فضيلة اللسان العربي

الشيخ طاهر العلواني / مصر 

إن اللهَ قيَّضَ لهذا اللسانِ رجالًا كانوا سلَمًا للبيان، وكان البيانُ كأنَّه سلَمٌ لهم؛ أنعمَ عليهم بلسانِ الفصاحة وسبيل البراعة، وقوةِ القرائحِ والأذهانِ، وآتاهم الحكمةَ وفصلَ الخطاب، في زمانٍ كادت عَمَدُ اللسانِ تنقضُّ، وتقومُ على آثارِها دولةُ أذنابِ الأعاجمِ وأخيافِ الطماطمِ، ولم تكن اللُّكنةُ استحكمتْ في زمان استحكامَها في هذا الزمان حتى لم يكنْ بعد ذلك في الفساد غايةٌ، وحتى كان الناسُ يتهالكون في المحاماة لهذا الطريق الآجنِ، وذهبوا كلَّ مذهبٍ في بُنَيَّاتِ تلك المجاهِلِ، فما رغب فيهم أحدٌ إلا بذنب اقترفه وخطيئة كادت تحيط به.

لم يدَعْ هؤلاء الرجالُ شيئا يجوز أن يتعلقَ به متعلِّقٌ، أو يقعَ في نفسِ سامعٍ منه شكٌّ إلا استقصوا الدلائل في الكشف عن بطلانه، حتى نقلوا الناس عن الآجن من الطرق إلى العذب النمير الشافي غليلَ الشارب، ولم يدعوا لباطل المستعجمين عرقا ينبض إلا كوَوه، وأخذوا بالناس عن تلك المجاهل إلى السَّننِ اللاحِب، فما من ذي بصر إلا حسروا الغطاء عن ناظره فأبصر بعد عمى، ونظرَ نظرَ تامِّ العنايةِ بأن يورِدَ ويُصدِرَ عن معرفة، فأخذوا بما هو أملأُ لأيديهم، وأعفُّ لعقولهم عن فواحش تلك اللكنة، وأغضُّ لأبصارهم عن عورات تلك الهُجنة، وأحصنُ لأسماعهم عن فجورِ تلك العُجمة. حتى صار العقلاء يعتذرون إلى عقولهم مما كانوا عليه تلك المدةَ مما لا شيء بعده في الغلط إلا أن نسأل الله العصمةَ من الزلل ونحمده على نقمة يجليها ونعم يديمها ويواليها. فعادتْ إليهم مُنّتُهم، وأمِنوا من النكسِ على علّتهم تلك التي بَعِلَ بها الطبيب، ولم يكن لامرئ به طِرْقٌ من عقل إلا أن يجعل تلك الهُجنة التي تفسد مِزاجَ البدنِ لَفْقًا للعجمة البغيضة وما لأبدان أهلها ما لها مما له تناسب وعجمتَهم.

هؤلاء الرجال – لا أحصر الفضيلة فيهم وإنما هو تنويه بهم وإشادة بذكرهم – أحبهم إليّ الأستاذ الأديب أمير البيان مصطفى بن صادق الرافعي، والأستاذ العلّامة شيخ العربية محمود بن محمد شاكر – رحمهما الله -، والدكتور العلامة شيخ البلاغيين محمد أبو موسى – أطال الله بقاءه في طاعته -.

لقد أُدِيْلوا من العجمة الفاحشة باللسان العربي المبين، والطريق الصحيح الذي نهجته الأعراب وطرَّقتْ له، ثم سارت عليه أمّةُ البيان، فعفت آثار تلك العجمية والحبسة التي هي أخص خصائصها، والهُجنة المقيتة التي هي أفضل فضائلها، واللكنة التي هي أعلى مزيّة تختص بذلك اللسان المقطوع البذر والزرع الخبيث الأصل والفرع، الذي ترى الكلام مقلوبا من جهته، منزوعا عن صورته، ينبو لفظه عن معناه، ويأبى الطبع أن يرضاه، وتستشنع الضريبة مؤدّاه.

أما الحديث عن فضيلة اللسان العربي ففضيلتُه أظهرُ من أن تخفى على من به مِسكَةٌ من عقل، وصلادة من طبع، وإنّ الفروق التي يستند إليها اللسان في إثبات الفضيلة لا ينابذه فيها لسان إلا بزّه لساننا، ولا شادّه فيها إلا غلبه. ولكن يتفاوت الناس في العلم بمواضع تلك الفروق والوجوه التي وجبت بها الفضيلة، ثم العلمِ بما ينبغي أن يكون عليه الكلام من حيث كانت تلك المزية حاصلة فيه ومنبئة عن طرائقه ومبانيه، وكانت لا تشفي العلّة حتى يكون المتكلم بها على بصيرة بمآخذ العرب فيها ما سارت عليه في كلامها، حتى لحق بأهل السليقة في إحكام اللفظ وتأليفه، وإيضاح المعنى وترصيفه، وحسن نظمه وتركيبِه، وجودة سبكه وتهذيبِه. حتى تجد منه الديباجة الكريمة لها ماء ورونق، حتى يقف لها على معنى ربما خفي على كثير من أهلها. كبيت بشار:

كأنّ مثارَ النقع فوق رؤسنا**وأسيافَنا ليل تهاوى كواكبه.

وبيت البحتري:

عريقون في الإفضال يؤتنفُ الندى**لناشئهم من حيث يؤتنفُ العُمْرُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى