فينيقيا المقتولة بالأمس و لبنان المقتول اليوم

توفيق شومان | لبنان
تستعيد هذه المقالة سجالا تاريخيا وفكريا يقارب عمره ألفي عام ، لاتنفك عناصره تجول في الشرق وفي الغرب بحثا عن مكتشفات وتنقيبات آثارية وكتابية تُسهم في الإجابة عن السؤال الصعب: هل أخذ أهل اليونان القدماء المعروفون بالإغريق ديانتهم وآلهتهم وفلسفتهم وعلومهم وفنونهم عن الفينيقيين وأحدثوا التغييرات فيها وجعلوها ملائمة لأفكارهم وبيئتهم فأعادوا صياغتها وعملوا على تصديرها إلى أنحاء المعمورة بمن فيها فينيقيا نفسها؟
منذ اجتياج الإسكندر المقدوني لممالك الشرق ومدنه في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد “تأغرقت” الثقافات المحلية وسادت لغة اليونانيين وثقافاتهم، ولما حلً الرومان مكان أهل اليونان في مواقع السلطة والإدارة والسطوة واستمروا على هذه الحال لقرون عدة ، شاعت الثقافة الرومانية ـ اليونانية .
هذه السيادة للثقافات الوافدة ، لم تمنع مفكرين ومؤرخين محليين من مواجهة ما اعتبروه مصادرة لثقافاتهم واستعلاء عليهم من جانب اليونانيين ، وعلى رأس هؤلاء المتصدين و المواجهين فيلون الجبيلي الذي عاش بين عام 64 قبل الميلاد و141بعده ، فهذا المؤرخ ـ الفيلسوف الذي يعود نسبُه إلى مدينة جبيل الفينيقية ـ اللبنانية تصدى للثقافة اليونانية من خلال تأليفه عدة كُتُب يؤكد فيها الأسبقية الحضارية الفينيقية على نظيرتها اليونانية ، إلا أن كتابه ” التاريخ الفينيقي ” العائد لإبن سلالته الكاهن سنخونياتن البيروتي ( (حوالي 1000ق.م) والذي نقله من الفينيقية إلى اليونانية، يُعتبر درة كتبه لكونه يقدم منظومة متكاملة عن تاريخ الفينيقيين وعقائدهم وتصورهم لبدء الكون والخليقة، وقيل عن الصاحب الأصلي لهذا الكتاب، أي سنخونياتن البيروتي بأنه ” أبو التاريخ ” وليس هيرودوتس اليوناني المعروف بهذه الصفة .
قبل التطرق إلى كتاب فيلون العائد لسنخونياتن، تفرض إشكالية الكتابة في هذا النوع من السجالات التاريخية الإنعطاف نحو المسارالزمني الذي تناول فيه المؤرخون والباحثون التأثيرات الفينيقية في الحضارة اليونانية ، وهو مسار بدأ مع هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد وقد أقر في تاريخه بأخذ اليونانيين بالأبجدية الفينيقية وغيرها ، وكذلك سترابو اليوناني (القرن الميلادي الأول) ففي كتاب “الجغرافيا” يؤكد بأن ” الذين أوحوا لهوميروس ـ صاحب الإلياذة ـ بهذه الأقاليم ـ الجغرافية ـ هم الفيينقيون “.
على النسق ذاته يدلي المؤرخ فلافيوس يوسيفوس في القرن الميلادي الأول بشهادته المنصوصة في كتابه “آثار اليهود القديمة” ولا يفوته القول ” اتضح أن كل ما عند الإغريق حديث النشأة وأن تاريخه يرجع إما إلى الأمس وإما إلى ما قبل الأمس بيوم، وكما يقر الإغريق حقا وصدقا فإن المصريين والكلدانيين والفينيقيين يحظون بتاريخ بالغ القدم ويمتلكون سجلا بالغ التفرد في العراقة”، وفي القرن الميلادي الثاني (125 ـ 175 م) يتحدث لوقيانوس السميساطي المولود في بلدة “منبج” السورية او في محيطها عن ملكارت إله أو سيد مدينة صور اللبنانية وهرقل إله أو سيد بلاد الإغريق طبقا لترجمة المصري مجدي صبحي الهواري في بحثه “الآلهة السورية” المنشور عام 2007 في دورية “الدراسات البُردية” التي تصدرها جامعة ” عين شمس” في القاهرة ، وعلى ذلك يروي لوقيانوس:
” لقد شاهدتُ بنفسي معبد الإله هيراكليس ـ هرقل ـ في مدينة صور ، ولكن هذا المعبد لم يكن يُنسب إلى هيراكليس الذي أشاد به اليونانيون ، ولكنني أقول إنه المعبد الأكثر قدما، وإنه معبد بطل صور “.
وبعد يوسيفوس ولوقيانوس سيأتي يوسابيوس القيصري مؤلف الكتاب المعروف ” تاريخ الكنيسة ” والمتوفي عام 339 ميلادية، ليناقش في كتابه “الإستعداد للحياة الإنجيلية” أفكار الفيلسوف فيلون الجبيلي والكاهن ـ المؤرخ سنخونياتن البيروتي ، وهو أمر سيجري تناوله بالتفصيل اعتمادا على ما كتبه المؤرخان السوري عيد مرعي واللبناني يوسف الحوراني وغيرهما ، وأما اعتماد عيد والحوراني فلأنهما من آواخر المؤرخين المعاصرين المحليين الذين اعتنوا بكتابات فيلون الجبيلي وسنخونياتن البيروتي .
يذهب اللبناني ابراهيم سركيس على هذا المذهب في كتابه ” الدر النظيم في التاريخ القديم” الصادر عام 1875 بقوله ” وقد عبد الفينيقيون ذات الآلهة التي عبدها اليونانيون بعدهم، غير انهم ـ اليونانيون ـ غيروا أسماءها ” وكذلك الحال مع ميخائيل افندي غبرائيل في ” أساطير الأولين ” الذي أهداه إلى وزيرالمعارف العثماني زهدي باشا (1894) إذ أنه يعرض بالشروحات المسهبة نظرية التكوين كما يقدمها فيلون الجبيلي ناقلا عن سنخونياتن .
في ” تاريخ المشرق ” لجاستون ماسبيرو (1846ـ 1916) أن ملكارت كان ” في مدينة صور ومعنى هذا اللفظة ملك المدينة وقد جعله اليونان بمثابة هرقل عندهم ، وجاء في إحدى الروايات المعتبرة عند السلف أن الذي أسس مدينة طيبة ـ في اليونان ـ هو قدموس الفينيقي واضع حروف الهجاء اليونانية فانتشر بسبب ذلك تمدن الشرق عند قبائل اليونان التي لم تكن تجاوزت الهمجية تماما ” ، وهذه الخلاصة نفسها سيوردها المصري حسن طلب في كتابه ” أصل الفلسفة ” الصادر عام 2003 ” بإشارته إلى ” أن اليونانيين يعزون إلى قدموس الفينيقي بعض عناصر الحضارة التي تعلموها منه ، وهناك رواية تقول إن مدينة طيبة اليونانية أسست على يد الفينيقيين “.
وفي كتاب “الحضارة الفينيقية” الذي اشرف على تعريبه عميد الأدب العربي طه حسين عام 1948 يقول كبير الآثاريين الفرنسيين جورج كونتينو “الحقيقة هي أن كل بلاد اليونان أخذت الشيء الكثير عن الفينيقيين”.
وعلى ما يرد في ” الحضارات السامية القديمة “للمؤرخ الإيطالي سبتينو موسكاتي” قد حدث ارتباط واندماج بين الآلهة الكنعانية وآلهة اليونان وملحمة كرت تؤدي بنا إلى أهم المسائل التي أثارتها الكشوف الحديثة أمام المستشرقين ، ففكرة القيام بحملة حربية للظفر بعروس جميلة تذكرنا بالألياذة ـ هوميروس ـ ومن الصعب البت في مسألة العلاقة بين الأدبين بأن نجعل أحدهما معتمدا على الآخر ، ويمكن القول إن الدراسات ستحقق تقدما عظيما في المستقبل ، وستبين ارتباط الحضارة اليونانية ارتباطا عضويا بالأسس الأدبية والدينية والتاريخية التي سبقتها وجاورتها ، والحضارة الكنعانية ستكون على أعظم قدر من الأهمية في هذا البحث “.
يعتقد الفرنسي جان مازيل في “تاريخ الحضارة الفيينقية الكنعانية ” أن جدول الضرب ” قد ابتُكر في صيدون ـ مدينة صيدا اللبنانية ـ ويقال إن فيتاغورس قد أسَس فيها مدرسته الشهيرة التي تقوم على الرياضيات، ومن المفترض أن علم التاريخ والجغرافيا قد ظهر على يد الفينيقيين وحكاية قدموس انطلقت من فكرة اختطاف أوروبا ـ إبنة ملك صور ـ وهي فكرة إخصاب الحضارة الإغريقية بالإسهام الفينيقي الذي يمثله قدموس”.
والرأي المذكور كان أورده لوقيانوس السميساطي في “الآلهة السورية ” قبل الفرنسي مازيل بما يقارب 1800 عام بقوله ” يوجد في فينيقيا معبد كبير لدى أهل صيدا الذين يؤكدون أنه معبد عشتروت وفيما يبدو لي أن عشتروت هي سيليني ـ ربة القمر عند اليونان ـ وأخبرني أحد الكهنة ان هذا هو معبد يوروبي ـ أوروبا ـ اخت قدموس وإبنة الملك أوجينور ، وحيث أن الفينيقيين قد قدسوها بعد اختفائها بغتة ، فقد رووا عنها أسطورة مقدسة مؤادها أن الإله زيوس ـ اليوناني ـ قد استهواه جمالها ورحل حاملا إياها إلى جزيرة كريت ،ولقد دأبتُ على سماع هذه القصص من نفر آخر من الفينيقيين “.
في تحقيقه لكتاب ” الملل والنحل “للإمام الشهرستاني يعطي أحمد فهمي محمد تعريفا لطاليس بأنه “وُلد في السنة الأولى من الأولبياد الخامس والثلاثين ، أي قبل الميلاد بنحو ستمئة وأربعين سنة ، وهو من ذرية تورموس من أهل ـ مدينة ـ صور ، من أعمال الشام ” ويُلفت ” أستاذ الفلسفة وعضو “المجمع العلمي العربي ” في دمشق محمد كامل عياد (1911ـ 1986) في كتابه ” تاريخ اليونان ” وهو من الكتب الرائدة في هذا المجال إلى أن ” في الدرجة الثانية بعد المصريين يأتي الفينيقيون بين الأمم التي اتصل بها اليونانيون واقتبسوا الحضارة عنها، لقد كان طبيعيا أن يتعلم اليونانيون أشياء كثيرة من الفينيقيين كذلك يبدو لنا تأثير الحضارة الفينيقية في عبادة أفروديت التي تشبه عشتروت، وأهم شيء كان له أعمق الأثر في الحضارة اليونانية وتطورها الفكري السريع هو اقتباس الحروف الأبجدية، وتبدأ الفلسفة اليونانية بأبحاث طاليس الذي يرجع أصله إلى الفينيقيين ” .
ولن يكون السيد محمد الخامنئي في كتابه الموسوعي “مسار الفلسفة في إيران والعالم” بعيدا عن إرجاع أصول الفيلسوف طاليس (القرن السادس ق. م) إلى جذور فينيقية ـ لبنانية، فقد “اعتُبر طاليس أحد الحكماء السبعة قبل التاريخ وعدًه البعض لبناني الأصل عاش في جزيرة مالطا”، ومع أن الجميع يعتبرون طاليس على ما يرى الخامنئي ” من أهالي مالطا أو فينيقيا لبنان، لكن حوافز ـ مآرب أو أهداف ـ المؤرخين المعاصرين في الغرب جعلتهم يعتبرون تلك الأنحاء جزءا من أوروبا، حتى يستطيع مدونو تاريخ الحضارة الغربيون أن يزعموا أن طاليس كان أول فيلسوف غربي “.
استاذ تاريخ الحضارة في جامعة الإسكندرية لطفي عبد الوهاب كتب في فصلية ” عالم الفكر” الكويتية (خريف 1981) أن اليونانيين وبعد العصر البرونزي ( 2500 ـ 1200 ق) عاشوا ” فترة جهل بالكتابة امتدت إلى حوالي القرن الثامن ق . م تقريبا قبل أن ينقل اليونان الحروف الأبجدية عن الفينيقيين “، وتبعا لرأي أستاذ تاريخ الحضارة اليونانية والرومانية في جامعة حلوان المصرية محمود السعدني في “تاريخ وحضارة اليونان “الصادر عام 2008 ” لقد كان لإختراع الحروف الهجائية اليونانية المشتقة عن الفينيقية أكبر الأثر في توحيد تصور الفكر اليوناني منذ بدايات القرن الثامن ق . م “.
ومن الدراسات الحديثة التي تناولت الفينيقيين وصدرت قبل سنوات قليلة، “المؤثرات الحضارية الفينيقية في الحضارة اليونانية ” (2016) للآكاديمية السعودية حصة تركي الهذال ، وفيها ” كان الفينيقيون أول أمة بحرية في التاريخ ونشروا حضارتهم وحضارات غيرهم ، ولقد تأثر بهم الإغريق تأثرا هائلا وصل إلى حد الإنبهار الشديد ، وتأثر اليونانيون بأنماط الفينيقيين في بناء المدن وشكلها ، وكثير من الآلهة اليونانية أصلها فينيقي ” وتقول السورية رفاه الدباغ في” التأثيرات الحضارية المتبادلة بين الحضارتين الفينيقية والإغريقية ” والتي نوقشت عام 2017 في جامعة دمشق ” كان الفينيقيون في حقل الفن وفي حقول حضارية أخرى أساتذة للإغريق “.
ينعقد رأي أستاذ التاريخ القديم الآكاديمي العراقي المعاصرخزعل الماجدي في “المعتقدات الإغريقية” على أن آلهة الإغريق ” تكونت على مر الأزمان من اصول مختلفة ، فبعضها يرجع إلى أصول آسيوية ، وأغلبها يرجع إلى أصول كنعانية شامية وفينيقية ، وبعضها إلى اصول مصرية وبعضها آرية ” ، ويجزم المؤرخ السوري احمد داوود ” أن اسماء الآلهة والأمكنة والمدن والمواقع والعلماء والفلاسفة والأدباء ومخترعي الكتاية وغير ذلك من مجالات الحضارة الأخرى ، سوف تجد أصولها من خلال مؤلفات سنخونياتن”.
خزعل الماجدي يرى أيضا “أن الإله ـ اليوناني ـ ديونسيوس هو من فينيقيا فهو ذاته الإله ـ الفينيقي ـ ادونيس وهناك شبه كبير بين إسميهما وأسطورتيهما ” ومثلها آلهة cabiri لحماية الملاحين والتي اشتهرت منذ القرن الخامس قبل الميلاد والإسم مشتق من المفردة الفينيقية ” كابيرم أو كابيروم ” أي الكبير أو العظيم .
وفي ” الآلهة الكنعانية ” لا يشك الماجدي بعد أن يستعرض المنظومة العقائدية لسنخونياتن البيروتي وفيلون الجبيلي بأن ” الآلهة القديمة الكنعانية الأصل أُخذت عن الآلهة السومرية أو البابلية، ومن كنعان رحلت إلى اليونان فأعيدت صياغتها ” وفي حالتي انتقال الآلهة الفينيقية إلى إغريقيا عبر الوسطاء أو الأصلاء الفينيقيين فالخلاصة واحدة أن آلهة الإغريق جاءت من بلاد الفينيق .
بموازة ذلك، ثمة ما يوجب التمعن في كيفية انتقال “الآلهة الفينيقية” إلى اليونان وثمة أيضا ما يجب ملاحظته في قراءة ميخائيل افندي غبرائيل الذي ورد ذكره سابقا ، فالفينيقيون كانوا توحيديين في أول أمرهم وقبل عصر الخرافات كما يسميه ، ذلك أن ” سكنيتن ـ سنخونياتن ـ الفيلسوف الفينيقي يبتدىء حكاياته بذكر إيل أو عليون وهو إسم سامي معناه الأعلى ـ وهو ـ من أسماء الله تعالى وُضع لغير من هو في زمن الخرافات ، إن سكنيتن قد أورد كيفية التكوين بما يشبه كل الشبه ما أورده ـ النبي ـ موسى ” وقد يعود مايقوله غبرائيل إلى اعتقاد شريحة من المؤرخين بالتقارب الزمني بين سنخونياتن والنبي موسى وهو ما يقترب إلى مجاورة معناه المؤرخ اللبناني يوسف الحوراني (1931ـ 2019) في كتابه ” نظرية التكوين الفينيقية ” إذ أنه يقترب من إخراج الفينيقيين من العقائد الوثنية .
ماذا في كتاب سنخونياتن ؟
لا بد أولا من إعادة التوضيح بأن هذا الكتاب ظل مجهولا إلى أن أحياه فيلون الجبيلي وبقيت الشكوك تحيطه بفعل ذهاب فئة من المؤرخين المتشككين إلى الظن بأن فيلون ابتكر شخصية سنخونياتن وابتدع نصوصها ووضع الكتاب في مرحلة اشتداد الصراع الثقافي بين الفينيقيين واليونانيين ، لكن اكتشافات وتنقيبات عام 1929 في ” رأس شمرة ” على الساحل السوري أظهرت مطابقة التنقيبات مع كتابات فيلون فأعيد الإعتبار لهذا الكتاب كأحد أهم المراجع التي تتحدث عن تاريخ الفينقيين وعقائدهم، وعلى ما يقول عيد مرعي عضو” مجمع اللغة العربية” وأستاذ تاريخ الشرق القديم ولغاته في جامعة دمشق إن فيلون هدف إلى ” فكرة اساسية وهي عرض التاريخ الفينيقي وإبراز المساهمات الفينيقية في الحضارات الكبرى والهدف من ذلك إظهار وطنيته الفينيقية وإظهار معاداته للتفوق الثقافي الإغريقي السائد في عصره ويخلص بالنتيجة الى أن الإغريق لم يكونوا مبدعين بل مقلدين ومقلدين سيئين ” .
في كتاب ” فيلون الجبيلي “لعيد مرعي يقول فيلون” :“كتًاب الدين المحدثين ـ اليونانيون ـ رفضوا رفضا تاما الأحداث كما حدثت منذ البداية واخترعوا الحكايات والأساطير ،وهكذا أعادوا بشكل خاطىء القصص الحقيقية إلى أحداث كونية وأنشأوا غموضا أدخلوا فيه شيئا من الهذيان بحيث لم يعد على أي شخص أن يدرك ماذا حدث فعلا ، أنا بحثتُ هذا الأشياء لأننا رغبنا أن نعرف التاريخ الفينيقي بدقة وفحصنا مواد كثيرة ليست تلك المحفوظة لدى الكتاب الإغريق لأنها غير ثابتة ـ محفوظات الإغريق ـ وأُلفت من قبل بعض الناس بهدف الخصام لا أكثر ، وبعد أن رأينا عدم التوافق بين الإغريق أصبحت لدينا القناعة أن الأمور كانت كما كتب سنخونياتن” .
يضيف فيلون: ” إن البرابرة القدماء جدا وبخاصة الفينيقيين والمصريين أخذت عنهم بقية البشرية أفكارها ” ثم يعدد اكتشافات الفينيقيين وأعمالهم وصناعاتهم من مثل ثياب البشر وكانت في أولها من جلود الحيوانات وتشييد البيوت الخشبية فركوب البحر وصناعة السفن والرماح الحديدية والصيد واللبُن لبناء الجدران وعمران القرى واقتناء الأغنام واستخدام الملح واكتشاف الأبجدية واستخدام الأعشاب للطبابة وإنشاد الأغاني وغيرها ، لكن أهمها على الإطلاق كيفية نشوء الخلق والكون.
إن نظرية النشوء والتكوين التي يعيدها فيلون الجبيلي إلى أجداده الفينيقيين معتمدا على سنخونياتن لا تخلو عناصرها من تداخل غيبي ـ بشري لشخصيات تتعدد أسماؤها وحكاياتها ومغامراتها وحروبها وصراعاتها، ويعلق فيلون بعد انتقالها إلى اليونان بقوله ” الإغريق الذين فاقوا كل البشر بذكائهم الطبيعي وضعوا يدهم أولا على معظم هذا القصص ثم أعادوا كتابتها بطرق مختلفة مع زخرفات أدبية إضافية قاصدين بذلك إلباس الشخصيات فرح الأساطير ” .
وبكثير من الأسى على التراث الفينيقي المسلوب يتطرق فيلون إلى الأعمال الشعرية الأسطورية لكبير الشعراء الإغريق هسيودس ـ هزيود ـ الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد ” من هنا ألَف هسيودس وشعراء الأجيال المشهورين رواياتهم الخاصة ووضعوا ملخصات عن نظريات نشوء الكون ومعارك الجبابرة والعمالقة وقصص الخصي، والتي تجولوا بها فهزموا بواسطتها الحقيقة بشكل كامل ، وقد تعودت آذاننا على هذا عصورا واستسلمت لأوهامهم ، فبتنا نحتفظ بالأساطير التي تلقوها كحقيقة مقدسة في البداية، وساعدت على ذلك قوة الزمن التي جعلت التخلص من قبضتها صعبا بحيث تبدو الحقيقة ثرثرة لا معنى لها “.
ولا يغادر الأسى نفسه المؤرخ اللبناني يوسف الحوراني فيكتب في مقدمة كتابه ” نظرية التكوين الفينيقية وآثارها في حضارة الإغريق”: “نستطيع أن نعتبر النصوص المشروحة في هذا الكتاب أنموذجا من التراث الفينيقي المتناثر في ثقافات شعوب البحر الأبيض المتوسط ، وهي تدعونا لإعادة النظر بجميع معارفنا عن الثقافات القديمة التي اتصلت بثقافة اللبنانيين القدماء من قريب أو بعيد، لقد توقف التاريخ الكنعاني في لبنان عندما قضى الإسكندر الحاقد على عنفوان مدينة صور سنة 332 ق.م بينما قضى الحقد الروماني على إبنة صور الكبرى قرطاجة سنة 146 قبل الميلاد “.
في هذا الكتاب يعتمد الحوراني في جوانب من نصوصه على كتاب “الإستعداد للحياة الإنجيلية” ليوسابيوس ـ أوزيب ـ القيصري ويتناول نظرية الخلق الفينيقية الواردة في كتاب فيلون الجبيلي العائد بدوره لسنخونياتن ، فيوسابيوس يعرض الكتاب ويشرحه وينقده من موقعه اللاهوتي ويقول ابتداء ” قام فيلون الجبيلي بترجمة جميع تاريخ سانخونياتن من لغة الفينقيين إلى اللغة اليونانية، وبذلك جعله معروفا، أما بخصوص سنخونياتن الذي يعني صديق الحقيقة فقد جمع جميع التاريخ القديم الموجود في المعابد في كل مدينة وصنَف تاريخه وهو عاش في زمن سميراميس ملكة الأشوريين ـأو ـ في سنوات سابقة لها أو على الأقل تتوافق مع زمن حوادث طروادة “.
ويكمل الحوراني نقلا عن فيلون الجبيلي كما جاء في كتاب يوسابيوس: “إن اللاهوتيين الحديثين قد أتلفوا كل أثر للأمور التي حدثت عن أصول الأشياء ، وذلك بإختراع الإستعارات في الأساطير لغاية جعلها تتناسب مع حركات الكون، وعلى هذا النسق أنشأوا طقوس الأسرار ونشروا ظلمة كثيفة فوق جميع هذه الأشياء بحيث لم يعد من السهل تمييز ما حدث في الواقع، إن سنخونياتن أنجز خطته بإقصاء القصص المبنية على العناصر والإستعارات حتى وصل إلى الأزمنة التي أعقبت الكهنة الذين شاؤوا إخفاء الحقيقة وإحلال الخرافة الشريفة مكانها، أصل السر ، وهي التي لم تصل بعد إلى الإغريق “.
وبعدما يدعو سنخونياتن إلى “إنه من الضروري الإعلان سلفا أن الفينقيين والمصريين كانوا مرشدين لجميع الناس الآخرين”، يشرح التصور الفينيقي للآلهة ” كانوا يرون أن الآلهة الكبار هم أولئك الذين حققوا اكتشافات لمساعدة وجودنا او الذين عمموا الخير بين الشعوب، وقد دُعي هؤلاء محسنين بسبب أعمال الخير الكثيرة، وقد عبدوهم كآلهة ولهذه الغاية كرسوا لهم هياكل، وقد احتفل الفينيقيون بأكبر أعيادهم على إسم هؤلاء وتيمنوا بإسم ملوكهم الذين كان بعضهم يُعتبر كآلهة، حيث كان لهم آلهة خالدون وآلهة فانون “.
يتوقف يوسف الحوراني امام هذا العرض الذي يقدمه فيلون الجبيلي، ويقدم قراءة خطيرة وجديرة بالتدقيق وتكاد تُخرج الفينيقيين من الصورة الوثنية التقليدية التي يُزجون بها، فقد ” انتقلت عقيدة التيمن إلى المسيحية حيث أصبح الشهداء قديسين شفعاء، وإلى الإسلام حيث غدا الأولياء ذوي كرامات ، وفي الديانتين يتوسل المؤمنون بأسماء هؤلاء لتحقيق أمنياتهم ، وفي هذه الحالة لانستطيع تطبيق فكرة الألوهة المتعارفة في مفاهيمنا على العقيدة الفينيقية بالآلهة ما دام هؤلاء ينفون صفة المطلق والقدرة الكلية عن آلهتهم بمجرد اعترافهم بفنائهم “.
ويلاحظ الحوراني أيضا بعد استعراض تاريخ الفينيقيين وعقائدهم مثلما يقدمها فيلون نقلا عن سنخونياتن “أن آلهة الفينيقيين لايتمتعون بأية مناعة سحرية خرافية فهم يموتون في عراك مع الحيوانات البرية، وبعد موتهم يتم تقديسهم وتخليد ذكرهم بالتأليه دون أي ذكر للمعجزات والخوارق”، وهذا الشرح يعيدنا إلى قوله السابق بإنتفاء المطلق والكلية عنهم ، وبهذا المعنى لا يعدو كونهم بشرا متميزين أو أبطالا أو قادة عظاما أو صانعي مكارم ومفاخر ومآثر يجري تبجيلهم وتخليدهم بعد موتهم بغية الإقتداء بأفكارهم وأفعالهم .
لا يمكن إحصاء ما أخذه اليونانيون عن الفينيقيين بحسب رأي فيلون ، ومن أمثلة ذلك “كرونوس الذي يدعوه الفينيقيون إيل الذي حكم هذا البلد ـ فينيقيا ـ وبعد موته جرى تقديسه” وكذلك جوبتير الذي هو الإسم اللاتيني لبعل، وبونتس pontus والد صيدون الذي بإمتياز صوته كان اول من اكتشف أغاني الترنيم وملقارت الذي هو هرقل ، ويختم الحوراني ناقلا عن فيلون ” أن هزيود ـ الإغريقي ـ وشعراء الدواوين صنعوا نظرية الآلهة وصراع الجبابرة وصراع التيتان الذين نقلوهم من مكان إلى مكان وطمسوا كل حقيقة “.
طمس اليونانيون ومن جاء بعدهم كل الحقائق حتى غدا الفينيقيون كلهم مثل أدونيس المقتول الذي كانت تبكيه النساء الفينيقيات عند نبع بلدة أفقا في أعالي جبال لبنان نائحات قائلات :
إضربن على صدوركن أيتها الفتيات / ومزقن أرديتكن
خلجة أخيرة: ما أشبه فينيقيا المقتولة بالأمس بلبنان المقتول اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى