عن قصة الأطفال “جدّي يعشق أرضه”
صباح بشير | فلسطين
“My grandfather loves his land”
عن دار عيساوي للطباعة والنشر صدر حديثا قصة للأطفال بعنوان: “جدّي يعشق أرضه” باللغتين العربية والإنجليزية، تأليف الأديب سهيل عيساوي.
تقع هذه القصة في 46 صفحة من الورق الملوّن الجيّد والغلاف المقوّى، أما الرّسومات المتعدّدة المعبّرة عن مضمون القصّة فهي للفنانة فيتا تنئيل، وقد ترجمها للّغة الإنجليزية المترجم المصري حسن حجازي.
تدور الأحداث التي يسردها الحفيد بطريقة سلسة، حول الجدّ المحبّ لأرضه، فيصف لنا سعادة جدّه وهو يفترش أرضه الخضراء، يتنفّس هواءها ويتحسّس ترابها، وبينما كانت الشمس في رابعة النهار، اقتربت سيارة فارهة من الحقل، أطلّ من وراء الزّجاج رجل أسمر، تقدّم منه الجدّ بخطوات ثقيلة ودعاه لشرب القهوة، لكنه رفض وطلب شراء الأرض مقابل مبلغ مالي ضخم.
يرفض الجدّ بشكل قاطع بيع أرضه التي ورثها عن أجداده جيلا بعد جيل، فيرجع الرجل الغريب بخفيّ حنين، لكنه يصرّ على الشراء فيعاود المحاولة بعدّة طرق. وفي تتبّع جميل للفكرة واستمرارية دؤوبة لتأكيد حالة الرفض للبيع أو التفريط، يردّ الجدّ على الغريب بحزم حين يحاول إقناعه بالبيع والاستفادة من المال في أداء مناسك الحج والعمرة فيقول:
أحبّ إليّ أن أحجّ إلى أرضي كلّ صباح، وأعتكف بها كلّ اليوم.(ص12)
يتأثر الجدّ مما حصل فيشعر بضيق في صدره ويتعرّض لوعكة صحية، يظلّ على موقفه وحنينه إلى الأرض، يزوره الحفيد في المستشفى فيجده يجلس على حافّة السرير مبتسما، يطلب زيارة أرضه قائلا:
خذني إلى أرضي لأغسل عيوني بخضرتها، لتستحمّ روحي بعطرها الزكيّ، لتختلط أنفاسي بأنفاسها، لأروي نبتة تتضرّع إلى الله بعرقي المتصبّب عشقا، ولأنثر ترابها في عيون الشّامتين. (ص23)
دلالة العنوان وأهميته: “جدّي يعشق أرضه”، ينتمي هذا العنوان إلى الإنسان بالأصل والفكرة، تتجمع فيه العناصر المكوّنة لهذا العمل وتصبّ في مجرياته، تكشف عن جمالية الترابط بينه وبين الأحداث المتبلورة في النصّ، وتمثّل شكله المكثّف الذي يفسّر وقائعه المترابطة، المستوحاة من الواقع الذي تجسّده، فهو يحمل دعوة لحب الوطن والتمسك به، كما يحيل مباشرة إلى موضوع القصة، فيرسخ هوية الطفل ويربطه بجذوره.
اللغة والنصّ: احتوت القصة على عبارات أدبية جميلة، ولغة متينة قريبة إلى عالم الصغار ووعيهم، تثريهم وتنمّي قدراتهم التعبيرية، وتسمح لهم باستكشاف محيطهم.
(بينما كان الظّلام يلفّ القرية بعباءته السّوداء، قرع الجرس، فتبدّد سكون اللّيل، خرجت أرحّب بالضّيوف. ص10)، (في الصّباح الباكر كانت الشمس تغازل الأرض النّديّة برفق وحنان؛ لتعلن عن ولادة يوم جديد.. كنت أطوي المسافات وأختزل اللحظات خلال سفري بالسيّارة، للقاء جدي العليل. ص20)
أما النصّ فقد كان خاليا من التعقيد، اتّسم بالبساطة والترابط، اعتمد على أسلوب الترميز لإثارة خيال المتلقي وإطلاعه على الواقع من حوله، وذلك من خلال التّلميح بالعبارة البسيطة، التي يمكن للقارئ الصغير أن يفهمها بسهولة ويسر.
الموضوع والفكرة الرئيسة: تطرح القصة فكرتها في إطار فنيّ متقن، يتمثّل في مغزاها وفحواها، مما يحقق التوازن للعمل ويجعله مناسبا لمرحلة الطفولة ومستوياتها الوجدانية (من 6 حتى12 عام)، ولا شك أنّ الفكرة الناجحة هي مركّب أساسي للقصة الجيدة، يقبل عليها الطفل بحبّ وتشكّل غاية ينتهي إليها بعد القراءة.
أشخاص القصة: انطلقت الشخوص بتعبيراتها نحو خدمة الفكرة، وقد ظهرت عناية الكاتب في شخصية الجدّ واضحة، فقد كانت الشخصيّة المحورية من خلال ردود أفعالها ومواقفها، تمّ الاهتمام بها وبأفكارها فكانت المحرّك الرئيسي للحدث، تقود الفعل وتدفعه إلى الأمام.
أما شخصية الحفيد الذي تروى القصة على لسانه، فكانت بسيطة لا تعقيد فيها، تنير الجوانب الأخرى للشخصية الرئيسيّة (الجدّ)، تنطق باسمها وتلقي الضوء عليها؛ وذلك لإبراز الحدث ووضعه في قالبه المناسب.
اتّسمت الملامح النفسيّة للحفيد بالإخلاص والوفاء، ويبدو أن الكاتب قد تَقصّد عدم ذكر هذه الملامح؛ ليتيح للقارئ إدراكها بنفسه.
برأيي كان اختيار الشخوص موفقا، فالعلاقة بين الأجداد والأحفاد تسودها المحبة رغم اختلاف الأجيال، فالأجداد عادة ما يعلّمون الأحفاد التواصل مع جذورهم وأصولهم، ينقلون لهم الإحساس بالأمان العاطفي والاستقرار الأسري، ولهم مكانة خاصة في حياة أحفادهم وقلوبهم.
البعد التربوي: هذه القصّة ناجحة وتحتوي على كلّ المعطيات التربويّة والأدبيّة التي تميّزها، من الحدث إلى الحبكة واللغة، وهي من القصص التي تحتوي على القيم الإنسانيّة الناضجة وتتناول الواقع بصدق، وأظن أن الأطفال بحاجة ماسّة إلى مثل هذه النوعية من القصص الهادفة.
الخصائص الفنية: احتوت الصفحات على الرسوم التعبيرية، التي تترجم النصّ إلى أشكال حيّة في عقل الطفل وتحفّزه على التخيّل والمتابعة، تثري القصة وتربط أفكارها. نلاحظ تعدد الرسوم، أحجامها وألوانها، فكل صفحة تختلف عن الأخرى بحسب ما يقتضيه الحدث، وقد طبعت الكلمات بحجم مناسب، كما اتّسمت السطور بالوضوح. لكن.. لي ملاحظة بما يتعلق بالألوان المختارة، فالناظر في ألوان هذه القصة يجد أنها قاتمة بعض الشيء، لقد اختارت الفنانة الألوان الغامقة المناسبة للون التراب، لكنها ولشدّة قتامتها بدت للعين متشابهة! وهو ما جعلني أدقق أكثر بما يخصّ الألوان، وكما نعلم فالألوان لها تأثير قوي على المزاج والعواطف، الألوان القاتمة تثير مشاعر الكآبة والحزن وتؤثر على الحالة المزاجيّة للطفل، ليتها اعتمدت الألوان الفاتحة التي تضفي الطاقة والحيوية، وتعمل على رفع الروح المعنوية وتمنح بعض الأمل.
البيئة المكانية: لم يرد ذكر المكان بشكل مباشر، سواء في النص أو في الرسومات، لكنّ المتلقي يستنتجه على الفور من خلال السياق، فقد حمل المكان دوره في نسيج القصة وأحداثها، فتلك الأرض التي تبدو للعين جامدة، تنبض بالحياة ودفء العاطفة، تشدو بحبّ الوطن على اتّساعه وامتداد نبضاته.
خلاصة القول: هذه القصة تجربة لافتة تجمع بين واقعية السّرد وبراعة التصوير، وكأنّي بالكاتب يروي الحدث فيحييه من جديد، يكتب القصص التي يكبر فيها الحبّ فيغدو وشما في الذاكرة، يصور عشقه لكلّ نبتة حبق وزعتر، يزرع مقومات الصّمود والشموخ في نفوس أطفالنا؛ ليحرّك أحاسيسهم ويتيح لهم فضاءات رحبة يحلّقون فيها بشغف، فالوطن هو أصل الهويّة الجمعيّة بمضامينها الثقافيّة والتاريخيّة، من هنا فما يميّز الكاتب الفلسطيني عن غيره من الكتّاب، هو ذلك التّمحور حول قضيته الأساسية، يصور الوطن بجمال ترابه وجباله ونباتاته، يضرب فيه بعمق جذوره؛ ليؤصّل هويته وكينونته بعلاقة حبّ متبادلة بين القدم وموطئها على هذه الأرض، يسير بقلمه إلى حيث يلتحم بهامات الجبال وجذوع الزيتون الطاعنة في الانغراس، وينظر إلى الوطن بعين الله وبلغته التي تعيش في القلب، وبفؤاده الذي يحمل المحبّة لأخيه الإنسان.
هكذا نثر الكاتب سطوره ممزوجة بسحر التراب وانسياب اللغة، نعم فهو الوطن، نفرش له القلب ونبسط له الروح، هو الحبّ الذي يولد من كل مكان، من حبّات المطر والشجر والحجر، من حقول تشبهنا زرعها الأجداد بأيديهم، قبل أن تحلّق الطيور عاليا وتطير فوق أشجار هذه الأرض.
نبارك للأديب سهيل عيساوي هذا النجاح، وإلى مزيد من العطاء والإبداع والتفرّد.