امرأة في برلين.. حين يكتب المهزوم سيرته
بقلم: خالد جمعة
عادةً ما يقوم المنتصر بكتابة روايته، مفخماً انتصاره، بينما يتوارى المهزوم في زاوية من زوايا التاريخ المظلمة، حتى أن تاريخ المهزوم نفسه يرويه المنتصر، فيضع فيه ما يريد كيفما يريد.
هذا الكتاب بقي مجهول المؤلفة حتى عام 2003، حين كشف صحفي عن اسم الكاتبة وهي: مارتا هيلرز، الألمانية المولودة في 1911 والمتوفية عام 2001 عن تسعين عاماً، وقد كانت من سكان برلين وتعمل صحفية.
امرأة في برلين، ثمانية أسابيع في مدينة محتلة، والذي صدر للمرة الأولى عام 1945، وترجمته إلى العربية ميادة خليل وصدر عن دار المتوسط في إيطاليا عام 2016، ووقع الكتاب في 318 صفحة.
إنه كتاب مذكرات مؤلم إلى حد الهوس، تتحدث فيه هيلرز عن نفسها كمهزومة وقعت تحت رحمة الجيش السوفييتي الذي انتصر على النازيين ففعل العجائب في الألمان المدنيين.
تتحدث الكاتبة عن تعرضها شخصيا للاغتصاب عدد كبير من المرات، حتى أنها اضطرت لعمل علاقة مع رتبة مهمة في الجيش الروسي لحماية نفسها، وتذكر عددا كبيرا من اللواتي تم اغتصابهن من معارفها الشخصيين، لم يكن الجنود حسب روايتها يفرقون بين امرأة عجوز أو متزوجة أو فتاة لم تتعد السادسة عشرة، حتى أن البلدية في برلين استحدثت مستشفى خاص لهؤلاء النساء لفحص إذا ما كن قد أصبن بأمراض أو لا.
تتحدث في الكتاب عن الجوع المرعب الذي أصاب المدينة، عن أكل الناس للحم الخيول الميتة، والبطاطا المتعفنة، عن انقطاع المياه والكهرباء، وإجبار النساء والرجال على العمل في نقل الآلات والمعادن إلى روسيا.
إنه كتاب ضروري للإنسانية، ورغم كل المآسي التي تحدثت عنها هيلرز في الكتاب، إلا أنها لم تكن متجنية عاطفيا على الجيش الروسي، فهي تتخذ من كافة المعطيات تحليلا نفسيا لقدراتهم، وحتى أنها تبرر طريقتهم في الانتقام أحيانا، وتذكر ما فعله النازيون بالقرى الروسية حين قتلوا وحرقوا أهاليها، وفجروا رؤوس الرضع دون مبرر غير الاستعلاء الآري الذي لم يكن يرى مبررا لوجود أي إنسان من غير هذا العرق على وجه الأرض.
كتاب فيه ما يكفي من الألم، ما يكفي من الشجاعة، ما يكفي من رغبة الحياة، ما يكفي لنعرف كيف عاش المهزومون الذين انتقلوا من تحت سلطة هتلر النازي الذي لم يكونوا يوافقون على سياساته، إلى سلطة الروسي المنتصر، القروي غير المتحضر الذي يعتبر كل شيء في المدينة غنيمة، من ساعات اليد والدراجات الهوائية، إلى النساء والبنوك والمصانع.
إنه كتاب للتاريخ، فمن النادر قراءة كتاب لمهزوم موضوعي، فإن كانت هناك رغبة في معرفة ما كان يجري في برلين بعد انتصار الحلفاء، فالجأوا إلى هذا الكتاب الذي يضيء زوايا لطالما بقيت معتمة في التاريخ الإنساني، لا لسبب، إلا لأن المنتصر هو الذي يظهر في الواجهة دائما، أما المهزوم، فتخفيه الأحداث وكأنه لم يكن.