الفلسفة بين الشرق والغرب وتيار التداخل التلفيقي

د. عماد خالد رحمة | برلين

إنَّ وظيفة أي مشروع عربي من أجل إعادة بناء العقل العربي تتثّمل في أعادة قراءة تراثنا العربي الغني وتأويله ،وتملّكه، وكشف كوامنه وسطاته المعرفية. وهذا يفتح نافذةً على الآخر ومشاغله في قراءة تاريخه وتراثه، وطرحه للمفاهيم والمصطلحات مثل مفهوم الأيديولوجيا والتاريخ، وإعادة النظر من جديد في مبدأ الهوية ومفهوم الجدل والاختلاف والسَّلب عبرَ المشروع النقدي الذي جسّده المشروع الغربي، بمبانيه ومعانيه. والذي يعيد المشروع العربي المعاصر تمثله بقوة في قراءة ومعالجة حاضره وماضيه، مستفيداً من كل التجارب والأدوات النقدية الغربية. لقد ظهرت العديد من الاتجاهات والتصورات عند عدد كبير من المفكرين العرب كان منهم على سبيل المثال المفكر المغربي عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري ،والمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري مؤلف كتاب (الفكر العربي وصراع الأضداد). وكتاب (تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية، مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي). والمؤرخ المصري محمود اسماعيل المتخصص في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية. وغيرهم.
الجدير بالذكر أنه كان هناك اختلافاً في بنية هذه المشاريع الفكرية التي خضعت للفكر التاريخي منذ صيرورة الحقيقة وسيرورتها، وإيجابية الحدث التاريخي المستمر، وتسلسل الأحداث بشكلٍ انسيابي، ثم مسؤولية الأفراد. وهؤلاء ركّزوا على الفكر التاريخي والفصل بين الأصالة والخصوصية، فالأولى سكونية متحجرة والأخرى حركة متطورة بشكلٍ متسارع. كما اتخذوا من الدور التاريخي الغربي الذي بدأ في عصر النهضة حتى الثورة الصناعية، مرجعاً رئيسياً لتشييد مفاهيم ومصطلحات الثورة لدى الدول غير الأوروبية .
ففي كتابه الهام (بنية العقل العربي)، أكّد المفكر المغربي محمد عابد الجابري على عملية تحليل الأسس التي تستند إليها عملية تحصيل المعرفة وتنسيقها وترويجها داخل كل حقل، وهي البيان (كفعل معرفي : هو الظهور والإظهار، والفهم والإفهام، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الذي تبنيه علوم اللغة وعلوم الدين). والعرفان (كفعل معرفي هو الكشف أو العيان. وكحقل معرفي هو عبارة عن خليط من هواجس وعقائد وأساطير وخرافات تتلوَّن بلون الدين الذي تقوم على هامشه). والبرهان (كفعل معرفي هو استدلال استنتاجي، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية). كما تضمَّنت أفكاره معرفةً خاصة عن الاتجاه التجديدي الذي عرفته الأندلس والمغرب، وصراعه الطويل مع تيار التداخل التلفيقي.
لقد تركت جملة المفاهيم والآراء والأفكار التي طرحها المفكر الراحل محمد عابد الجابري أثراً كبيراً في بنية العقل المعرفي العربي وساهمت تلك الأفكار في عملية تطوّر الفكر العربي. بخاصة وأنّه تطرّق إلى العديد من المراحل التي تمثلت بالغنوصية والبيان والبرهان. وجهة النظر هذه تؤكد أنَّ البرهان مثَّل أوج الفكر العربي وتوهجه، وعبّرت أفكار ومفاهيم وما كتبه الفيلسوف العربي ابن رشد التي تعبِّر عن نتاج انفتاحه على الفلسفة والتاريخ والتراث الإغريقي. وما قبل ابن رشد من نتاج فكري وأدبي، يندرج في خانة الغنوص والبرهان. وأنَّ المشروع المعرفي مرتبط بالآلية المنهجية الغربية من جهة، وبالمادة التي تمت وتتم دراستها، وهي التراث العربي الإسلامي، من جهة ثانية. والهدف من ذلك يفترض الكشف عن البيئة المعرفية لبنية المشروع استجابةً لمتطباتها وحاجاتها. وهذا يفترض معرفة إمكانية وقدرة المنهج على تحقيق المتطلبات والحاجات التي تتوق إليها النهضة العربية المعاصرة وتنشدها.لأنه من المؤكد أنه لا توجد فلسفة خارج إطار البنيوية التي عبّر عنها العديد من الفلاسفة اليونانيين مثل الفيلسوف الإغريقي أرسطو وأفلاطون وسقراط وأرخمديس، وأبولودوروس الأثيني، من المدرسة الرواقية، وهيراقليطس، وسوفوكليس، وبارمنيدس إليا، وألبينوس، وفيثاغورس ساموس، وغيرهم من فلاسفة اليونان الذين ظهروا بشكلٍ قوي أثناء توهّج الحضارة الإغريقية. بهذا المعنى ومدلوله ينفي الدكتور محمد عابد الجابري عن شرقنا العربي والشرق كله بشكلٍ عام الانتماء للفلسفة.
إنَّ الجهد الكبير الذي بذله المفكر محمد عابد الجابري يشير إلى حالٍ من أشكال التحيّز والتعسّف. فالفلاسفة اليونانيون ربطوا الفلسفة بالعلوم الرياضية، بشكل خاص، وببقية العلوم الأخرى. مع العلم أنَّ الشرق هو مصدر علوم الرياضيات والجبر والكيمياء والفيزياء.
تبيِّن فلسفة أرسطو حول الجوهر المفارق وحدّدته بـ (الله) اللا متناهي، الخالق بفعل الإرادة الحرة والمتعال. وهي من وجهة نظره تهتم بالربط والتحليل والتفكيك، وبالدال والمدلول. فهل يمكن نفي هذه الصفات على كثرتها عن الفكر الشرقي سواء في الهند أو الصين، أو حتى في تايلاند، التي بزغت قبل نشوء الفلسفة اليونانية وتجلي حضورها في العالم. ولما كان العلم هو حصيلة تراكم فعل إنساني وتاريخي، فهل يمكن القول إنّ الفلسفة الإغريقية هي قطع مطلق مع الماضي السحيق، وإنها ظهرت من فراغ.مع العلم أنَّ الحضارة العربية برزت بقوة قبل انفتاح الغرب المعاصر على العلوم التي أنتجها الأولين بنحو سبعمائة وخمسون عاماً. وقد ارتبط فكر الغرب بشكلٍ عام بعصر الأنوار الأوروبي. وخلال سباته الطويل، برزت أسماء لامعة لعلماء عرب كبار ،من أمثال الفارابي الذي اشتهر في الطب والفلسفة. وابن البيطار الذي اشتهر في الطب والصيدلة والنباتات والزراعة والجغرافيا والفلسفة، وابن باجة عالم في الفلك والطب والجبر والرياضيات والموسيقة. وابن الهيثم عالم الرياضيات والجبر والهندسة والفلسفة. وأبو بكر الرازي صاحب كتاب ( الحاوي في الطب ) و(الطب الروحاني) و(المدخل إلى المنطق) ، وجابر بن حيّان مخترع حمض الكبريتيك، والهيدروكلوريك، والنتريك. وأبو يوسف يعقوب اسحق الكندي أبرز علماء الرياضيات وعلم الفلك والبصريات والطب والفلسفة، والكيمياء والتشفير وقواعد الموسيقا، وله مؤلفات كثيرة وصل عددها إلى نحو مئتان وستون كتاباً. وابن سينا الملقب بأمير الأطباء، وأبو الطب الحديث. ومؤلف كتاب (القانون في الطب) الذي استخدم كمرجع رئيسي في علم الطب على مدى سبعة قرون في جامعات أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر. والكسائي من كبار علماء النحو، والمؤسس الحقيقي للمدرسة الكوفية في النحو، وله عدد من التصانيف أشهرها (مختصر في النحو) و( كتاب المصادر) و(كتاب الهجاء)، وابن النفيس ،وابن الهيثم ،وابن خلدون ،وإخوان الصفا وآخرين، وجميعهم وضعوا لبنات راسخة في التطور العلمي، واعتمدوا منهج البحث العلمي والتحليل والتفكيك والمفاضلة والمقارنة.
لقد طالب المفكر محمد عابد الجابري بإلغاء المنهج البياني واستبداله بالمنهج البرهاني بل تبناه بقوة من خلال إحلال منطق ثنائي القيمة الأرسطي بدل منطق ثلاثي القيمة البياني.وذلك لأنّ أرسطو يعتقد أن المنطق هو أكمل ما أنتجه العقل البشري، وهو المنطق الصوري الذي يعدّ تطابقاً للفكر مع ذاته، وهو منهج بما يحمل من أسس وقواعد و مبادئ يشكّل آلةً للعلوم، قادرةً على حماية الفكر الإنساني من التناقض. فالفيلسوف أرسطو سمى منطقه بالتحليلات، وأراده بالدرجة الأولى أن يكون منهجاً مبنياً على أسس علمية قادراً على إثبات إمكانية قيام علم برهاني لتحصيل معرفة يقينية عقلانية، وفي هذا يقول: (المنطق آلة العلم و موضوعه الحقيقي)، أما تلاميذه وشُرَّاحه فأطلقوا عليه بالمنطق واعتبروه مدخلا للحكمة، لكن الجابري عمل على نقل مجموعة من الآليات من حقل العلوم الى حقل الثقافة الإسلامية دون تكيفها وانسجامها أو تطابقها، بل الاكتفاء باشتغالها. فمضمونها ومحتواها الذي اكتسبته داخل ثقافتها الأصلية الموغلة بالتاريخ، والمتجذرة بالتراث التي تحوَّلت الى مدلول وطريق يرشد لتطبيق محمد عابد الجابري داخل التراث الإسلامي، مجسّدة جانباً آيديولوجياً واضحاً. إلا أنَّ محمد عابد الجابري أهمل الكثير مما حققته الإنسانية في وقتنا المعاصر وما تم إنجازه على الصعيد الإنساني في حقول الثقافة ،واكتفى بما يدعم موقفه، فجاءت توصيفاته مهيأة للنقد وفاتحة أبواب الآراء لمجابهتها، كما هو الحال في موقفه من البيان.
من هنا ندرك أنّ منطلقات المفكر المغربي محمد عابد الجابري قد انطلقت من مركزية أوروبية ،جعلت من الفكر الأوروبي الغربي مقياساً ومعياراً لقراءة الفكر العربي، وتحقيبه إلى عدّة مراحل كنّا قد أشرنا إليها. والتحقيب من وجهة نظرنا وإيماننا العقلاني، هو انحياز واضح، لأنّ العصور جميعها حملت التقسيمات الثلاثة التي أشار لها محمد عابد الجابري،البيان والعرفان والبرهان.
فهناك دائماً من وصفهم بالغنوصيين،والغنوصية أو العرفانية أو المعرفية هي مصطلحات حديثة تطلق على مجموعة من معارف وأفكار من الديانات القديمة التي انبعثت من المجتمعات اليهودية في القرنين الأول والثاني الميلاديين. وبحسب تفسير الغنوصيين للتوراة (التناخ)، اعتبر الغنوصيون (أو العرفانيون) أن الكون المادي هو انبثاق للرب الأعلى الذي وضع الشعلة الإلهية في صلب الجسد الإنساني. ويمكن إطلاق أو تحرير هذه الشعلة عن طريق معرفتها، أي (أغنصتها).وهناك من اعتمد (البيان)، وآخرون اعتمدوا التفكيك والتحليل والتأويل، وتمسكوا بالأطر الفلسفية المحكمة، منطلقين من مقدِّمات وتفسيرات وشروح وتحليل ونتائج متنوعة، وهي عناصر رئيسية لما تم وصفه بــ (البرهان). وهناك في قديم فكر العرب الموغل في عمق التاريخ والتراث ما يشير إلى أنك لا تستطيع أن تسبح في مياه النهر ذاتها مرتين.
في هذا السياق نميز بدقة بين النقل والإضافة، وبين ماهية الإبداع والفكر فيه. ونجيز لأنفسنا القول بأنَّ انفتاحنا نحن العرب على الفلسفة الغربية هو أمرٌ واقع لا جدال فيه. فقد ترجمت مئات الكتب الفلسفية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية. ولا يكاد يوجد بيننا مثقف لم يسمع بالروائي والصحفحي والناشط السياسي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، والفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي مؤلف كتاب ( دفاتر في السجن) .والفيلسوف الألماني كارل ماركس مؤلف كتاب (رأس لمال) ،وجورج فيلهلم فريدريش هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان، حيث يعتبر أهم مؤسسي المثالية الألمانية في الفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وهو الذي طوَّر المنهج الجدلي.وهربرت سبنسر الفيلسوف البريطاني مؤلف كتاب (الرجل ضد الدولة) الذي قدم رؤية متطرفة في ليبراليتها. وهو الذي أوجد مصطلح (البقاء للأصلح(، والقائمة طويلة. وبالمثل هناك قراءات عميقة للتراث العربي الغني بمختلف حقبه. ولا تكاد مكتبة عربية تخلو من كتب أبو حامد الغزالي، الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره، وأحد أشهر علماء المسلمين. وابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الفيلسوف العربي الأندلسي المسلم الذي برع في الطب والفقه والأصول، والفلسفة والرياضيات، وبرع في علم الخلاف، وهو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج وتالبراهين الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد الحجج والمبررات زالبراهين القطعية وهو الجدل الذي هو قِسمٌ من المنطق إلا أنّه خصَّ بالمقاصد الدينية. والفارابي الفيلسوف وعالم في الطب والفيزياء والموسيقى والفلسفة، وهو من أهم الشخصيات الإسلامية التي أتقنت العلوم بصورة كبيرة.
وابن الهيثم أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم البصري، عالم موسوعي عربي مسلم قدّم اسهامات كبيرة في البصريات والرياضيات وعلم الفلك والفيزياء وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري، والعلوم بصفة عامة بتجاربه التي أجراها مستخدماً المنهج العلمي. وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكّدها العلم الحديث. وابن سينا أبو علي بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا البلخي، العالم والطبيب المسلم اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما. والكندي أبو يوسف بن يعقوب بن اسحق الكندي العربي المسلم برع في الفلسفة والفلك والفيزياء والكيمياء والطب والموسيقى والرياضيات وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام. لذا لا يمكن عزل هذا الاهتمام عن الوعي بالفكر ودوره، وبإمكانية الإضافة عليه.
لقد كان دور حركة اليقظة العربية، لحظة انبعاثها من رحم الظروف الصعبة التي مرَّ بها وطننا العربي جراء الاحتلال العثماني، هو دور الناقل والمترجم للأفكار، وليس الصانع لها. وكان الأبرز بين تلك الأفكارالغربية المنجزة الهامة، فكر الحداثة، باعتبار مشروع الاستقلال عن الهيمنة العثمانية التي حكمت وطننا العربي قرابة الأربع قرون، في نسخته الأصلية مشروعاً حداثياً، يتطلع إلى تقرير المصير العربي، وتشييد الدولة العربية، دولة الحق والقانون والعدل. وقد برزت في هذا السياق العديد من الأسماء اللامعة كشبلي شميل وفارس الشدياق، وناصيف اليازجي، وفرح أنطون، ولطفي السيد، وبطرس البستاني، وغيرهم كثير . في
في الختام نرى أنَّ الفلسفة لا يمكن لها أن تنشأ وتنمو وتزدهر إلا ضمن بيئة اجتماعية وفكرية وثقافية تؤمن إيماناً مطلقاً باستقلالية العقل. لأنّ واقع الحال يقول إنّ العقلانية كشرط هام ورئيسي لتمخض الفلسفة ما زالت بعيدة عن أن تكون المسؤولة عن الكلمة الأولى وصاحبتها في ثقافتنا العربية المعاصرة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى