهم في ما تجده من إقبال الجمهور كثرةً ونوعاً وطريقة في التلقي، وما يرقى إليه بعضها من امتداد في الزمان والمكان، صفاتٌ جوهرية في الأدب لا ينفك عنها إلا بقدر ما ينفك عن صفته الأدبية. وإذا كان اتصاف الأدب بالأدبية دلالة -ضمن ما تدل عليه أصناف الفعل الجمالي الفني- على مدار متدرِّج من درجات التمييز له والرغبة فيه والإقبال عليه والتفاعل معه والاهتمام به، فإنها دلالة على القيمة التي نحملها عليه ونحمله عليها؛ فمن دون أن يتصف الشيء بقيمة، تبطل دواعي الالتفات إليه والاشتغال به، ونفقد الرغبة فيه.
هكذا كانت القيمة، على وجه الإجمال، دلالة في اللغة على القَدْر والثَّمَن والمكانة (١). غير أن الموضوعات التي توصف بالقيمة، دلالةً على مبلغ التقدير لها، تحمل تلك القيمة على الإطلاق أو على التقييد، والمنظور الفلسفي يميِّز موضوعات القيمة من هذه الوجهة: “فإن كان الموضوع مستحقاً للتقدير بذاته كالحق، والخير، والجمال، كانت قيمته مطلَقة، وإن كان مستحقاً للتقدير من أجل غرض معيّن كالوثائق التاريخية، والوسائل التعليمية، كانت قيمته إضافية” (٢). والأدب، وفق ذلك، يتصف بقيمة مطلقة، لأنه موضوع جمالي، والجمال -فيما قال كانت- “غائي بلا غاية” (٣).
وهذا التحرير للقيمة الأدبية نظرياً، لا يحررها عملياً، فالأدب من أجل التكسب أو الترويج والدعاية والتحشيد والتضليل والاستبداد، أمثلة، لاستعمال الأدب، والتنفع به، لا الاستمتاع به، ولتقييد القيمة الجمالية لا إطلاقها. ويلحق بهذا الاستعمال استعمال الأعمال الأدبية موضوعاً لدراسة القواعد اللغوية أو الأدبية وشواهد لها في عصر معيَّن، حين تقترن هذه الدراسة بانحياز إلى المنتج الأدبي لهذا العصر، وتفضيل له بحسبانه والاعتداد به أصلاً حاكماً للغة والثقافة، كما كان التفضيل للشعر العربي القديم في التراث، والأدب الإغريقي لدى اللاتين، والأدبين الإغريقي واللاتيني لدى الكلاسيكية الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وهذا يعني أنه لا قيمة أدبية، كما لا قيمة بالمطلق، من دون فاعل القيمة، أي من دون ذات تتخلَّق درجة القيمة وكيفيتها في مسافة الاتصال بينها وبين الموضوع الحامل لها. وينتهي أمر القيمة هكذا -كما هي حسابات الوعي بالموضوعات ضمن المنظور الفينومينولوجي والواقعي الجديد- إلى تعليقها بهما معاً (الذات والموضوع)؛ فهي ليست ذاتية مجردة عن الموضوع ومن ثم تصبح عصية على الضبط ورهن مزاجية كل أحد، وليست موضوعية مرتبطة بالموضوع الذي يتصف بها وإلا لكان الموضوع قيِّماً دائماً ويفرض هذه القيمة على الجميع وفي كل الأحوال.
وليس من شأننا هنا أن نبحث في القيمة الأدبية على إطلاقها، تلك القيمة التي تندرج في إطار القيمة الجمالية الفنية، وهي ما كانت دواعي تجليتها مقترنة بدواعي الدفاع عنها تجاه انتقاصها وتحقيرها من الوجهة العلمية الوضعية، حيناً، ومن الوجهة العملية، حيناً، ومن وجهة المنطق والأخلاق والحقيقة، وما إلى ذلك من أصداء الموقف الأفلاطوني واشتقاقاته، أحياناً أخرى. فتجليات تلك القيمة تظهر في كل فن عظيم وتجد برهانها في إقبال الناس على الفنون في كل المجتمعات والعصور، وفي عدم توقف حركة الإبداع الفني وتنوع أشكاله. ما هو من شأننا في هذه الورقة، هو البحث في تمايز القيمة وتفاضلها بين الأعمال والأشكال الأدبية.
ننتقي مما يتناثر في تراثنا النقدي من أحكام تتخذ من صفة في العمل الأدبي، أو من بعض أجزائه، أو من علاقة الجمهور به، علَّةً للحُكم عليه بأنه “أجود” أو “أحسن” أو “أعذب”… وما إليها، ما يرويه العُكْبَري عن المَعَرِّي وغيره، من قولهم: “أجود الشعر ما سار في الناس” (٤). وذلك لأن هذه العبارة وأشباهها تصف القيمة من وجهة العلاقة بين موضوعها والدليل عليها وهو السيرورة والانتشار في الناس. فهذه العبارة على بساطتها وتلقائيتها، تثير إشكال القيمة وأسئلتها، التي اشتغلت بها النظرية النقدية إلى الزمن الحديث الذي ألْقَت فيه الفلسفة الظواهرية بأثرها على النظرية الأدبية لا سيما في ما بعد البنيوية على السيميولوجية والتفكيكية وجمالية التلقي.
الإشكال في العبارة التي رواها العكبري، يأتي من إطلاق الأفضلية في الجودة، ومن تعميم من تنيط بهم السبب في الحُكْم بها، وهم “الناس”: فأجود الشعر هو ما سار في الناس، وما يسير في الناس من الشعر فهو أجوده. ومن هنا ينبثق التساؤل: ما هذه الجودة التي يتصف بها الشعر من وجهة سيره في الناس؟ ولماذا قَصَرت العبارة جودة الشعر عليها؟ ومن هم هؤلاء الناس الذين تغدو سيرة الشعر وانتشاره فيهم دلالة على أنه الأجود؟ ألا يمكن أن نتصور شعراً يسير في الناس لأسباب غير جودته التي نفترضها، أو لجودة غير التي يُستجاد الشعر من أجلها؟ وأن نتصور ناساً يسير فيهم شعر نفترض رداءته؟. وغير هذا وذاك، فإن العبارة بتضمنها حكماً بالقيمة على الشعر وسببيةً له، تشير إلى ما ترغبه في الشعر، وما يشغلها فيه وهو الجمهور والتأثير فيه. وذلك يعني أنها تصدر عن تصور للغة من حيث هي فعل لا من حيث هي دليل، وعن تصور للجمهور يحصره في نطاق سلبي وانفعالي من فعل التلقي.
ولكن في الآن نفسه، كيف نعرف شعراً جيداً لا يشاركنا غيرنا في الشعور بجودته؟ أليست سيرورة الشعر في الناس دلالة على قاسم مشترك بين ذواتهم المختلفة نحوه، وهذا القاسم المتفق عليه هو ما يتكون منه جوهر الشعر موضوع الاستجادة ووظيفته، وهو ما يحيل الاستجادة -وفق ما تطرحه جمالية التلقي- من الذاتي والانطباعي والمتغير، إلى الموضوعي؟. والعبارة بدلالتها على جودة الشعر بسيرورته في الناس تلفتنا إلى قيمة المتعة وجماليتها في الشعر، أي تلفتنا إلى التلقي بوصفه ممارسة حرة واختيارية، فلا أحد يستطيع أن يفرض المتعة والاستحسان فرضاً على أحد.
إن جماهيرية عمل أو مؤلف ما، لا تصلح على إطلاقها دليلاً على القيمة الأدبية المعنيَّة بهذه النسبة؛ فالقصص والأشعار البورنوجرافية، وقصص الجريمة، وهاري بوتر، وقصص النهايات السعيدة، وما إلى ذلك، أكثر جمهورا على مستوى العالم. وتلحق بها الأعمال ذات الوجهة الإيديولوجية والسياسية الدعائية والترويجية والوعظية والتبشيرية والتعليمية عند العقائديين. فطبيعة اشتغال هذه الأعمال وانبنائها على السطحي والغريزي والأحادي، وعدم قدرتها على البقاء والامتداد في الزمن، ودلالتها على نوعية الجمهور الذي لا يعنيه الأدب بمعناه الجمالي والثقافي… أسباب تمنع من حسبان جماهيريتها دلالة على قيمة أدبية.
وهذا يقودنا إلى تأمل ما يصنع القيمة من خارج المنتج الشعري المعيَّن، وهو ما يأتي من علاقة الأديب بسلطة أو قوة، هي السلطة الزمنية ونفوذها، أو سلطة الإيديولوجيا السياسية وثقلها، أو سلطة نسق ثقافي واتساعه. وما يتصل بسلطة السياقات هذه، في بعض وجوهها، في ما يحظى به الأديب -مثلاً- من اهتمام وتقدير نتيجة اتصال أعماله أو بعضها بقضية أو موضوع له أهميته في سياق ثقافي اجتماعي تاريخي معيَّن، ومن إكبار وإشادة في السياق المدرسي الأدبي من أعضاء المدرسة الأدبية نفسها والمتشيعين لها، ومن التمييز بين الجنسين: المرأة والرجل، الذي يكسب فيه نتاج المرأة الاهتمام والتعاطف حيناً والإهمال والتحقير حيناً آخر. وهذا غير ما يتعلق بقدرة الشاعر أو الأديب لأسباب مختلفة على طباعة نتاجه وتوزيعه والترويج والدعاية له، أو حتى باستثارة العداء له والهجوم عليه، وحصوله على جوائز.
وما يقال عن أثر هذه السياقات والمضامين، في شأن أفراد الأدباء يقال أيضاً عن تمايز القيمة بين أجناس الأدب وأغراضه، فالأجناس الأدبية وأغراضها لا تتساوى في الحضور في الحقب الأدبية والمجتمعات. والشعر الذي كان حاضراً في تراثنا النقدي العربي أكثر من غيره، ليس هو -بالمطلق- الشعر الذي تسامى على غيره من الفنون لدى المدرسة الرومانسية الغربية في النصف الأول من القرن ١٩م، ولم تكن الكوميديا والملحمة ندَّين للتراجيديا عند أرسطو، وكذا الانحياز للقصة في الواقعية، وتعاظم شأن الرواية في العصر الحديث.
والمهم في ذلك كله، على الرغم مما نرى أثره من وجهة الذيوع والتداول الذي يخيِّل القيمة الجمالية الأدبية الإبداعية ويُوهِم بها، أنه ليس بالضرورة دلالةً عليها وتمثيلاً لها. ومعنى ذلك أن القيمة الأدبية مستقلةٌ بذاتها، فإذا لم يكن داعي التقدير والمحبة إلى “الشيء في ذاته”، فإنه يكون بسبب من خارجه وذلك هو “الاستعمال” له الذي يدنو به إلى درجة تالية مما يُستعمَل من أجله وهامشية عليه. وهذا يتضمن دلالة على ما يجعل عملاً أدبياً خالداً؛ لأن صفة القيمة الذاتية فيه على ذلك النحو تحرِّره من قيود تلك السياقات الخارجية ومحدوديتها، وتتيح له التجدد في الزمن؛ والبقاء في الزمن هو، بالطبع، جوهر السؤال عن القيمة.
يمكن اكتشاف القيمة المحمولة على الأدب، في تراثنا النقدي، (والمؤلفات التي تتناول الأدب موجَّهة في التراث إلى الشعر أكثر من غيره من الأنواع) من ثلاثة مصادر:
أ- الكتب البلاغية التي تتضمن الأوصاف التي تتحقق بها مزيَّة البلاغة في الكلام، وضمن ذلك بلاغة الشعر، والأسباب التي بها يجود ويُستحسَن.
ب- الرسائل والوصايا، التي كتبها معلمون للبلاغة أو شعراء.
ج- الكتب النقدية والبلاغية من وجهة تضمُّنها أحكاماً قيمية يصنعها المؤلفون أنفسهم أو يجمعونها من الأحكام والمفاضلات المروية عن أعلام أو عن وقائع في المجالس والمحافل، تُعظِّم أو تُحقِّر بعض الشعر والشعراء، أو تفاضل وتوازن بينهم.
وما نستخلصه من هذه المصادر، يبني قيمة الشعر (وضمنياً الأدب)على تجويد الصياغة لإحداث قدرة على التأثير في الجمهور الذي يُخصَّص من بعض الوجوه في المخاطبين به مباشرة، ويُطلَق من هذا القيد من وجوه أخرى. وهو تأثير، يُقصَد به “حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده” أو “لمجرد التعجيب” (٥). وذلك برسم مسالك ووصف تقنيات، سواء من وجهة التنظير أو النصح، أو المفاضلة والإشادة أو الانتقاص، بقصد التمكين من البلوغ إلى تلك الغاية من التأثير واكتساب التعاطف نحو مقاصد الشعراء وأغراضهم، وإحداث التعجيب والدهشة.
ولم يكن غالب الاختلاف في شأن القيمة الأدبية، في تراثنا النقدي، إلا في التصورات والأذواق حيال ما يُحدِث التأثير ويقوِّيه، ومن يتلاءم معه من المتلقين. فالآمدي -مثلاً- الذي يميل إلى البحتري، يحصر من يُفضِّل أبا تمام في “الشعراء أصحاب الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام” ومن يفضِّل البحتري في “الكُتَّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة” (٦). وكان في أحكام القيمة المختلفة الموجَّهة إلى الشعر في تراثنا النقدي دلالة على الإحالة على ثنائيات متضادة، يغدو هذا الحكم بالقيمة أو ضده، مقتضى لما يفرضه الانغلاق بين طرفي الثنائية المتقاطبين من تراتبهما وعلو أحدهما وأفضليته على ضده. فلا معدَّى عن تمركُز أحد الطرفين المتضادين في ضوء السياقات التي صنعها العقل الثقافي لتضادهما.
ويمكن للمرء أن يكتشف تمزَّق القيمة الأدبية بين تلك الثنائيات، وصراعها الذي لم يتوقف، من حيث يغدو ذلك لحمة التاريخ النقدي للظاهرة الأدبية وسداه. فليس من معْلم بارز في تاريخ أدبنا العربي في التراث النقدي، أكثر من لحظات الصراع التي صنعها تلقِّيه والاستعمال له، وهو صراع تشكَّل في ثنائيات: الطبع/ الصنعة، عمود الشعر/ البديع، الأوائل/ المحدثين، المعنى/ اللفظ، الوضوح/ الغموض، الصدق/ الكذب، الشعر/ النثر (الكتابة – الخطابة)، وما يشبهها ويتفرع عنها. وذلك حين يأخذ الطرف الأول في الترتيب الوارد هنا للثنائيات مركز الحكم على القيمة في وجهة، أو يُعكَس الترتيب فيها ليكون الطرف الثاني هو الأول ومن ثم مركز الحكم على القيمة في وجهة أخرى.
ولم يكن التحول الظاهر من تمركز إلى آخر في تراثنا، يفارق إلى منظور جذري للقيمة الأدبية يقضي على الثنائيات ويؤسس لها خارج ذلك التمزق، ويعيد بناء النظرية النقدية الأدبية من أساسها. وظل مركز القيمة متحدِّراً حتى عند أنصار البديع والمحدثين واللفظ، من خارج ما ينتصرون له وما هو في المقابل منه، فليست نُصرتهم إياه إلا تأولاً له ينتهي إلى تكريس المعنى (وهو لديهم ما يقصده المتكلم، ويعمد إلى إحداث التأثير نحوه وبه)؛ فيغدو اللفظ الذي ينصرونه صورة له ونظماً وتقوية وبلاغة وبراعة في الصياغة والصنعة. ويغدو البديع إفراطاً في ما اقتصد فيه القدامى (٧)، والغموض إرادة إخفاء للمعنى لـيكون كـ”الشيء إذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى وبالمزية أولى” و”كالجوهر في الصدف لا يبرز إلا أن تشقه عنه” (٨).
وظاهرة الثنائيات المتقاطبة المهيمنة في تلقي الأدب ودرسه لدى أسلافنا، ليست ظاهرة خاصةً بهم، بل هي ظاهرة لدينا نحن المعاصرين، وليست لدينا نحن الدارسين في السياق العربي، بل نجدها في السياق الغربي القديم والحديث، وهي في المحصلة صفة بنية ذهنية لها عموم إنساني، مرتبطة بوضعية أو أخرى للتمركز العقلي والثقافي: التمركز المتداعي من وإلى الذات/ الآخر، الكلام/ الكتابة، الروح/ الجسد، العقل/ العاطفة، الذكر/ الأنثى… إلخ. وهكذا كانت في النسق ذاته الذي لا ينفك عن التمركز في ثنائيات: الاستعمال/ المتعة، الواقع (الحقيقة -التاريخ)/ الشعر، الجدي/ اللعبي… إلخ.
غير أن هذه الثنائيات ليست طبيعية بل ثقافية، وهذا هو المدار الذي تمخضت عنه أكثر اشتغالات الفكر السيميولوجي والتفكيكي عمقاً وأهمية. فلا أحد يمكنه أن يتصور طَرَفاً من الثنائيات المذكورة خارج دلالة اللغة عليه، أي خارج ما يجعله مُدرَكاً للإنسان من حيث هو علامة، وهي علامة تُعرِّف به وتُدْرجه في موضعه من القيمة والمعنى والأهمية والشعور، والإنسان لا يعرف عن عالمه إلا ما تسمح له اللغة (٩). ولو أخذنا “الواقع” أو “الحقيقة” أو “المعاني المطروحة في الطريق” مثالاً، على وجود موضوعي، فإن هذا الوجود وجود مبني ومؤوَّول على هذا النحو أوذاك، وجود في النهاية متعدد وغير ثابت، لأنه لن يكون مُدرَكاً، أي لن يكون موجوداً بلا ذات تدركه وتسميه. وهي ذات مجتمعية تمثلها اللغة، وذات مفردة تستعمل اللغة استعمالاً خاصاً بها.
والنتيجة التي ننتهي إليها من ذلك، متعلقة بما انبنى على تلك الثنائيات من قيمة، مسبَّبَة عن تقاطبها الذي يُنتِج تفضيلاً وانحيازاً لأحد طرفيها. فإذا كانت ثقافية وليست طبيعية فهي ليست حتمية إلا في السياق الثقافي والعقلي الذي يحكمها وينحكم بها. وللمنتج الأدبي في سمات كينونته الأدبية، خاصية الجمع بين تلك الثنائيات واحتوائها، لا على سبيل التوحيد لها أو إلغائها، فهو لا ينقطع عن المألوف الأدبي وأفق التوقعات بالكلية (=عمود الشعر- طريقة العرب، مثلاً) ولا يطابقها بالكلية بل لا بد -وفق ما كشف عنه ياوس ضمن جمالية التلقي- من أن يحتوي كثيراً أو قليلاً على “مسافة جمالية”، وهو تاريخي ولا تاريخي، وغائي ولا غائي، فيه من الطبع ومن الصنعة، ومن الوضوح والغموض، وفيه من الذات ما فيه من الآخر، ومن الفرد ما فيه من المجموع، ومن الصدق ما فيه من الكذب، ومن الخلوص لنوعه الأجناسي ما فيه من الانفتاح والتداخل والتحاور مع غيره من الأجناس.
هذا ما يفسر القيمة الأدبية المقصودة في حديثنا؛ فهي قيمة لا تتنازعها أضداد الثنائيات من وجهة ناظر يبحث -من وجهته المتمركزة في أحد طرفي الثنائية- عما تتقوى به قدرة العمل الأدبي على فعل التأثير، الذي لا يَبْقَى لوعي من يتسلط عليهم سوى الإذعان له من غير روية، بل قيمة يمتلكها العمل الأدبي بقدر ما يحوي من تعدد دلالي، يجعله دائم الاستدعاء لفعل التأويل، ولفاعلية القراءة، ومستمراً في الجاذبية والتأثير، أو قادراً على التجدُّد بها في أزمان قراءته في المستقبل بعد انقضاء زمن نشأته. وهي قيمة نجد فيها العلة المفسِّرة لحيوية أعمال أدبية قديمة وخلودها، ولتعدد أشكال التناول لها وقراءتها: قيمة لا تنفك عن مدى ما يقتدر عليه العمل الأدبي من تفكيك للأحادية وخلخلة للجمود والثبات وانغلاق الوعي، ومن نقض للتمركزات على الذات أو المنطق أو الإيديولوجيا أو المألوف.
ولم تستطع النظريات والمناهج النقدية الكشف عن تلك القيمة والاعتداد بها، سواء ما اتخذته المقاربات السياقية من تعرُّف على العمل الأدبي بتاريخه أو بمجتمعه أو بمؤلفه، أو ما اتخذته الشكلانية والنقد الجديد والبنيوية من احتفال بالعمل في مكوناته وعلاقاته بوصفه، عالماً مكتفياً بذاته. وسواء ما اتخذته الوجهات الإيديولوجية والوجودية من منظور “الالتزام” أو ما اتخذته الوجهة الجمالية الخالصة من منظور “الفن للفن”. فالقيد السياقي الذي يحيل العمل إلى وثيقة وينظُر إلى المعنى بحسبانه كينونة مستقلة وسابقة على النص، لا يختلف عن الشكلانية التي تهمل المعنى وتتحاشى الحديث عنه، وذلك من وجهة ما يجنيانه على القيمة الأدبية، حين يشيعان عن العمل صورة متكررة وسطحية وآلية، أو عقماً وجفافاً. وهي الجناية نفسها التي يقترفها الالتزام أو الجمال الخالص، كل من وجهته في التمركز الذي يتسلط على المتلقي ويستبد بالمعنى أو يهدره.
ومن الواضح أن تعبير كارل ماركس عن صعوبة التفسير للسبب الذي يجعل أعمالا أدبية قديمة تواصل إمدادنا بالمتعة الفنية بعد أفول المرحلة الاجتماعية التي تعكسها، في مقابل سهولة القول الماركسي بانعكاس الأدب عن مرحلته في التطور الاجتماعي (١٠) – من الواضح أنه تعبير دال على افتقاد المنظور الماركسي الإجابة عن تلك القيمة، ولكنه دال -أيضاً- على جوهريتها في الظاهرة الأدبية بما يجاوز بها سياقها وشكلها المغلقين. ويصدق ذلك على كافة المقاربات السياقية للأعمال الأدبية، من وجهة إحجامها عن مقاربة القيمة الأدبية في جماليتها التواصلية والتفاعلية. وهو الإحجام نفسه الذي وقفته النظرية النقدية من وجهة الانحصار في العمل الأدبي ذاته. وهو لا يعني بالطبع، أن تلك المقاربات الخارجية أو الداخلية لا ترى في الأدب قيمة، ولكنه يعني أن ما عنيت به من قيمة سواء في الانكباب على ما يفسِّر الأدب ويوظِّفه في جانب علاقته بمرجعيته السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية والإيديولوجية والذاتية، أو في علاقات وجوده الموضوعي الشكلي والبنيوي، يخفق في الإجابة عما يفسِّر قيمة الأعمال، ويصنعها، خارج قيدها السياقي، وخارج محدوديتها في ذاتها.
وإذا كان من المؤكد أن ما ينطوي عليه العمل الأدبي من تعددية وقابلية لابتعاث قراءات مختلفة هو سبب خلوده وحيويته وتجدده في الزمن؛ لأن تصورنا للعمل الأدبي منغلقاً على معنى واحد وملتصقاً به، ينفي حاجته إلى أي قراءة جديدة غير قراءة الأسلاف له، ويقف به عند حدودها، فإن سؤال القيمة الأدبية في ما بعد البنيوية مازال يتضاعف: فهل تتعدد دلالة النص الأدبي بلا حد، على نحو ما تفصح عنه تفكيكية جاك دريدا؟ أم تتعدد بحدود يشرطها أمبرتو إيكو بما يتيحه النص وحسب من ممكنات، وما يفترضه من قارئ، وهي الشروط التي ينشأ عنها لديه مفاهيم “العوالم الممكنة” والتشارك النصي” و”القارئ النموذجي”(١١)؟. وهو الأفق الشرطي نفسه لدى فولفجانج آيزر، فالنص لديه يرسم استعدادات مسبقة لكي يمارس تأثيره، وهذه الاستعدات هي ما قاده إلى اقتراح مفهوم “القارئ الضمني” بوصفه بنية مغروسة في النص، تستدعي “التفاعل بين النص والقارئ”، عن طريق الفراغ الباني الذي يسكن النص في مواضع البياضات والفراغات وعدم التحديد والاحتمال وعدم التناسق؟ (١٢).
والنتيجة التي نستنتجها، في عرض القيمة الأدبية على هذا النحو، متعددة الوجوه؛ فهي لا تفسِّر فقط إقبالنا على أعمال أدبية قديمة أو أجنبية والشغف بها، بل تجعل القراءة لها -فيما القراءة وفق مفهومها- تجديدا وتوسيعاً مستمراً لها. وهي تدلنا على تمايز درجات الوعي الثقافي والاجتماعي، فلا يمكن إدراك القيمة “النصية” للأدب في مجتمع أمي، كما لا يمكن تقدير إنتاجية القراءة وفاعليتها في مجتمع مستبد. وبقدر ما يغدو إدراك القيمة الأدبية قَدْراً مقدَّراً من التفاعل والإنتاجية بين النص وقرائه، وليس استلاباً من النص لجمهوره، فإننا ندرك الظاهرة الأدبية بوصفها فعل ترق للإنسان وتحريراً لوعيه وفاعليته.
وإلى ذلك فإن الوعي بالقيمة الأدبية في مسافة اتصالها بالمتلقي لها، يطامن من الحدّية والإطلاقية في معاني الأدبية والجمالية، فلن نجد تعريفاً للأدبية يفصح عن ماهية قارة وثابتة في ما يصدقه، ولذلك فإن ما يمكن حسبانه أدباً في عصر لا يبقى كذلك دائماً، وكتاب “ألف ليلة وليلة”، الذي لم يكن له حساب أدبي وجمالي في تراثنا الأدبي مثلاً، بات إحدى الروائع الأدبية العالمية الملهِمة في العصر الحديث. وبدلاً من حصره في معنى لاه ومسلٍّ يليق بالطبقات المتدنية في سلم الثقافة، أو تصويب سهام الحط منه والنقمة عليه توهماً لما ينتج عنه لدى قرائه من اهتراء أخلاقي وعبث بالحقائق والقيم، أو تقييده بمرجعية في زمان تأليفه ومكانه ومؤلفه وثقافته، أو المُكث عند مستويات بنيته السردية المجردة، بدلاً من ذلك كله أضحى مجلى لقراءة الوجود في وقائع منه لا في مفاهيمه المجردة، والإمساك بالجماعي والمشترك، فلم يعد نصه مستودعاً لمعنى محدد وثابت، بل طاقة مولِّدة للمعنى الذي يتعدد ويختلف تبعاً لما يبنيه النص من فراغات ورمزيات واختلاف وما يوحي به ويستثيره، فأخذت القراءات المتعددة له تتفاعل معه لتصنع معانيه التي هي معانيها، باتجاه المخاوف الإنسانية، والقلق الوجودي، والمغامرة في المجهول، والحفاوة بالزمن، وتعميق الوعي بما يضاد الإنساني، ويكشف عن التمييز ضد المرأة، والمجتمعات الذكورية، والطبقية… إلى آخره.
وإذا كان لقرَّاء العمل الأدبي، الذين يجتذبهم فتتحقق له بهم القيمة من حيث هي دلالة على العمق والسمو والخلود، إذا كان لهم تجليةُ القيمة والدلالةُ عليها، فإن القرَّاء المعاصرين للعمل والمحليين له ليسوا أكثر دلالة عليها من الغرباء عنه في الزمان والمكان. ونحن الآن -فيما يُفترض- أكثر تجلية ودلالة على القيمة في روائع أدبنا القديم، أو في الآداب الأجنبية، منَّا على تجلية القيمة والشهادة عليها في الأعمال المعاصرة والمحلية لنا. وقد تبطل أحكامنا وتأويلاتنا القيمية الأدبية لدى أخلافنا مثلما تغيرت أحكامنا وتأويلاتنا للمعاني عن أحكام أسلافنا وتأويلاتهم. ولا يكْمُن في ذلك كله، أن قيمة الأدب لدى قرائه دلالة عليهم، وحسْب، في وعيهم واشتغالاتهم ورؤيتهم للعالم، بل دلالة أيضاً منهم عليه.
الهوامش:
(1) انظر مادة “قيمة” في معاجم اللغة.
(2) جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، ١٩٨٢م، ،ج٢، ص٢١٣.
(3) نقد ملكة الحكم الجمالي، ضمن: نقد ملكة الحكم،ترجمة: سعيد الغانمي، أبو ظبي وبيروت: كلمة ومنشورات الجمل، ٢٠٠٩م، ص١٢٣.
(4) التبيان في شرح الديوان، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، ١٩٥٦م، ج٣، ص١١٧. ومعنى “سار في الناس” أي شاع فيهم، وتناقلوه.
(5) نجد القسمة للشعر من حيث ما يُحدث من أثر إلى: محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة” والأخيرة فيما وصفها حازم القرطاجني، لا يُقصَد بها إلا “ضرب من التعجيب أو الاعتبار”. (منهاج البلغاء ص٤٤، وقارن، ابن رشد، تلخيص كتاب أرسطو، ضمن كتاب أرسطو فن الشعر، ترجمة وتحقيق: د. عبد الرحمن بدوي، القاهرة: مكتبة النهضة، ١٩٥٣م، ص ص ٢٠٤-٢٠٥.
(6) الموازنة، تحقيق السيد أحمد صقر، ط٤، القاهرة: دار المعارف، ١٩٩٢م، ص٤.
(7) انظر ابن المعتز، كتاب البديع، تحقيق: إغناطيوس كراتشقوفسكي، ط٣، بيروت: دار المسيرة، ١٩٨٣م، ص١، وقارن الآمدي، الموازنة، ص١٤.
(8) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ط١، القاهرة، مطبعة المدني، ١٩٩١م، ص١٣٩، ١٤١.
(9) انظر كتابي، آفاق النظرية الأدبية، بيروت: دار التنوير، ٢٠١٦م، ص ص ١٩٨- ٢٠٧، وما يحيل عليه من مراجع.
(10) ورد حديث كارل ماركس عن ذلك، في كتابه: مقدمة لنقد الاقتصاد السياسي، ترجمة: راشد البراوي، ط١، بيروت: دار التهضة العربية، ١٩٦٩م، ص١٠٩.
(11) انظر، القارئ في الحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، ط١، بيروت والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ١٩٩٦م، ص ص ٦١- ٧٧، ١٧٠- ١٨٤.
(12) انظر، فعل القراءة: نظرية جمالية التجاوب في الأدب، ترجمة: حميد لحمداني والجلالي الكدية، فاس: مكتبة المنهل، ١٩٩٤م، ص ص٢٩- ٣٠، ص ٩٨ وما بعدها.


