الفكر العربي في مواجهة مفاهيم وأطروحات الاستشراق
عماد خالد رحمة | برلين
عانت النهضة العربية من العديد من المآزق التي ألقت بتبعيتها على عاتق المفكرين والمثقفين العرب. حيث لحق بالعديد منهم الاتهام بالقصور والعجز والنخبوية والاغتراب والابتعاد عن الناس وهمومهم، والتأدلج الفج. وهذا ما دفعنا لنجري ما يمكن أن نطلق عليه مراجعة سريعة لموضوع التفكير وعلاقة المفكر والمثقف بالمجتمع، ودورهما في النهوض والارتقاء من خلال ما يبدعانه من رؤى نهضوية تجديدية. بخاصة وأنَّ الثقافة العربية لا تزال في حالة جمود وغير متفاعلة مع العصر ومتغيراته المتسارعة .فقد رصدنا ما قاله في هذا الشأن الكاتب والروائي السعودي تركي الحمد الذي أكَّد غير مرة أنَّ الثقافة تجتر نفسها وفق نمط وأسلوبٍ معين من دون أن تملك القدرة الحقيقية على تجاوز بنية فكرية أو عقلية محدّدة بشكلٍ مسبق. فيما أعاد الكاتب والباحث والمفكر والمترجم السوري هاشم صالح الانسداد الحضاري التاريخي الذي يعانيه العرب إلى أسباب ثقافية، ذهب الكاتب والفيلسوف والمفكر اللبناني علي حرب إلى أن مشكلة المثقف هي في الدرجة الأولى مع أفكاره، وبنيته العقلية و(الإبستيمولوجية) المعرفية. كما ذهب وزير الاتصالات اللبناني الأسبق شربل نحاس أمين عام حركة مواطنون ومواطنات في دولة .إلى أن المثقفين العرب تخلوا عن الفكر النقدي لانعدام جرأتهم في مواجهة القضايا الأساسية التي تهم الأمة والمجتمع والدولة، ورأى المفكر والكاتب الفضل شلق الذي ألّف أحد عشر كتاباً في موضوع الأمة ،والدولة ،والنهضة ،والثقافة أن المثقفين العرب لم يبادروا أبداً إلى نسج سياقات فكرية تحقق الأمن الفكري والثقافي والمعرفي والاجتماعي.
على خلاف تلك الأحكام القاسية والمجحفة نرى أنّ الفكر العربي المعاصر كان وما يزال يتميز بالحيوية على الرغم من كل المعيقات والكثير من الحواجز، وأنَّ فئة من المفكرين والمثقفين العرب انغمست حتى الصميم في مواجهتها وتصديها لتراجع العالم العربي وتخلفه ونكوصه وارتكاسه. وتكلس بناه السياسية والاجتماعية، وقد أبدعت رؤى فكرية ومشاريع ثقافية وتصورات هامة فلسفية ترقى في جانب منها إلى العالمية. الأمر الذي تؤكده إسهامات المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري مؤلف كتاب ( نقد العقل العربي)، ويعمل في الحقل الآخر المؤرخ والمفكر والفيلسوف الجزائري محمد أركون الذي كتب ثمانية عشر كتاباً في مجال الفكر العربي والفكر العالمي والفكر الاسلامي والعلمنة، والدكتور ناصيف نصار المفكر والاستاذ الجامعي اللبناني، والمفكر والمؤرخ الروائي المغربي عبد الله العروي، وعبد الرحمن بدوي أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم انتاجاً، وعلي أومليل المفكر والفيلسوف والناشط الحقوقي الدبلوماسي والسياسي المغربي، والكاتب والمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز أمين عام المنتدى المغربي العربي في الرباط، وسواهم، فقد طرح هؤلاء طرحاً نقدياً إبداعياً متميزاً، حول أسئلة التاريخ،والتراث ،والحداثة، والدولة، والسلطة، والحرية، والأمة، والفرد، والدين، والعقل، والعلمانية .وسوى ذلك من الأسئلة الكبرى التي لا تزال تشغل الفكر الفلسفي العربي والعالمي في عالمنا المعاصر.في هذا السياق المتشابك تم الحديث عن منجز المفكر المغربي محمد عابد الجابري ( نقد العقل العربي) الذي دافع من خلاله عن الحداثة كخط أفقي وعمودي على مكاسب التاريخ المعاصر المنطلق من المدخل الأساس لنقد التراث، ونقد عمليات وآليات الفكر العربي السائدة في الثقافة العربية والحياة الفكرية العربية.
المفكر محمد عابد الجابري توسّل المنهج (الإبستمولوجي) المعرفي في تبيئة المفاهيم والآراء والأدوات المستقاة من الحقل (الإبستيمي) المعرفي الغربي داخل فضاءات (إبستمولوجية) معرفية في الثقافة المغربية بشكلٍ عام، وفي مجال التراث على وجه التحديد. وإذا كان حضور (الإبستمولوجيا) المعرفة في فكره انتقائياً ذرائعياً، بحيث لا نكاد نقف على نظرية (إبستمولوجية) معرفية نسقية وراء نصه بل نصوصه المدوّنة، إلا أنَّ ذلك لا ينتقص من نتاج هذا المفكر العربي الكبير الذي وظف المفاهيم (الإبستمولوجية) المعرفية لكبار المفكرين (الإبستمولوجيين) المعرفيين الفرنسيين في كتبه الهامة، مثل مفاهيم (الذات) و(الموضوع) و(البنية) و(القطيعة) وسوى ذلك من المفاهيم والآراء والمعارف التي شكَّلت أساس المنهج الإبستمولوجي في العالم.
في سياقٍ متصل مع بنية العقل والتفكير العقلاني، وفي سياق النقد (الأبستمولوجي) المعرفي نذهب لقراءة مفهوم النقد في مشروع المفكر الجزائري محمد أركون، حيث نرى أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بينه وبين المنهج الذي يرتكز في بنيانه على الاطلاع المزدوج على التراث برمته وعلى الثورة (الإبستمولوجية) المعرفية الحديثة. وقد اعتمد المفكر محمد أركون في هذا الإطار منهجاً تفكيكياً متساوقاً مع المنهج التفكيكي لجاك دريدا بغية استكشاف مستويات التراث الغني والزاخر بالأحداث والمفاصل الهامة ،وزحزحته عن مساره التقليدي المألوف. وهذا يعني أنَّ منهج التفكيك من المنظور الأركوني تعرية آليات الفكر وبنيان العقل الذي ولَّدَ التشكيلات الأيديولوجية والنظريات والأنظمة الإيمانية و(الإبستمولوجية) المعرفية، من أجل نزع البداهة عنها والبحث عن ماهيتها وتبيان جذورها ومنشئها التاريخي ونسبيتها. أما الهدف من السعي العملي على خطى التفكيك، فهو اكتشاف الأجزاء المخفية والمضمرة من خطابٍ ما، ومعرفة كيف تمارس دورها العملي ضمن الماهية والبنية العامة للفكر من أجل إقامة معرفة واضحة وصريحة ومعرفة أفضل بالظواهر البشرية والتاريخية والاجتماعية ومعرفة كيف تشكلت وانبنت وترعرعت على أرض العصاب الفكري.
إذا كان المفكران الباحثان محمد عابد الجابري ،ومحمد أركون قد عنيا بسؤال التراث وبنية العقل الأيديولوجي العربي والمنهج المتبع بشكلٍ عام، فإنَّ المفكر والفيلسوف والناشط الحقوقي علي أومليل ركَّز إلى جانب هذه الأسئلة، على أسئلة الفكر الغربي بغية بناء خطوط عريقة متساوقة مع المنهج ،وبغية إجراء مقاربة فكرية تتميز بالتعدد والخصوبة في الطرح، من دون إسقاط الأفكار والمفاهيم التراثية على الحاضر، وانطلاقاً من الاهتمام بتاريخية الأفكار ـ أي بصيرورتها ـ على الضد من الذين يعتقدون أن ما جاء به التراث عبر سيرورته بكل تشعاباته وتلاوينه وتنوعاته ،يخترق الزمان، وأنه لا مجال لتعدّد المعنى، وبالتالي لا مجال لتلك القراءات المتعدّدة. وفي الوقت نفسه شدَّد علي أومليل على معرفة أصول الفكر الأوروبي بتاريخيته وتفاصيله الشديدة ومفاصله الهامة، فالباحث الحصيف عليه أن يتقصى ويتبيّن أصول الأفكار والمفاهيم لمعرفة حقلها التداولي العملي على أرض الواقع كي يكون على وضوح تام من حدود استعمال التراث.وهناك من ركّز بشكلٍ قوي على سؤال الحكم وقوة السلطة والعلاقة بيتن السلطتين السياسية والدينية ، من أجل أن نصل إلى القول النهائي: إن الشكل الصحيح لتلك العلاقة بينهما هو شكل الاستقلال الذي يضمن لكل سلطة قيمتها ومكانتها بناءً على عقلانية منفتحة على الحياة الدينية والطائفية والمذهبية، التي تسعى إلى موقعتها ضمن النظام العام للوجود الإنساني، من دون إسقاط المقولات الدينية على السياسة ،أو إسقاط المقولات السياسة على الدين، إذاً هي قضية تبادلية بامتياز، إذ لا يمكن الحديث عن سلطة مقبولة في الحياة الإنسانية، إلا إذا كانت تؤمن بوجود الآخر ، وتؤمن أيضاً بالرأي والرأي الآخر، كما تؤمن دون تردّد بالتعددية والحق في الاختلاف، وهذا ما لا تقبله السلطة الدينية. فالأجدى إذاً إعادة كل سلطة أو كل حكم إلى نطاقها الخاص من دون إخضاع أو إجبار ومن دون استخدام إحداهما للأخرى مهما كانت الظروف.
الجانب الآخر من البحث نجد أنَّ المفكر والمؤرخ الروائي المغربي عبد الله العروي قد ركّز في مشروعه الفكري على سؤال الحداثة حصراً التي من أظهر وأهم مقوماتها وتجلياتها مقوّم الذات الفردية. فقد ذهب في دراساته وأبحاثه المستفيضة إلى إعطاء المواطن العربي ككعقل وكإرادة ، وككائن حي، وسائل الاستمرار والنجاح في عالم اليوم. لكنه رفض رفضاً قاطعاً تصور المواطن العربي خارج الدولة، أو التمييز حدياً بين المجتمع والدولة. فالمواطن الفرد أو (الذات) التي فكَّر فيها، هي الذات المتفاعلة مع المجتمع والدولة. في المقابل رفض عبد الله العروي الآراء والمفاهيم المناقضة لمفهوم الذات التي من شأنها أن تسحق المواطن الفرد، فتذوب (الأنا) في (الكل) أو نذوب الــ ( نحن ) في الــ ( هم) وتذيب ذاتية المواطن الفرد في بئرٍ لا قرار لها.