عندما يسافر محمد عبداللّه البريكي بأشرعة المعنى في البحر

بقلم: عبد العزيز الهمّامي
تعزّزت مؤخّرا المكتبة العربيّة بديوان جديد للشّاعر الإماراتي الكبير محمّد عبداللّه البريكي صادر عن دار موزاييك للدّراسات والنّشر بعنوان/رغيف ساخن للبحر/ وقد رأى هذا المولود النّور بعد سلسلة من الاصدارات والأعمال الشّعريّة والأدبية للشّاعر ترجمت ذاته المتوهّجة والمسكونة بالعطاء المتفرّد والابداع الجميل وما تزال تترك أبلغ الأثر لدى عشّاق القريض وفي الذّائقة الجماعيّة وهي أعمال سخيّة وحمّالة لرسائل إنسانيّة وكونيّة راقية في مضامينها وأبعادها ظلّ يفاجأنا بها الشّاعرمن حين الى اَخر ويجرّنا الحرص الى البحث عنها وقراءتها حيث ينهمر رذاذها في القلب والذّاكرة بردا وسلاما.
وقبل أن نتناول في هذا المقال العلاقة الرّوحيّة القائمة بين الشّاعر والبحر ينبغي التّذكير بأنّ محمّد عبد اللّه البريكي استطاع خلال مسيرته الطّموحة والمتوثّبة أن ينحت تجربته الشّعريّة بشكل جيّد وأن ينهل من تراثنا وموروثنا الثّقافي ومن هويتنا وأن يسلك الطّريق الذي يجمع بين الأصالة والحداثة من أجل انتاج خطاب شعري مفتوح و منخرط في حياتنا الأليفة فحملت نصوصه ما جادت به موهبته الثّريّة وما نطقت به قريحته الوارفة وهي تعزف ايحاءها على أوتار ساحرة من الجمال والبهاء.
لقد تحوّل شاعرنا في تقديري اليوم الى ظاهرة شعريّة عربيّة لافتة جديرة باستجلاء ما في طيّاتها من جواهر مخبوءة لا يدرك أسرارها الاّ الّذي غاص في أعماقها ودخل تضاريسها ومنعطفاتها وأبحر في عوالمها المدهشة.
ومن هذا المنطلق ندرك أنّ البريكي وفيٌّ لقصيدة الشّطرين فهي سراجه في الحياة ودليله في الكتابة عندما يضع قلبه على شفتيه ويسافر في ماء القصيدة بأشرعة من ضوء وهو قنّاص ماهر للصّورة الشّعريّة المبتكرة الّتي يحلّق بها عاليا ويطير على متنها نحو الأقاصي حيثما يشاء وبروح شاعرة وممتلئة بما تحمله من مجازات واستعارات وانزياح وتناص الى غير ذلك من أدوات الكتابة الشّعريّة .
لذلك ظلّ البريكي في مساره هذا فارسا بارعا يمتطي صهوة الشّعر بنوعيه الفصيح والنّبطي ويقف بثبات على شرفة الابداع ممتشقا لغته البديعة كما لو أنّ الكلمات والمفردات والمعاني هي حضنُه الدّافئ وجزء لا يتجزّأ من طباعه ووجوده .
وكلّما قرأت روائعه إلاّ وحسبت أنّ الكلمات تنضج على يديه وتثمر وتصبح المفردات ورودا والمعاني أنجما وتينع القوافي كالسنابل في أشعاره وأحيانا تكون مزخرفة بنكهتها الصّوفية أو بقميصها الفنّي البديع.
أمّا عن ديوانه الجديد فهو على ضوء عنوانه يشكّل تلك الروابط الحميميّة التي تضع شاعرنا في مصافحة دائمة مع البحر قد تكون عادت بنا الى سنوات مضت حين صدر لشاعرنا ديوان/ بدأت مع البحر/ حيث أدركنا حينئذ حوار الشّاعر مع الماء الذي يعني الحياة وعلاقته بالبحر الذي يبدو أحيانا كريما بما فيه من خيرات وكنوز وأحيانا وحشا كاسرا يلتهم كل من يقع بين مخالبه بيد أنّ شاعرنا اَنس جمال البحر وراقت له الأسفار فيه وهذه قصائده تدخل مياه البحر دون استئذان وتعلو فوق أمواجه لبلوغ الأهداف المنشودة ولعلّ هذا يذكّرنا بالقصيدة الشّهيرة نخلة العشّاق التي كتبها شاعرنا الكبير محمّد عبد الله البريكي عن قرطاج في أحد زياراته الى تونس والتي يقول فيها:
قَرْطَاجُ جِئْتُكِ مِنْ بَحْرِ الخَلِيجِ فَتًى
يُصَارِعُ المَوْجَ كَيْ يَبْنِي لَهُ وَتَدَا
وهكذا كانت وشائج العشق عميقة وممتدّة بين الشّاعر وبحره قويّة برمزيتها هادفة بوظائفها وهي أمر بديهي في ظاهره يعكس علاقة الشّعر بالطبيعة ولكنّ ذلك يتجاوز المفهوم العادي الى رؤية شعرية حديثة أكثر عمقا وإضافة.




