زهرة صغيرة.. قصة إيطالية قصيرة

بقلم: ميلينا روتسوني

ترجمة: أسماء موسى عثمان

عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للغات بالمنصورة| مصر 
ظهر يوم الأحد، تمكنا من الانتقال من المنزل للقيام بجولة حول البحيرة.ولقد أردنا استغلال هذه الفرصة لإيجاد مكان جديد للقارب .كان حقًا يومًا مشمسًا جميلاً.
في الصباح و لبضع ساعات، كان عزيز في الحديقة، وفي هذه الأثناء،قمت أنا بتجهيز الغداء، ثم تناولنا الطعام ورحلنا.
في هذا العام تأخر فصل الربيع في المجيء؛ وتفتحت أزهار الفورسيتسيا، التي مع حلول شهر فبراير في السنوات الأكثر اعتدالاً، تبدأ في الازدهار، فقد ازدهرت في دفعة واحدة؛ مع الكرز والمنغوليا الأبيض والوردي والكاميليا وجميع النباتات الأخرى التي لا أعرف أسماءها.
لا تزال الأشجار شبه عارية باستثناء الصفصاف الباكى وأشجار الحور والبتولا، التي تظهر أوراقها الأولى ذات اللون الأخضر الفاتح، ولابد أن هذا حدث في تلك الساعات القليلة، حيث أدركت أثناء رحلة العودة أن هذا اللون الأخضر أصبح أكثر وضوحًا.
بينما عزيز كان يقود السيارة، كنت أستمتع بكل ذلك الضوء وتلك الألوان وكنت أحدثه في الوقت ذاته عن الأشياء التي قمت بها أو التي قلتها خلال الأسبوع. فتلك الأوقات التي نقضيها في السيارة هي التي نتحدث فيها. وغالبًا أتحدث أنا، في حين هو يقود السيارة ونادرًا ما يبادر عزيز بالحديث، فهو يستمع وفي أغلب الأحيان يعلق ويضيف النكات التي تضحكني، بل تضحكنا معًا وهذا الأمر يحدث عندما تسير الأمور بشكل جيد وكان اليوم جيدًا وكل شيء علي ما يرام .
خرجنا من الطريق الإقليمي نحو البحيرة عند الساسة مورو: حوض واسع وهادئ للبحيرة، يستند من أحد جانبيه علي رقعة شاسعة من القصب على الضفة المستوية وينعكس ضوء الشمس علي الماء لفترة طويلة والضفة المقابلة غير واضحة وبعيدة.
يوجد نادي تجديف وترسانة لبناء السفن، وفي الجهة المقابلة يوجد مرج ضخم لا يزال خاليًا من الأزهار بسبب الشتاء حيث كانت هناك مجموعة صغيرة من
الأصدقاء يأخذون حمام شمس.
ولكن لم تكن هناك مراس خالية بالمرفأ، لذلك رحلنا بعد أن تبادلنا بعض الكلمات مع القائم بأعمال الفناء ومع إثنين من كبار السن الفضوليين، ثم غادرنا المكان.
-أظن أننا سنحرمكما من صحبتنا-هذا ما أخبرت به الرجلين الحاضرين قبل مغادرتنا، ولكن لم يبد عليهما أي انزعاج ولا أنا أيضًا. في الحقيقة كنت آمل أن نعود إلى البحيرة لنصعد أعلاها حتى نصل على الأقل إلى كالدي.
المرحلة الثانية: توقفنا في مقاطعة شيرو في ميلانو لأن عزيز يعتزم طلب معلومات من مدير مدرسة الإبحار الشراعي، والذي بالطبع كان يقوم بالتدريبات مع الطلاب.
وشاهدناهم يستديرون حول العوامة في المنعطفات الضيقة؛ كان القارب يتحرك مبتعدًا ويقترب وما إلى ذلك. انتظرنا عودة القارب إلى الشاطيء. في تلك الأثناء لاحظنا الأطفال يقدمون قطع الخبز الجاف للبجع.
اقترب كلب صغير من الشاطئ وكان صاحبه يربطه بسلسلة، فبدأت البجعة ببسط جناحيها ونفش ريش عنقها، وعندما اقترب الكلب منها أكثر، بدأ صوت أنفاسها يعلو كما تفعل القطط، وقال الرجل لكلبه: أرأيت؟ إنها تخشى أن تغذو منطقتها.
تبادلنا أنا وعزيز نظرة تفاهم لأنه كثيرًا ما يتواجد في مواقف من هذا القبيل؛ ولكنه كان يومًا جميلاً جدًا ولم نرغب في إفساده بكثرة التفكير في الأشياء. تبادلنا الحديث مع ذلك الرجل؛ ولعق كلبه يدي، ثم غادرنا. في السيارة، بينما كنا في طريقنا إلى بلدة لافينو، نبهني عزيز قائلاً: أنظري: إنها زهرة الميموزا. فقلت:الميموزا، أنا لا أطيق الميموزا، فهى نتنة تفوح منها رائحة كريهة ولكنني أفضل أزهار البنفسج.
وبعد ذلك بلحظة، كنا على وشك أن نتعرض لحادث سير بسبب سيارة كانت تقف بسذاجة في منتصف الطريق خلف أحد المنعطفات. على يميننا كان يوجد مجموعة من راكبي الدرجات النارية، ولكن سائق السيارة الذي كان شارد الذهن، إبتعد تمامًا عن الطريق في الوقت المناسب، عندما سمع آلة تنبيه سيارتنا. إنتهى الأمر بشعور من الفزع والذي تخلصنا منه فوق ذلك المنحنى.
عبرنا بلدة لافينو دون توقف، مباشرة باتجاه كالدي. بينما كنا نسير بسرعة بجانب اللافتات الانتخابية، بدا لي أنني أرى وجهًا غير معروف، بدا مألوفا بالنسبة لي للحظة. لكنني كنت أعلم بمن أفكر ومن المؤكد أنه لم يكن هو. وصلنا إلى الطريق المؤدي إلى كالدي ثم إلى الميدان ثم إلى طريق البحيرة حيث ضاق الطريق وتوقفنا. عندما نزلنا من السيارة، أعطاني عزيز زهرة البنفسج التي قطفها من بين أحجار الجدار، وتشممت رائحتها وأنا ممسكة بساقها الرقيقة التي تكسرت بين أصابعي. أراد عزيز أن يسأل نادي الإبحار عن كيفية العثور على مرسى للقارب، قلت له: اذهب بمفردك-لقد تعبت من ملاحقتك، سأنتظرك هنا-ثم رحل هو.
جلست على الضفة الأسمنتية بين المراسي لقوارب التجديف للإستمتاع بأشعة الشمس بصحبة زهرة البنفسج، تلك الزهرة المسكينة التي أمسكها ولا أعرف أين أضعها. كان هناك شابان يتحدثان مع بعضهما البعض بصداقة حميمة على مقعد ليس بعيدًا عني، وقد ذكرني أحدهما تحديدًا بالشخص الذي كنت أفكر فيه.
كان من الممكن أن يكون ابن عمه أو أخوه، كان يشبه كثيرًا. لكن لا، لقد كان مجرد صورة خيالية في ذهني. من بين الأشخاص الذين مروا بالشارع والذين قمت بالتحديق بهم جيدًا، بدا لي مرة أخرى، في حالتين أو ثلاث، أنني شاهدت أشخاصًا تشبههم، ففي النهاية نحن جميعًا متشابهون قليلاً.
وضعت زهرة البنفسج بين صفحات دفتر أحمله دائمًا في حقيبتي، وبعد قليل ظهر عزيز فجأة من منعطف على مطلع الشارع. قال، بينما كان يجلس بجانبي، أعتقد أنني وجدت مكانًا للقارب، فسألته:-حقا؟ وكيف حدث ذلك؟ فأجاب: “لقد سألت عن هذا الشأن في نادي القوارب الشراعية، وقد أخرجوا لي نموذجًا مملوءًا وبه توقيع النادي في أسفله”. قلت ثانية: حقًا؟ لا أستطيع التصديق.
فأضاف عزيز قائلاً: إذا جرت الأمور على نحو جيد، سيعطوننا رصيفًا عند العوامة
وبما أنني لن أفهم بعد، واصل عزيز حديثه قائلاً: سينبغى أن يعقدوا إجتماعًا ومن ثم يقررون إذا كان الجواب بنعم أو لا . جلسنا هناك لمدة أطول لنستدفئ في أشعة الشمس، فقد كنا نحتاج لهذا الدفئ خاصة بعد شتاء طويل وبارد مثل هذا، كنت فقدت الأمل في عودة الربيع ورغبت في الإبقاء في ذلك الضوء والحرارة، مبهورة البصر في صمت وسكون كالحجر، ولكن شعرت أن عزيز لم يعد يريد البقاء وسألني:
“والآن أتريدين البحث عن منزل؟” فأجبته: لنذهب للاستكشاف، ومثل الجميع سرنا على الطريق المؤدي إلى البحيرة وأمام أحد الحانات، كان هناك مجموعة من الأشخاص الجالسين على الطاولات، كان هناك رجل يعزف على الجيتار ويغني:” أضع في جيبي فقط زهرة صغيرة، أضع في جيبي فقط زهرة صغيرة”. كنت أنا وعزيز مبتسمين، كان كل شيء على مايرام وكنا سعداء، باختصار كان يومًا مبهجًا، يرغب المرء أن يتذكره دومًا.
اليوم في المكتب بين الزميلات، بدأت الثرثرة الجانبية المعتادة: ماذا فعلت أنت، وماذا فعلت أنا؟ قلت أنا: ذهبت للقيام بنزهة حول البحيرة مع عزيز، وصولاً إلي كالدي وحاولت أن أشرح بعبارات عامة، حتى لو لم يكن هناك الكثير لأقوله، ما عدا الشمس والنور والأشجار والزهور.
وبما أن الزميلات كانوا ينتظرون مني إضافة المزيد، فقد تذكرت تلك التفاصيل وقلت: “عندما وصلنا إلي كالدي، أعطاني عزيز زهرة البنفسج”- كانتا تنتظران المزيد من الحديث-وبعد ذلك عندما مررنا أمام المقهى الذي يقع على الطريق الموازي للبحيرة، وجدنا رجلاً يعزف على الجيتار ويغني.. وأعدت على مسامعهم الأغنية بلحنها. -أضع في جيبي فقط زهرة صغيرة، أضع في جيبي زهرة صغيرة- وعندما توقفت عن الغناء، وجدت زميلتان تضحكان فيما بينهما. وقالت إحداهما لم تكلفه كثيرًا، أليس كذلك؟ أكملت الأخرى: نعم، لقد أنفق قليلاً. وواصلنا الضحك ثانية معًا. أما أنا فلم أضحك أبدًا ولكن تظاهرت بالضحك حتى ولو لم أفعل ذلك بشكل جيد للغاية ولاحظ الجميع الأمر، ولكن أعتقد أنهم، إلى حد ما، كانوا على حق.
بالرغم من أن هذا الأمر لم يخطر بذهني وهو إلقاء الأغنية علي مسامعهم. سألتني الأولى:-ما هو اسم صديقك؟ أجبت وأنا متوقعة منهم الأسوأ، يدعي عزيز. فسألتني مرة أخرى: وما هذا الاسم؟ أجابت هى دون أن تنتظر إجابة: نعم لقد عرفت، إنه اسم عربي! ملتفتة إلي رفيقتها بابتسامة صغيرة.
في هذا المساء، عندما عدت إلى المنزل كنت غاضبة، ولم أنظر إلى عزيز الطريقة نفسها، باختصار ليس تمامًا كما نظرت إليه بالأمس، وعلي أية حال هو لاحظ ذلك .
فقال لي: ما الأمر يا كارلا؟ ماذا بك؟ لم أعرف بماذا أجيب، واستمريت في رمي الأطباق بصمت داخل غسالة الصحون، إلى أن كسر أحدهم في نهاية الأمر. حينئذًا، قال لي: سأعتني أنا بهذا الأمر. ثم أتيت إلى هنا في غرفة المعيشة وجلست لكي أكتب. قبل قليل كان عزيز ينظر لي واضعًا يديه في جيبه. والآن ظلت تدور برأسي جملته التي قالها قبل صعوده “هل يجب أن استعطفك في ابتسامة يا كارلا؟”

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

اترك رداً على Mona kamel إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى