النار دلالاتها وعلاقتها بحركة السّرد في قصّة ”دون جدوى” للقاصّة هدى حجاجي أحمد

فتحي حمزاوي | ناقد تونسي
الجزء الأوّل:
1- ما قبل العتبة:
بما يشبه التّصدير، استبقت المؤلفة العنوان ثم القصّة بمركّب إضافي يفيد الزمنيّة ويومئ إلى ” الحالة” ويختزلها في ” الدّرامية” المجسّمة في الألفاظ المركز داخل هذا التجمّع اللغويّ السّابق لعملية القص: (الآهات/الجراح). تبشير بالنّزعة العامّة المميّزة للقصّة، وهي نزعة الكآبة التي ميّزت جلّ أعمال الكاتبة هدى. وهي كآبة إيجابية لأنّها ناتجة عن مواقف من القيم الاجتماعية المتهرّئة والبالية التي سادت في المجتمع وكشفت عن نماذج بشرية تغلب عليها نزعة الشّرّ.


2- في العتبة ” دون جدوى”
علاقة إضافة تجمع اللفظين، وتحمل دلالتها في ذاتها، تختزل معنى اليأس والاعتراف بالهزيمة وتعبّر عن تبدّد كل مجهود مبذول وضياع كل طاقة أُهدِرتْ في سبيل إنتاج شيئ ما.
من هنا نجد صلة وثيقة بين دلالة العتبة ومحتوى الملفوظ السّابق لها. فحالة اليأس المُعلن عنها في العنوان ذات صلة ب” الآهات” و” الجراح” في التّصدير.
هكذا تبدو العتبة وما قبلها مقدّمة موسيقية بألحان حزينة كما يتجلّى في فعل ” العزف” الصّريح الذّكر منذ البداية، ويقود كلّ ذلك إلى تحويل القصة برُمّتها إلى قطعة موسيقية. وفي الحقيقة ليست القصة القصيرة سوى معزوفة وإن كانت ألحانها مسرودة، ولا يخفى علينا ذلك الرّباط القويّ بين السّرد والعزف خاصة وأنّ العصر الجديد شهد تقاربا كبيرا بين مختلف الفنون وتأثّر هذا بذاك في إطار حقل عامّ يسمّى ” الفنون الجميلة” ومن يُنكر أن القصة القصيرة تخرج عن مجال الفنّ الجميل؟.
إنّ السّرد في الآونة الأخيرة استفاد كثيرا من الخيال الشعري ومن الأعمال القائمة على البصريات أو الموجهة إلى الأسماع فكأنك وأنت تقرأ قصة، تتأمّل في تمثال نحّات أو لوحة رسّام أو قصيدة شعرية، وهذا التداخل الجميل بين الفنون ساهم في إثراء جمالية الأعمال القصصية. ولا شكّ أن قصة ” دون جدوى” للقاصّة هدى حجاجي أحمد تبرهن على على هذا التّمازج الفريد بين القصّ والعزف بصفة خاصّة وإ لم يكن ذلك محور اهتمام هذه الدّراسة.
الجزء الثّاني:
3- الضّوء يُخفي العتمة
النّار في القصّة بؤرة دلالية، تمتدّ على المساحة النّصّيّة كلّها من البداية إلى النّهاية، بها ينفتح السّرد (جرفتْ النّيران…)، وعليها ينغلق ( ينطلق من اللهب، من النّار…). وتحضر النّار بشكلين:
* بصريح العبارة: النّار/اللّهب/تحترق…
* أو بما يُحيل على نفس البؤرة الدّلالية: الرّماد/تلتهم/يتفحّم، قدّاح/سجائر…
والنّار في القصة تقترن بعديد الدلالات المتقاطعة والمتضادّة والمتّحدة أيضا، تُشكّل مع بعضها لتأسيس المعنى العامّ للقصّة وتنمو عبر علاقات سببيّة ناشئة عن بعضها البعض وتتجلّى في شكل تموّجات سردية غير مرتّبة لأنّها بالأساس تقوم على التّداعي، وتحكي الجوّ النّفسي للسّاردة.
أ- النّار وسيلة عقاب:” الليلة، ليلة العقاب…”، النّار وسيلة الآلهة في الأساطير القديمة لمعاقبة الخارجين عن قوانينها، تستعيرها السّاردة المغدورة في قصّة زواج تكتشف في نهايتها أنّها قصّة قامت على سعادة وهميّة، بعد اكتشاف حدث الخيانة. والنّار بعد ثبوت الجريمة تصبحُ وسيلة للخلاص من زمن الأكاذيب والعشق الموهوم. ولئن كانت عقابا فإنّها تقوم بعملية تطهير من دنس الخيانة ووسخ المكر والخديعة. فهي تعمل عملا مزدوجا، تنتقم من الآثم بحرق أشيائه وتفاصيله التي استعملها في الكذب، وتطهير للقلب الموجوع من آثار الوهم والحلم الكاذب الذي امتدّ على طول فترة الزّواج. فشخصية ” حسني” كانت هدف العقاب لأنّه لم يكن سوى زير نساء ” لا بدّ أن يتفحّم هذا الوجه القذر…”. وأمّا الساردة فهي المستهدفة بالتّطهير ” لا بدّ من دخول الصّباح على ليل بيتي…”، فالصّباح عندها خلاص وطُهر من حياة الأكاذيب. وفي كلتا الحالتين كانت النّار عنصرا فاعلا في “القصّة” كما في “الخطاب” إذا اعتبرنا أنّها وقود تطوّر الأحداث في العالم النّفسي الخاص بالشخصية المحوريّة. فهي من ناحية حدث خارجي، وهي من ناحية أخرى محاكاة لما يجري في عالم الدّاخل من انفعالات واضطرابات جرّاء اكتشاف جريمة الخيانة والاطّلاع على مدى الزّيف الذي كان يحيط بتلك الحياة الزوجية المغشوشة. إنّ تقلّص الأحداث في النصّ وانحصارها في ذهن السّاردة، يحعل القصة من نوع القصص الذّهنية النّفسيّة حيث تكون كلّ عناصر القصّ موجّهة لارتياد العالم الباطني.
وإذا نظرنا إلى هذا العالم الدّاخلي وكيفية نموّ الأحداث فيه من الصّدمة إلى الاستغراب إلى القلق والتوتّر والحزن العميق، يكفي النظر في تطوّر حركة النّار وهي تشتعل وتحترق ويتطوّر لونها من الأبيض إلى الأحمر إلى الأسود: ” النّيران في سبيلها إلى الانطفاء، الألوان تتحوّل من الأبيض إلى الأحمر إلى الأسود. هنا يحدث التّمازج المرجو بين الجانب الفني والبعد الدّلالي، وتلك علامة جمالية القصّ وبلوغة درجة النّضج. وهو ما جسّدته قصّة ” دون جدوى”.
ولا يفوتنا هنا ونحن نشير إلى ارتباط النّار بالعقاب والتّطهير أن نشير إلى ظاهرة التّناصّ الجزئي الذي وظّفته المؤلّفة في قصّتها من ذلك أنّنا نستحضر ونحن نقرأ قصة “دون جدوى” حكايات النّار في الأساطير القديمة، ونستحضر قصة “نيرون” الذي أحرق روما وظل يعزف على أنغام الحريق. واللهب والعزف في قصة هدى حجاجي أحمد يتجَلّيان منذ التصدير ولاحقا في احتفال السّاردة بحرق تفاصيل ” كازانوفا” الذي تجسّد في شخصية “حسني”. ولذلك أشرنا في بداية الدراسة للعلاقة بين السرد والعزف. وللإشارة فإنّ التّناصّ المستخدم في القصّ تناصّ وظيفي شهد تحويرا في مستوى بنية القصص التي وقع استدعاؤها لخدمة مضمون المشكل الاجتماعي النفسي المعروض في القصة.
الجزء الثالث:
ب- النّار تعبير عن الأحوال النّفسيّة:
النّار في القصّة تحمل رمزيّة أخرى تنضاف إلى دلالة العقاب والتّطهّر. فهي مرآة تنعكس عليها الأجواء الشّعورية المتموّجة في العمق النّفسيّ، من سعادة الحياة التي كانت السّاردة تعتقد أنّها نقيّة وطاهرة إلى اكتشاف الحقيقة وحجم الخديعة. وما أتعس أن يُقيم الإنسان لمدّة زمنية طويلة على الزّيف والكذب.
* النّارب في الأحداث السّابقة للقصّ كانت مقترنة بالشّمس وما يحيل عليه ضوؤها من معاني الفرح والبهجة والسّعادة. سمّتْها السّاردة ” بقع الشّمس” وقرنتها بأيّام الحبّ، تلك كانت حياة الماضي، كانت تعيش كلّ ليلة مع رسائله وغرامياته، هو يعيش في وجدانها ” صورة جميلة خلّابة…”، صارت نفسها بعده كالبئر المهجورة المخيفة… بكل اختزال كانت الحياة الزوجية جنّة محفوفة بالضّوء والنّور، تلك دلالة النّار في ماقبل الخيانة.
* النّار تتحوّل بدلالتها بواسطة شخصية ” فريد” إلى دمار نفسي كبير، يشتعل القلب حزنا تتصاعد ألسنة النّدم والحقد والكراهية بسبب اكتشاف مستنقع الخيانة. ” توهّجت الأيّام الوقحة، الثقيلة…”. ” تصلّب الوجه، وتجمّدت الدّموع…”، تقبّل النّيران بقسوة، تزمّ شفتيها. إحساس رهيب بنار تشتعل في العمق بسبب ” كازانوفا والرحلات الوهميّة وعلاقاته مع ” عاليا ورندة ووفاء وعبير وسعاد ” وغيرهنّ. النّار الدّفينة هنا هي نار الإحساس بالخديعة والشعور بالحقد والنقمة والكراهية…
ج- النّار شكل من أشكال الاحتفال بالموت
النّار تأتي على الأخضر واليابس. تلتهم الجميع، الذكريات، التفاصيل، الجسد، الماضي والحاضر.
في شكل احتفالي وعلى طريقة الزّهّاد في القطع مع الحياة. وطريقة المرضى النّفسانيين، تختار البطلة المخدوعة شكلا احتفاليا يتلاحم فيه الموت والحياة، يتعانق فيه الماضي بالحاضر لينتهي المآل بهم جميعا إلى الاحتراق حدّ الرّماد. يتمثّل المشهد الاحتفالي في عدد من الأفعال الرّمزيّة:
– ترتدي لباسا حريريا
– إعداد أطيب الطّعام
– ألوان الفاكهة
إنّه احتفال أخير كأنّنا على مائدة العشاء الأخير للسيّد المسيح، عشاء الوداع ومغادرة الحياة…
أخذت النيران في هذا الجو الاحتفالي تلتهم كل شيئ أتى من الماضي أو ظلّ ساكنا في الحاضر… ثمّ امتدّت ألسنتها لتطال الصّدر والفخذين… النّار تلتهم الأموات والأحياء، الرّمز والمرموز. الجميع رماد مآله المرحاض، المكان الذي يُخفي كل شيئ قبيح. ونيرون يعزف على عتبة الجراح.
هكذا تكون النّار محور العملية السّردية وأساس تطوّر الأحداث وانعكاسا لنموّها في العالم الباطنيّ، دون أن تفقد طاقاتها الدّلالية البانية للمعنى العام للقصة والمتّصل بمشكل احتماعيّ يتمثّل في آفة الخيانة ودورها في إنتاج نماذج بشرية مأساوية.
الجزء الرّابع:
4- محاكاة حركة السّرد لحركة النّار:
تأخذ النّار في القصّة حركة تصاعديّة ” لولبية” تأخذ شكل التّموّج، تشتعل تهدأ، ثمّ تندلع من جديد، تصل قمّتها، تصير رمادا… وكذا سيرورة السّرد بين الآنيّ والاسترجاعي. فعملية السّرد تقوم على الانكسار والتوتّر بين الماضي والحاضر، فالسّرد يبدأ آنيّا في الحاضر ثمّ ينكسر عائدا في اتّجاه الماضي، ثمّ يلتوي على نفسه للاتّصال مجدّدا بالآن وعلى هذه الوتيرة اللولبية يسير.
يتجسّم الحاضر في وضع بقايا الأوراق الورديّة ” الملوّثة” في الوعاء الكبير الذي تشتعل فيه النّار، في إشارة رمزيّة إلى دفن الذّكرى وتحويلها إلى رماد وتعبيرا رمزيّا عن موقف الانتقام… ويأخذ الاسترجاع حركة ارتدادية نحو الماضي لاستعراض مرحلة الجنّة التي لم تكن سوى زمنا زائفا، يقترن العوْدُ بأيّام الحب: ” حين جئتَ أيّها العزيز… انفتحت أمامي أبواب الآمال العظام، وقفت خلفك بالجهد والمال حتّى صرتَ من أصحاب المال الكبار، وصار لك اسم له رنين الذّهب. وكنت تضيع كل إرهاقي بكلمة واحدة… أحبّك”. سرد سريع وامض لأبرز بدايات ” الجنّة الواعدة والكاذبة” في نفس الوقت… ثمّ يقفز الفعل السّردي نحو الحاضر من جديد محاكيا أحوال النّفس وهي تتماوج بين الحلم والحقيقة. ومحاكيا لحركة النّار وهي تشتعل ثمّ تنطفئ. يقترن الحاضر بشخصية ” فريد”، تلك الشّخصية التي لعبت الدّور الرّئيسي في كلّ ما جرى من أحداث مادّية أو نفسيّة، فهو الذي كشف الحقيقة للسّاردة، هو الذي جاء بصُور الإدانة، هو الذي كشف حقيقة الزّمن الزّائف. فرحلات حسني ” كازانوفا” إلى فرانكفور وروما ولندن، والنّساء اللّواتي كانت له صلة بهنّ، كلّ ذلك حصل خفية في الماضي القريب يقع الكشف عنه الآن بواسطة ” فريد” ليتحوّل الزّمن كلّه بأبعاده المختلفة إلى جحيم… على هذا النّسق اللّولبي تسير وتيرة السّرد في القصّة لتنتهي بكلّ الأحداث ماضيها وحاضرها نحو النّهاية التّراجيدية.
ولكن رغم هذا السّير المنكسر فإنّ الأحداث المادّية والباطنيّة لا تخلو من علاقات منطقية تجعل الحدث نتيجة لحدث آخر، أو سببا لنشأة أحداث أخرى رغم إيهام نسق الحكي بالتّداعي والانسياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى