خصوبة الفكر النِّسوي في شعر لميعة عباس عمارة
موج يوسف | العراق
إنَّ النظرةَ الأولى في قصائد الشاعرة لميعة تضعها في خانة العاطفة، والهيام، والشوق وكأنّها احتكرتْ هذه الموضوعات لها، لكن تظّل هذه نظرة أوّليَّة، فالمتعمّق بشعرها يلحظُ أنّها قد ثارتْ وتمرّدتْ على التقاليد البالية، لا لأنّها من غير ديانة، بل كانت تبحث عن الوجود الذاتي للمرأة الشاعرة.
الأعمال الشعريَّة الكاملة للشاعرة لميعة عباس عمارة والصادرة مؤخراً عن دار الشؤون الثقافيَّة تُظهر قصائدها الأولى التي كتبتها في سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. إنّ الشاعرةَ عاشتْ مرحلة الضياع بين الوجود والعدم، وهاتان الفلسفتان قد جعلتاها تثور وترفض القيّم المترهّلة، متحزّمة بلغتها الشعريّة الأنثويّة التي تظهر خصوبة الفكر النسوي المتكللة به، فضلاً عن كشفها لجانب اجتماعي هو المدنيّة في العراق، ممّا جعل بوحها بصوتٍ عالٍ. قصيدتها بعنوان الزاوية الخالية التي ألقتها عام 1956 في دار المعلمين بدعوة من د.علي جواد الطاهر وقد جمّعها بالسيَّاب بعد فراق سنوات. تقول فيها: (أُحسُّ كأنّني نسيتُ الكلام/ نسيتُ وجودي، نسيتُ الألم/ كماكنةٍ دون ما غايةٍ/ تسيرُ وما شعرت بالسأم/ وكان فراغي امتلاء الخيال/ فصار امتلاء حياتي عدم).
إنَّ الشاعرةَ تمزجُ بين العاطفة والفكر، فسيطرت على النصّ فلسفتا (الوجود والعدم) وكأنّها تترك تساؤلات تقرع صدر المرأة وهي: أين ذاتي بين هاتين الجحيمين؟ ثم تبحث عن تأكيد نفسها تأكيداً فعلياً وذلك من خلال اللغة، والصوت الداخلي المتمثل بالضمير المتكلّم الذي ارتبط بأناها الحرّة (نسيتُ) الفعل الذي تكرر ثلاث مرات في النصّ يشير إلى حالة الضياع بالمقابل هناك حالة الوعي لتحقيق الذات، والوصول إلى الوجود الفعلي، ولأنّها أنثى فهذا الأخير لا يتحقق إلّا بالثورة النسويَّة، عبر التحرّر من الأنساق، ونجدها في قصيدة (سائلة) شاعرة غير مكترثة للوسم الذي لصق بجبين المرأة فقط هو الحياء، فتقول: (يا سيدي من لي بالحياء؟/ أمسِ توسّدتُ رصيف الجسر/ أعدُّ بالأقدام عمرَ الدّهرِ/ خُطىً ثقالٌ خُدّرت بالخمر/ وأخرى سراعٌ ما درتْ من أمري/ يا سيدي من لي بالحياء؟/ طوّفتُ في المقهى مع الدخان).
الأبياتُ السابقة فيها خيالٌ متمرّدٌ، فهي توسّدتْ الرصيفَ ليلاً، وأُثقلت خُطّاها بفعل سيطرة الخمر على عقلها، ودخان المقهى يملأُ رئتها. تصوّر نفسها بسلوك الرجال وتسأل: يا سيدي من لي بالحياء؟، هذا السؤال يستفز القانون الاجتماعي، فهل الحياء مرتبط بالمرأة من دون الرجل؟، وهل هذا الأخير إن مارس كلّ حياة المجون والتسكّع تبقى أخلاقه بلا مساس؟، إنَّ الشاعرة ثارت عبر تقليدها السلوك الشائع عند أغلب الرجال، ومنه تعلن تمرّدها على القيم التي تحاصر المرأة أكثر من الرجل.
لعل ما يلفتُ نظرنا في الأبيات أنّها استعملت لفظة (سيدي) عندما خاطبت الآخر الرجل، وبحسب اعتقادي أن تمرّد الشاعرة كان خجولاً فهي لا تريد أن تتعدى على سلطته، لذلك كان عنوانُ النصّ (سائلة) وهذه التساؤلات تضمر ثورتها عبرها، فإن قُمعت ستكون هي متسائلة فقط!!، والفلسفة هي تساؤلات وشك تقود الإنسان إلى تحرير نفسه وهذا الذي كانت تدعو إليه الشاعرة بالمقابل تعلن انسحابها من الحياء، وتقول في الختام: يا سيدي عُذرك عن هرائي (سأستحي.. ستستحي امعائي) وإنّ من المساوئ أن يبقى الحياءُ خاصاً بالنساء لا غير!!!.
أليستْ هذه الأفكار والتقاليد تبدو كأساطير نمقها الأولون؟، في قصيدة شهرزاد تعود الشاعرة بفكرها النسوي الخصب جاهرةً بالتمرّد فتقول: (ففيك عرفتُ النبيّ الوديع/ وما كنت أعرفُ إلّا ذئاب/ هوانا وأشواقُنا الخالدة/ وثورةُ أرواحنا الحاقدة/ لأعجز من أن تمدّ يداً/ تمزّق أسطورة بائدة/ أساطير نمّقها الأولون).
عندما تكون المرأة مكتملة الذات تصبحُ قادرةً على صُنع المركزية والهامش، ولميعة هنا مع الرجل الذي أحبّت أعطته مكانة المركز، ومع غيره الهامش. فالنبي المتن المركزي، والهامش ذئاب استعارة عن باقي الرجال فقد همشتهم عبر اللغة أولاً، فلم تقل الذئاب معرفة بـ (الـ) التعريف بل قالت: ذئاب جاءت نكرة وهذا تهميش لغوي، وربما قد يقول أحد القرّاء: إنَّ ضرورةَ الوزنِ هي من فرضت على الشّاعرةِ أن تحذفَ (الـ) التعريف، لكنّني أرى أن السياقَ اللغوي الذي اجترحته الشاعرة يُعيدُ الرجال إلى الهامش، ومن جانب ثقافي أنّها سلبتْ منهم صفات الإنسان، وأضفتْ عليهم صفات الذئب المعروفة بالغدر والكبرياء.
ولم تكتفِ بهذا الحدّ، بل سعتْ لتهشيم صنم الأفكار الموروثة التي جاءت بقولها (أساطير نمّقها الأولون) وبالرغم من تمرّدها لكنّها تعجز عن تمزيقها، واكتفت بالثورة اللغوية عليها عبر توظيف الفعل نمّق بمعنى زيّن وبالغ في التزيين، لا صحة لوجود هذه التابوات فلا قدسيَّة فيها إن هي إلّا تنميق من الإنسان. الشاعرة بأغلب قصائدها خصبة بالفكر النسوي وهذه فرصة لدراستها من هذا الجانب المهم، ومنه يمكن قراءة المرأة الشاعرة ومجتمعها في تلك المرحلة التي أنتجت شعراً حديثاً خرج عن النسق وتحرر منه كما فعل شعراء جيلها أيضاً.