سامى فريد.. كنز الحجرة 422
خالد الديب | القاهرة
صعوبة بالغة تتملكك عندما تشرع في الكتابة عن الراحل العظيم سامي فريد.. فهل تكتب عن الإنسان الوديع المتعاطف مع البسطاء في حديثه وكتاباته لأنهم ـ كما كنت أقول له ـ يسكنون في وجدانه وخياله؟
أم تكتب عن سامى فريد الأديب صاحب الخيال الخصب والمخرج االمبدع والصحفى الذي يحدثك دائما عن الجديد والمثير وغير التقليدي.. أم المؤرخ الكبير؟
في مطلع التسعينيات من القرن الماضى نشرت تحقيقا صحفيا علي صفحات العزيزة «الأهرام» بعنوان «لافتات الموت» عندما كانت الراحلة القديرة الاستاذة بهيرة مختار ـ رئيسا لقسم التحقيقات الصحفية.. وكان التحقيق باختصار يتصدى إلى ظاهرة لافتات الأطباء والمنشآت الصحية التي تخالف الواقع شكلا ومضمونا.. ودفعني لذلك موت سيدة كانت ضحية هذا الخداع في إحدى مدن الدلتا عندما ادعى زورا وبهتانا أحد الأطباء أنه يعالج الأورام بكفاءة نادرة يتحدث عنها الشرق والغرب والشمال والجنوب.. وكان الراحل العظيم استاذي سامي فريد هو المسئول عن رسم هذه الصفحات بإبداع وفن غير مسبوق.. وكان يقرأ كل موضوع يرسمه قراءة دقيقة ــ هكذا كانت عادته الجميلة ــ وبعد أن انتهي من قراءة التحقيق الذي سلمته له الأستاذة بهيرة مختار قال لي: «عليك أن تستمر في التصدي لهذه الظاهرة».. ورفع سماعة الهاتف وطلب من الأرشيف أكثر من ملف عن صور لافتات الأطباء .. وطال الوقت والأستاذ مستمر في سرد الصور.. وصاح قائلا وجدتها.. نشر التحقيق ومعه الصورة.. وفي صباح اليوم التالى أحتجت الإدارة المختصة بالتراخيص وقالت ـ كالعادة ـ أن الأمور «عال العال» وأن السيدة ماتت قضاء وقدر .. وغاب عنهم أن يدعوا أن السيدة ماتت «بعد أكل طبيخ حامض كما يقولون».. وراحت نقابة الأطباء تتهم تحقيقات «الأهرام» بالكذب.. وتتوعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور .. نشرنا الحلقة الثانية.. والصراع مازال مستمرا .
وبعد أيام كانت المفاجأة.. تلقيت خطابا من وزير الصحة المرحوم الدكتور راغب دويدار يعتذر فيه عن خطأ الوزارة وىأسف لموت المواطنة ويفتح تحقيقا في الموضوع.. ماذا حدث؟
اعتبر الوزير أن الصورة المصاحبة للتحقيق هي ما نقصده من مخالفات.. لأن الراحل قد اختار صورة لكبرى العمارات التي يقطنها كبار الأطباء في باب اللوق.. المهم أن الوزير قال بالنص «بالإشارة إلى العمارة المقصودة.. تم فحص كل العيادات.. وتبين أن 7 عيادات مرخصة و8 جاري استخراج تراخيص لها.. وباقي العيادات أكثر من 40 عيادة دون ترخيص وجاري اتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.
وأسرعت إلى الأستاذ سامي بالخطاب ليسارع وندخل على الأستاذة بهيرة بالخطاب.. وتقول: «إيه الجمال ده».. وأكتب ردا علي نهاية الحملة «بعنوان مخالفات السادة الكبار» وأوضح ما كشف عنه خطاب الوزير.
وبعد أيام يكتب الأديب الكبير يوسف جوهر .. علي صفحات «الأهرام» يذكر ما حدث مشيدا بالأهرام.
وأعود للأستاذ سامي وأقول له اختيارك للصورة سبب النجاح.. يرد في تواضع «هذا شغلك ومجهودك يا خالد».. أنا فعلت جزء من واجبي.. يا خالد الكتابة وخاصة الحملات الصحفية كالحروب. ،لابد لها من توقيت مناسب وسلاح مناسب.
استقبلنا الراحل في بداية المشوار الصحفى وكان له أيادي بيضاء على أغلب أبناء جيلي.. عرفته مبكرا من حسن حظى في مرحلة التدريب.. وكان يمنحني درجا صغيرا في مكتبه أضع فيه أوراقي ومتعلقاتي الخاصة.
ارتبط الراحل بصديق عمره.. وأكرم من قابلنا الراحل إبراهيم الصاوي بطل حرب أكتوبر.. وكان رجل أعمال يفتح دواره في إمبابة ليل نهار للأحباب والأصدقاء.. وتوطدت علاقتى بالصاوى لاكتشف أن أغلب شباب «الأهرام» يعرف إبراهيم الصاوى المحب للبشر…. في مجلس إبراهيم الصاوى تجد صفوة المجتمع من أدباء وشعراء وفنانين ورجال أعمال.. ولا ننسى الحاج علي معتوق.. ملك الموز (زراعة وتجارة) الذي كان ينتظرني لمباراة في الطاولة وسط جمهور من المشجعين لكل طرف.. وللحاج على ـ أمد الله في عمره ومتعه بالصحة ـ عبارة شهيرة نظل نرددها عندما نكون في إمبابة «الموز علينا حق» لينفجر الجميع بالضحك.
كان مكتب سامي يعرف بالحجرة «422» هو الجناح المخصص للسادة المخرجين «قسم السكرتارية الفنية» وكان هذا المكان يضم العباقرة المبدعين مع حفظ الألقاب ـ لمقامهم الرفيع ـ سامي دياب .. سامي فريد.. سمير صبحى.. محمود فايد.. إسماعيل إبراهيم.. فاروق هاشم.
الحجرة منذ الصباح الباكر يتردد عليها عمالقة الأدب والفن.. الدكتورة بنت الشاطئ .. الشاعر الكبير فاروق جويدة.. الدكتور عبدالعزيز شرف.. سناء صليحة.. وآمال بكير.
عرف عن سامي فريد خفة الدم.. دخل زميل ذات يوم يرتدي زيا كله أخضر ـمن فوق لتحت كما يقولون ــ ويسأله الأستاذ سامي دياب «شاري الطقم ده منين» ليرد سامي فريد «الطقم ده مزروع في الغيط».
كان سامي فريد «حساس» إلي درجة كبيرة يحكي لنا ويكاد يبكي عن مشهد رجل من البسطاء في أحد شوارع إمبابة يجلس «يغمس رغيف فينو.. برغيف بلدى» لأن حصيلة الرزق لهذا الرجل اقتصرت على الخبز دون صنف آخر للطعام.
ويحكي بتأثر شديد ما رواه الأستاذ على حمدي الجمال رئيس تحرير «الأهرام» الأسبق عن المكالمة العنيفة من الرئيس السادات احتجاجا على مقال «وجهة نظر» نشرت علي صفحات «الأهرام» لأحد الصحفيين كانت تنتقد السادات.. وحضرت ذات يوم وهو يقول لكاتب المقال عاتبا «مقالك يا أستاذ…… كان سببا في موت الرجل».. وبتأثر شديد يرد كاتب المقال لم أكن أقصد.. لا تذكرني بذلك ياسامى.
أحب سامي فريد التاريخ وعشق القاهرة وشوارعها ورحنا نسير فى قاهرة المعز والقاهرة الخديوية ويحكي لنا قصة الممرات وتاريخها.. «بابيك.. بهلر.. نصبيان.. كوداك.. وعشرات الممرات».. ورحنا نشاهد المكان الذي اختبأ فيه قاتل كليبر.. سليمان الحلبي.. وذهبنا إلى أقدم أسواق المنسوجات في مصر في الأزهر.. والحمزاوي.. وبيبرس .
ارتبط سامي فريد ببعض الأصدقاء «عشرة العمر».. إبراهيم الصاوى .. المطرب الكبير على الحجار .. الفنان سعيد طرابيك.. شاعر العامية شفيق سلوم .. الفنان الملحن منير الوسيمي.. وقائمة طويلة من المشاهير كانت تحج إلي مكتبه بصورة دائمة.
وذهبنا ذات يوم لتأدية واجب العزاء فى منيا القمح.. وفي رحلة العودة اقترحت عليه ان نشاهد بعض الأماكن.. فقال «ماشى يا خالد فرصة جميلة».. رحنا نشاهد في بلبيس مسقط رأس الدكتور مجدي يعقوب.. ومسجد سادات قريش أول مسجد بناه عمرو بن العاص في مصر عام 18 هجرية.. ووقف أمام المسجد الذي تم تجديده في عهد الأمير مصطفى الكاشف.. ثم ذهبنا لنشاهد مسجد أمير الجيوش الذي بني عام 19 هـ ووقفنا كثيرا أمام اسم أمير الجيوش الإسلامية «شريك بن سمي الغطافى المرادي» وظللنا لمدة أيام نبحث وندقق في الاسم .
الخال والد.. نعم هذه حقيقة.. تؤمن بها أكثر مع سامي فريد.. الذي ارتبط بخاله حسين وخاله مصطفى .. وكنا نذهب إلىهم بانتظام حيث تقوم كريمة خاله حسين.. عبير هانم بإعداد الطعام الفاخر.. لأ علق على جودة الطعام بعبارة ظل الأستاذ سامي فريد يرددها كثيرا «أكل لا حل له .. ولا حل معه» لينفجر الأستاذ حسين بالضحك.. ويجلس الأستاذ سامي مع أخواله.. ويستسفر عن أحوال المعارف والمقربين ويحمل بيانات بعض مشاكل وهموم البسطاء من أبناء الظاهر .. وهو يردد يا خالد.. هذا العمل هو ما يمكث في الأرض.
في بداية جريدة «الأهرام المسائي» أسس الراحل صفحة بعنوان «لقاء الأحد« ضمت العديد من المواهب الجديدة وفتحها لكل المبدعين.. وأصبح أغلب من بدأو في هذه الصفحة نجوم حاليا وتقدموا الصفوف.
كان الراحل نموذجا لاستثمار الوقت بجانب عمله الصحفى ومتابعته لصفحات الجريدة.. كان لا يتوقف عن إبداعه خاصة القصة القصيرة التي برع فيها.. لقد كسبته الصحافة وخسره الأدب.. فلو تفرغ للرواية والقصة القصيرة لأصبح له مكانة عالمية.
كان له رؤية في كل المواهب.. تنبأ بمكانة مصرية وعربية لصديقى الغالى المبتهل الكبير منتصر الأكرت وقد كان.. وتنبأ كذلك لصديقى القارئ ياسر الشرقاوى الذي تقدم الصفوف.
لا ينتظر سامي فريد أن يطلب منه شيئا بل يفعل كل شيء يخدم الإبداع والجمال فقد تعرف على الأستاذ الكبير وصديقى الغالى شيخ المبتلهين سعيد حافظ رحمه الله الذي كان يشرفني بزيارته لنا فى «الأهرام» بانتظام وذات مرة فوجئت بالشيخ سعيد يشكر الأستاذ سامي على طلبه من القائمين على الأوبرا بأن تكون حفلات الشيخ سعيد في مسرح الأوبرا بانتظام وفى مواعيد محددة.. وكان يقول : الشيخ سعيد قيمة كبيرة لمصر في عالم الإنشاد والابتهال.. ويطلب ذات مرة من الشيخ سعيد أن يحدد مقابلة لشاب جديد يعمل تحت التدريب في صفحة لقاء الأحد ليجرى معه حوارا ويخص الشاب بحكاية ظهور الشيخ سعيد في مقدمة كورال محمد الحلو وهو يغني «يا حبيبى كان زمان».
وأذكر أول فرحة الأستاذ سامي حفيده مروان.. عندما ذهبنا إلى المستشفى الذي تتم فيه الولادة لكريمته السيد الفاضلة الدكتورة كرمة سامي مدير المركز القومي للترجمة .. وقابلنا صاحب المستشفى الدكتور منير محمد فوزى الحو ابن المطرب الكبير محمد فوزي.. وظل الأستاذ سامي يتحدث في الفن.. ليرد الدكتور منير قائلا: لم أقابل مؤرخا مثلك.. ولقد فاجأتنى بمعلومات وأحداث عن والدي المطرب محمد فوزى لم أكن أعرفها.
وبذكر الطب والأطباء كان الراحل حزينا يوم مرض الأديب الكبير وأستاذه يحيي حقي.. وراح يتواصل ليل نهار مع الطبيب المعالج العلامة بلدياتي وصديقي المرحوم الدكتور إسماعيل خلف أستاذ جراحة الكلي.. وعندما علم الأستاذ سامي أن حالة «صاحب القنديل» في خطر رأيت الحزن على وجهه كما لم أره من قبل وبعد تلقى مكالمة من الدكتور خلف ترك الأستاذ سامي مكتبه وجلس بجواري علي مقعد بالحجرة وظل صامتا حتى موعد المغادرة إلى منزله.
يبقي أن نعزي السيدة الفاضلة الصابرة الأم الغالية زوجته الدكتورة سلوي بهجت الأستاذ السابق بكلية الألسن وكريمته الأديبة الكبيرة والمبدعة الدكتورة كرمة سامى.
أستاذي الغالي.. الرثاء يعني ذكر محاسن من رحل.. وعذرا من أننا لم نذكر عشرات المواقف النبيلة لك.. فصدمة الرحيل كانت كبيرة.. خاصة أنها جاءت بعد يوم واحد من رحيل صديقنا المشترك الذي كان يعد لزيارتك الصحفى والأديب أحمد عادل.. ولكن بالطبع مع سيرتك العطرة سيكون لنا عودة مرات .. ومرات.
ما أصعب فراق الأحباب عندما يتركنا فريسة نندب حظنا.. وننعي أياما مضت.