المكافأة
حسان علي | سورية
تمضي به الأيام كسلحفاة عجوز، لا جديد تحت شمس حياته الرتيبة، المملة ولا شيء يضيء نفسه الغارقة في أتون الظلام، كل شيء رتيب حيث العمل المقيت الذي اعتاد عليه طوال سنوات عمره حيث يجلس منكباَ على كومة من الأوراق الصفر المهترئة يقلّبها بين يديه فيما ذهنه شارد يفكر بمقدار التعويض الإضافي الذي يصرف له بالتقسيط على أربع دفعات طوال عمله في السنة، يرن جرس هاتفه مرة كل ثلاثة أشهر على أبعد تقدير، يفرك يديه التي أصابها الخدر بفعل التصاق القلم بين أصابعه، يتناول بضع وريقات نقدية من المحاسب الذي كشّر عن فمه لتظهر أسنانه الصفر، هامساَ له:
انبسط يا عم هذه المرة المبلغ محرز، مضيفاَ بنبرة صوته الأجش:
بتقول الراتب لا يكفي، هذه المرة لم يعد لديك حجة ولا داعي للشكوى والتذمر، انبسط وكشكش نفسك..
وفيما كان يتأمل مبلغ المكافأة وإذا بصوت زوجته يأتيه صارخاً لا تنس ما أوصيتك به، الأولاد ينتظرون أن تأتيهم بالأغراض، إذاَ هي زوجته بصوتها الجهوري التي اعتادت أن تنام بملابس المطبخ حيث رائحة البصل تفوح منها .
لا يعرف الآن كيف ذهبت به الذكرى إلى أيام الخطوبة بلحظاتها الدافئة، هاهو الآن يتذكر همساتها الرقيقة وإطلالة وجهها البريء، لم يكن يعرفها قبل الزواج بها إلا من خلال الصدفة التي جمعت بينهما ذات مرة، آه كم تغيرت الأيام وتبدلت به الأحوال لقد أصبحت سيدة البيت بلا منازع مع ثلاثة أولاد يرهقون كاهله ولا شيء غير ذلك، ما ان رزق بابنه البكر ” محمد ” حتى ازدادت أعباء معيشته وأصبح لا يفكر بشيء سوى تأمين حياته وزيادة دخله.
ها هي الأيام تمضي به والأولاد يكبرون ومنافذ حياته تغلق عليه شيئاَ فشيئاَ، فكر مرات كثيرة في حزم أشيائه والسفر إلى بلد مجاور بعد أن حصل على إجازة بلا راتب، جهّز أوراق السفر، حدد الموعد انخفضت نبرة صوت زوجته وأصبحت الابتسامة لا تفارق ثغرها وراحت تصغي إليه بكل جوارحها في حين رائحة الثوم والبصل لم يعد لها مكان في غرفة نومه حتى ان الأولاد بدؤوا بكتابة قائمة طويلة من الحاجيات والمستلزمات .
أيام قليلة ويمضي حيث ستفتح أبواب الرزق أمامه إلا أن صوت المحاسب أيقظه من شروده حين طلب إليه الإسراع بالتوقيع على الكشف المالي كونه للتو قبض تعويض بدل الأعمال الإضافية وبالكاد جرّ القلم بين أصابعه الثقيلة ليضع وسمه على الجدول حتى باغته عامل البوفيه “أبو معروف” الذي كان يقوم بعملية الإحماء ليديه القابضتين على دفتر الديون مطالباَ إياه بدفع ما ترتب عليه ثمناَ لكاسات الشاي وفناجين القهوة بعد أن تلاعب كعادته بالمبلغ المستحق عليه دفعه، المهم سدد “أبو محمد” ما عليه تجاه عامل البوفيه وكان قد استرد صحوته في تلك الأثناء إذ لم يكن هناك سفر ولا هم يحزنون وإنما هي تداعيات تسكن روحه المتعبة من جراء أحواله المعيشية الصعبة، حاول من جديد أن يمضي في حلمه إلا أن رنين الهاتف هذه المرة أيقظه من صحوته تلك، جاءه صوت بنبرة مرتفعة وحادة هل أنهيت الأضابير فالمدير أقام الدنيا ولم يقعدها وهو بانتظار توقيعها، صرخ في جوفه لحظات وتكون الأضابير جاهزة بين يديه.