جمالية السرد في مجموعة “رقصة الطواويس” لـ”أحمد الجنديل”
أ. د مصطفى لطيف العارف | ناقد وقاص عراقي
يعد السرد فرعا من أصل كبير هو الشعرية القائمة على استنباط القوانين الداخلية للأجناس الأدبية ,وحتى وإن عدل عن هذا المصطلح الدكتور علي جواد الطاهر إلى مصطلح القصصية بحجة أن مصطلح السردية إذا رفع عنه المقطع (يه) صار لا يعني الفن القصصي إنما صار يعني عنصرا من عناصره أو جزء من أجزائه حين يتدخل الراوي فيعرض الحادثة ,أو يعلق عليها,ويتدخل المؤلف المسرحي ليدل المخرج أو المشاهد على ما لم يكن في النص, لقد فتح النقد الأدبي الحديث المجال واسعا أمام هذا المصطلح فاكسبه دلالات أوسع من القص أو الحكي حتى صار يعني كل عمل طابعه الحكي أو الحبك, سواء أكان مكتوبا أم منطوقا أو مرئيا أو مسموعا, أي انه كل عمل تضمن قصة أو رواية بغض النظر عن مظهره التعبيري, وبناء عليه صار السرد يشتمل على القصة والرواية والمسرحية والحكاية الشعبية والأسطورة والحلم والشريط السينمي والنكتة والحزورة والحديث الإذاعي, وغيرها كثير, وهذا هو المفهوم الذي تتبناه هذه الدراسة – بل أن تودوروف الذي وصل إليه أمر السرد من الشكلانيين الروس ثم أبحاث دي سوسير اللغوية, ومن جاء بعده من الالسنيين ,لم يعد لديه الموضوع الحكائي ديدن السرد بل أصبح العالم كله لديه قابلا للسرد, فالفلسفة سرد للفكر الإنساني, وعلم الاقتصاد سرد للحاجة, والندرة المتصارعة مع قانون العرض والطلب, ومن ثم أصبحت كل الأفعال في الوجود تمثل سرد الأنا المنطوية في العالم, ما يميز الروائي والقاص( احمد الجنديل) تناول عدة أمكنة , وشخصيات ,وإحداث متسلسلة , وأزمنة كثيرة, في مجموعته القصصية (رقصة الطواويس) لكنها جاءت متناسقة مع لغته السردية المعبرة عن ثقافته الواسعة, وشاعريته المتدفقة ,وقدرته على الصياغة اللغوية , فنراه يقول: – زوجي عبد الرحمن معطوب في تفكيره وفاسد في سلوكه, وسافل في طموحه كان يملك الدكتوراه في العهارة السياسية وليس في علومها, يشرب الإسلام بكاس وثنية مرة, ويكرع الكفر بكاس محمدية مرة أخرى إذا درأت بوصلة مصالحه نحو لندن ارتدى قبعة تشرشل , وإذا انحرفت باتجاه موسكو كسا ذقنه بلحية لينين [1]
درج العرف النقدي, ولاسيما التقليدي على التفريق بين القصة, والشعر, بوصفهما نوعين مختلفين , فالقصة فن نثري يكمن الإبداع فيه في بنيته الحكائية , وطرائق رسم شخصياتها , على حين بني الشعر على نظام لغوي تتراجع فيه الوظيفة اللغوية إلى الوراء ,وتكتسب الأبنية اللغوية قيمة مستقلة[2], وكلما اقترب القصص من شرط الشعر ازدادت دقة كلماته أهمية,وكلما تحرك الشعر صوب السرد قلت أهمية لغته الخاصة, جمع القاص احمد الجنديل بين الشعر, والقص في مجموعته القصصية الجديدة , فنراه يقول : أربع قصائد ألقيت تحول فيها رشيد إلى أذان صاغية تتلقف ما يقال مستنفرا قدراته النقدية لفرز ما هو جيد أو ما هو غير ذلك , بعدها جاء دور شاعر جديد كان أكثر من سبقوه أناقة ووسامة , وبصوت هادئ وناعس يشبه إلى حد كبير صوت صبية مدللة, بدا ينشد :
الجلسة تفتح بعد قليل,
والسجان يداعب سكين الذبح
وعلى جبهة قاضي العدل ,
وشم يرمز للعدل وللحكمة
وعلى جدران القاعة , انتشت ايات تدعو للرحمة [3]
وفي هذا الصدد نود الإشارة هنا إلى نظام المهيمنة الذي قال به الشكلانيون الروس,ويعني بروز احد الأنساق البنائية,وتحكمه بالعناصر الأخرى بوصفه العنصر البؤرة في الأثر الأدبي[4],فإذا ما قلنا: السرد في القصة, واللغة في الشعر, والحوار في المسرح, فهذا لا يعني وجود عناصر أو انساق بنائية غير ما ذكر في الأجناس الأدبية المشار إليها(القصة- الشعر- المسرح), إنما هذه العناصر هي مهيمنات فرضت حضورها على عناصر اقل حضورا منها في الأجناس المشار اليها, واستنادا إلى هذا الفهم فان القصة إذا ما قررت الدخول في الشعر ,فإنها تدخل بأدوات الشاعر ,وعناصره بوصفها ضيفا مؤدبا على الشعر, ومن ذلك إهمال التفصيلات والميل نحو التكثيف,والإشارة السريعة واللمحة الخاطفة الموحية المتعددة التأويلات,وعدم الاستغراق في وصف إبعاد الشخصيات ,وتحديدها, وتفصيلاتها,لان الشعر معني بالوقوف عند انفعالات النفس,أي انه يتحدث عن كوامن الأشياء وانعكاساتها في الذات المنفعلة بها, هذا من جهة القصة, إما من جهة الشعر فهو إذا ما قرر استضافة القصة فعليه التنازل عن بعض مميزاته لكي تتمكن القصة من اخذ مكانها المناسب فيه, ومن تلك المميزات اصطباغ الشعر بطابع التقريرية والمنطقية, ولاسيما في الوصف, الأمر الذي يجعل ألفاظه تشير إلى اتجاه واحد هو المباشرة,وهذا يفضي إلى انكماش القدرة الإيحائية لبنيته اللغوية عند حدود الدلالة المعجمية ,ومن ثم تقل أهمية اللغة الخاصة به لتصبح اقرب إلى الأسلوب النثري, وانه سيقاوم محاولات القص المتكررة لأخذ النص الشعري إلى الاستغراق بالوصف, ولاسيما تصوير الأشياء من الخارج تصويرا منطقيا مع التركيز على تفصيلاتها, بغية إقناع المتلقي بصدق ما يقال,من هنا جاءت الصعوبة في دمج هذين الفنين المتباعدين في طرائق البناء الفني, إذا لكل منهما اشتراطاته ,ومطالبه ,وعناصره ,الأمر الذي يتطلب أكثر من قدرة الشاعر وأكثر من مقدرة القاص لدمجهما ,فالقصيدة بحكم أنها قصيدة لابد أن تكون شعرا, وبكم أنها قصة لابد أن تنقل ألينا قصة في شعر, وقصة في آن واحد,ونسبة متوازنة بين فنية الشعر, وفنية القصة,نلحظ مما تقدم تداخل الفنون الأدبية بعضها مع بعض, وعلى الرغم من استقرار كل فن من الفنون الأدبية بخصائصه, ومميزاته, إلا أن الشعر المعاصر سمح لنفسه الخلط, والدمج بين الفنون, فنراه يقول: انتبه إلى الشاعر الواقف أمامه فاته الكثير مما قاله, راح يصغي إلي بانتباه :
أبواب القاعة ما عادت مقفلة
موج متواصل من قطعان ,
بعضهم يستر عورته بالعلم الوطني,
والبعض الأخر مفروز
وكلاب الإحياء الواسخة
وفي داخل أعماقي وطن محجوز
يأخذني سوط ويرجعني سوط
ويحكمني رأس مهزوز [5]
والنص القصصي في الواقع يختلف عن النص الشعري لافي الوزن ولا في اللغة ولا في العلاقة مع الشخوص والأحداث , ولكن هناك فارق جوهري جذري هو في العلاقة مع الزمن, ذلك لأننا يجب أن نفرق بين مفهومين هما الزمن و الديمومة, الزمن هو كل متحد كما يقول بيرغسون: ماضي وحاضر ومستقبل , أما الديمومة فإنها خط حدثي متواصل بين الولادة والموت كما يقول باشلار ولهذا فان الجنديل يعتقد إن النثر هو النص الذي يتزواج مع حركة الديمومة من حدث لآخر هكذا بشكل أفقي متواصل, ومن هنا فان العمل القصصي الناجح هو الذي يشتبك, ويعانق حركة الديمومة هذه, ولهذا تجد أن الناس يحبون قراءة الروايات في القطارات, وقبل النوم لما في ذلك من علاقة تناغم داخلية وخارجية مع حركة الديمومة هذا هو النثر, ويسرد لنا الجنديل الأحداث بزمن, وزمان قديم , وحديث في آن واحد فمثلا هو يتحدث عن الواقع المرير .
المراجع:
[1] رقصة الطواويس : احمد الجنديل : 80
[2] نظرية البنائية في النقد الأدبي : صلاح فضل : 79
[3] رقصة الطواويس : 108
[4] ينظر مرايا نرسيس :20
[5] رقصة الطواويس :109